صفحات الناس

اسمي شمس/ وائل عبد الحميد

 

 

(1)

اسمي شمس، وعمري خمس عشرة سنة، أكره اسمي جداً، ولا أعرفُ لماذا قرَّرَ أهلي أن يسمّوني على اسم جدي عكس المعتاد، إذ أنني الابن الأصغر في العائلة ولستُ الأكبر.

في الحقيقة اسم جدي شمس الدين وليس شمس، واسمي على الهوية وفي بطاقة الميلاد مطابقٌ لاسم جدي، لكنني لا أعُرِّفُ عن نفسي في غالب الأحيان إلا بشمس. ولو خُيِّرتُ بين شمس الدين وشمس، سأختارُ الأول، لكنني اعتبر أن معنى الاسم مسؤوليةٌ لا أقدر عليها، لذلك أفضِّل أن يناديني الناس بشمس فقط. يعفيني ذلك على الأقل من مسؤولية المعنى، مع أنه لا يعفيني من القلق.

أنا محاصرٌ بكلا الاسمين؛ الكامل يحمّلني مسؤوليةً والمُصغَّرُ تقلقني رمزيته، عدا عن أن معظم الناس يعتبرونه مناسباً لفتاة أكثر منه لصبي، خصوصاً في مدرستي الابتدائية التي دخلتها منذ سبع أو ثماني سنين. سبَّبَ لي هذا الأمر كثيراً من الألم، أما الآن فلا، القلقُ وحده ما يؤرقني مع اسمي؛ فالشمس تنشر النور ولا تستمده من مكان آخر، وأنا لا أنشر نوراً لكنني أبحث عنه، وأقترِبُ منه كلما رأيته في الأفق، لكنه يبتعد، أقترِبُ فيبتعدُ أكثر، حتى يتلاشى.

(2)

أنا شمس، عمري الآن عشرون سنة، أعيش في مدينة حمص، وأعمل في محل صيانة كومبيوتر. أعتبره عملاً مؤقتاً بانتظار خدمة العلم أو الهجرة، ولا أعتقدُ أنه العمل الذي سأمارسه بقية حياتي. لا أستطيعُ حالياً أن أفكر بأي عملٍ آخر، من يملك ترف التفكير بمستقبل ليس ملكه؟!

محاصرٌ بين خيارين اثنين، مُكبّلٌ منذ هذه اللحظة وحتى أجد قراري. خيار الهجرة يعني الهروب ويعني ترك البلد والأهل، لذلك قرَّرتُ أن أنال الشرف «الإجباري» في خدمة علم البلد.

اتخذتُ القرار أخيراً، لكنني قرَّرتُ أيضاً أن أكسر حاجز إجباريتهم ولو بشكلٍ رمزيّ، قرَّرتُ أن أحلق شعري على الصفر قبل أن يفعلوا هم ذلك، لن أتركَ لهم المجال أن يمسكوا رأسي منذ البداية.

(3)

مضى وقت طويل على خدمتي الإلزامية، أنا الشمس التي لم تتخلص من سجن خدمة العلم، عمري ثلاث وعشرون سنة الآن، لم أبدأ عملاً جديداً أبني به مستقبلي كما كنتُ أخطط. قرروا الاحتفاظ بنا، الثورة بدأت في البلاد منذ سنة ويجب أن تُطفأ، ونحن العسكر وقود النظام لإطفائها.

أنا الآن محاصرٌ من جديد، لستُ محاصراً باسمي هذه المرة، لكنني محاصرٌ بخيارين متاحين أمامي فقط، إما الانشقاق، أو البقاء والعمل للثورة من موقعي البسيط. الخيار الثالث الذي يظن البعض أنه موجود، وهو محاربة «العصابات الإرهابية» لم أكترث بهِ. محاربةُ الأهل ليست خياراً.

استطعتُ تهريب بعض الذخيرة لإحدى الكتائب الصغيرة في غوطة دمشق، بالاتفاق مع عسكري شامي، بحكم عملي كأمين لمستودع الذخيرة في القطعة التي أخدم فيها. لم تكن الذخيرة التي استطعنا تهريبها كبيرة، لكنها باعتقادي كانت مؤثرةً. الذين يحملون السلاح في هذه الأيام للدفاع عن المظاهرات قلّة، والثائر يحتاج حتى إلى طلقةٍ واحدة.

عندي حرصٌ كبيرٌ على ألّا يُكشف أمري، لكنه بالنهاية كُشِف. الاندفاع يعمي الأعين، وهذا ما حدث. تم القبض على صديقي الشامي، وتم الكشف على المستودع واكتُشِفَ النقص. أقاموا تحقيقاً داخلياً في القطعة العسكرية، حاولتُ أن أبرِّرَ النقص، لكنه كان تبريراً سخيفاً لا يرضى به العقل، خصوصاً إذا كان صادراً عن شخصٍ مدينتُهُ وأهلها جميعهم يصرخون عالياً في وجه النظام. الثمن كان مضاعفاً.

(4)

اسمي شمس، وأنا الآن في سجن تدمر الرهيب. شعورٌ متناقضٌ أشعر به وأنا على باب السجن؛ فَزَعٌ من السجن واسمه الذي أوغر في قلوب السوريين ألمّاً لا يمحى، وأملٌ بالعلاج من الدمامل التي غطت جسدي كاملاً في فرع الشرطة العسكرية وبعده فرع الأمن العسكري في حلب، حتى أصبحت ثيابي ملتصقة بجسدي تماماً. قَشَّرتُها مع جلدي في التفتيش الذي يخضع له الجميع عراةً تماماً، أنا كنتُ عارياً من ثيابي ومن جلدي.

لم أتعرَّض إلا لضرب خفيف لا يقارن بما حدث لي في الشرطة العسكرية والأمن العسكري، لكن التعذيب النفسي كان أكبر وأنا أرى الناس تُجلَدُ أمامي في طريقي إلى داخل السجن.

ربما لم أتعرّض للتعذيب مجدداً بسبب قرف السجان من جسدٍ مغطى بالقيح… ربما!

خضعتُ لفحص طبي، وطبيبُ السجن قرَّرَ أن أُعزَلَ في منفردة حتى أُشفى. اثنا عشر يوماً مرّت قبل أن يتمّ فرزي إلى المهجع رقم 17، الواقع ضمن الباحة الثالثة. السجن مقسّمٌ إلى باحات، وكل باحة منها مخصصة لنوع من الجرائم، وهي بدورها مقسمة إلى مهاجع.

شعرتُ براحة نفسية كبيرة عندما علمتُ من المساجين أنني في مهجع يُقال له «مهجع الجرائم المختلفة»، وهي بعرف سجن تدمر جُنَح، لكنها جُنَحٌ غير مقوننة، إلا إذا كان للأفرع الأمنية قوانين خاصة لا يعرف بها أحد.

استقبلني في المهجع شخصٌ يُقال له «الأساسي»، وهو مدير المهجع، سجينٌ قديمٌ يُعيَّنُ من قبل الضابط. لم أنم ليلتي الأولى هناك، ولم أفكّر بأي شيء أيضاً، عقلي كان يسبح في هلام.

المهاجع ضمن الباحة الواحدة مفتوحةُ الأبواب، لكن التنقُّلَ بينها ممنوع إلّا لمن له صفة في السجن كـ «الأساسي»، و«المدخل» الذي يقف عند باب كل باحة، و«البُخشي» المسؤول عن دورات المياه.

مع مغيب كل شمس يُتلى علينا قانون تدمر، القانون الذي يخبروننا من خلاله بما هو ممنوع؛ ممنوع الاتكاء على الحائط، ممنوع استخدام غطاء واحد من قبل شخصين، ممنوع «اللواطة»، ممنوع النوم على الظهر، ممنوع مدّ القدمين، ممنوع الكلام، ممنوع السهر.

فكَّرتُ لو أنه يُتلى علينا ما هو المسموح فعله، لكانت الحياة أسهل في هذا السجن، وهي مع ذلك أسهل مما كان متوقعاً، مما كنتُ أظنُّ عندما دخلت باب هذا السجن على الأقل. عرفتُ أخيراً أن سجن تدمر الرهيب مختلفٌ عن هذا السجن، هو سجنٌ آخر لا يجمع بينه وبين الذي أنا فيه الآن إلّا الاسم. زادت معرفةُ ذلك حالتي سوءاً بدلَ أن تترك فيَّ ارتياحاً، فالسجن الذي أنا فيه إذن للفاشلين، الذين لم يقوموا بعمل شيء مؤثر يشكل صفعة للنظام، لقد فشلت… أنا فاشل.

(5)

الزيارات مسموحة، لكن لا أحد يزورني. أعرفُ أن ما حصل معي لم يترك مجالاً لأهلي لتعقب أثري. يسألون عني دون شكّ، لكنني شككتُ في الأمر. أرسلتُ لهم أخباراً عن طريق الزيارات التي تأتي لرفاق السجن، لم أجد نتيجة، لا أحد يزورني حتى الآن، من المستحيل أنهم لم يعرفوا بوجودي هنا، بالتأكيد خافوا زيارتي، تخلّوا عني، أشعرُ بألم كبير، أشعرُ بالوحدة والفقد، أرسلتُ لهم خبراً أخيراً وعاهدتُ نفسي أن أنساهم بعد ذلك: «إذا بتتذكروا أنو إلكم ابن فهو لسا عايش».

اكتشفتُ أنه لم يصلهم أي خبر للآن، تأكدتُ من الأمر عندما رأيتُ أخي على باب السجن ينتظرني وقد تحصَّلَ لي على إخلاء سبيل بعد وساطات كبيرة ومبالغ أكبر. تمعّنتُ في وجهه كثيراً، في وجوه أهل تدمر، في البيوت وحركة السيارات والدراجات النارية الكثيرة في شوارع هذه المدينة، حصلت على إخلاء سبيل وإجازة لمدة 48 ساعة حتى ألتحقَ بالخدمة العسكرية من جديد. لا أعرفُ نتيجة حكمي لأنني لم أُحاكم أساساً، استمعوا لأقوالي فقط، والأموالُ التي دفعها أهلي تكفلت بالباقي.

الإجازة في جيب بنطالي الأيسر، والمسبحة التي صنعتُها لأمي خلال فترة السجن في جيبي الأيمن، تفقدتُها جيداً قبل أن أصعد الباص نحو حمص.

(6)

استعطتُ الوصول إلى حي الوعر، أصبح عمري 25 سنة، وأنا الآن في العام 2013. اخترتُ الوعر لأنني لم أستطع الدخول إلى حمص القديمة بعد أن أصبحت محاصرةً تماماً، والطريق الأخير المفتوح من الوعر إليها أصبح مغلقاً. ولم أنتقل إلى أرياف حمص أيضاً، نصحوني بذلك، الأرياف لأهلها، ولديهم ريبة من العسكري، ولو كان منشقاً. الوعر كان الخيار الأنسب لأعيد التفكير بما يجب أن يكون، وأكونه.

(7)

أنا شمس، وعمري 29 سنة، أصبحتُ على أبواب الثلاثينات. لم أتوقع أن أبقى في الوعر كل هذه المدة، لم أتوقع الحصار، لم أتوقع أن أُحاصر من جديد، كان الوعر بالنسبة لي مكاناً مناسباً للتفكير حتى أجد خياراتي. حاصروني من جديد، حاصروني كليّاً هذه المرة، سجنوني لكن هذا السجن كان أكبر قليلاً، فيه بضع شوارع والكثير الكثير من القناصين المطلّين عليها. لم يتركوا لي أي خيار سوى الانتظار، انتظار معجزةٍ ما، تمنحني أكثر من خيار.

أربع سنوات تقريباً في الوعر، حملتُ فيها السلاح، شاركتُ في معركتي الوعر الأساسيتين، معركة البساتين الأولى والبساتين الثانية. لم تؤتِ المعركتان ثمارهما المأمولة، خصوصاً الثانية التي كانت تهدف لفتح الطريق إلى حمص القديمة. فشلنا، ما جدوى السلاح الآن؟

اكتشفتُ أن الهدف في الوعر لم يكن تحرير منطقة، أو تحرير سجنٍ ما وإخراج المساجين منه، كما كنت أحلمُ أن يحصل وأنا في فرع الأمن العسكري في حلب أو سجن تدمر. الأمر قائمٌ على حماية منطقة، أكثر من أي شيء آخر.

في إحدى نوبات الحرس، أرسلَت لي أختي صور عُرسها. ستُزَّفُ إلى بيتها الجديد، إلى عريسها. اعتبرتُ يومها أن البارودة هي من أبعدتني عنها في تلك الليلة، تركتُ البارودة منذ ذلك اليوم، وبقيتُ أنتظر، أنتظر الخروج من الحصار إلى الحرية.

(8)

أنا شمس، أعيش حالياً في معمل للأخشاب، أعمل 12 ساعة في اليوم، أنام في المعمل نفسه، فلا بيوت قريبة منه، وأقربُ قرية تبعد مسافة 10 دقائق بالسيارة، تابعة لمدينة أنقرة التركية.

وصلتُ إلى تركيا منذ أشهر قليلة، خرجتُ من الوعر في نيسان 2017، بعد إخلاء الحي من سكانه وتهجيرهم. لم أنتظر كثيراً في إدلب، بعد يوم واحد من الوصول إليها، جربتُ الدخول إلى تركيا عبر طرق التهريب. نجحتُ في المرة الأولى، وتوهمتُ وقتها أنني سأطوي صفحةً وأفتح أخرى جديدة، أبدأُ فيها حياة حقيقية. حاولتُ السفر إلى أوروبا لكنني لم أستطع، بحثتُ عن عمل في مدينتيّ أنطاكيا واسطنبول، عملٍ يتيح لي حياة آدمية طبيعية دون أي استغلال، لكنني لم أجد إلا هذا العمل.

عملٌ يذكرني بالخدمة العسكرية والسجن والحصار، كلُّ شيءٍ هنا يذكّرني بذلك، مواعيد الأكل المحددة، طريقة تقديم الطعام، المساحةُ الضيقة التي أعيش فيها، رتابةُ الحياة، وانعدامُ الأفق.

خلال الخروج من حي الوعر المحاصر، وأنا في الباص الأخضر، كنتُ أتخيّلُ ضوءاً ما في الأفق، أراه يقترب ويقترب، وأنا أقربُ إليه أكثر من أي وقت مضى. لم يعد شيءٌ يحاصرني الآن، لا الخدمة الإلزامية ولا المعتقل ولا السجن ولا الحصار.

لكن أنا شمس، وليس لي من اسمي نصيب، ولا أنشرُ نوراً، لكنني سأبقى أبحثُ عنه، سأبقى أنتظر أن أستمدّه ولو نهاراً واحداً فقط، نهاراً أكون قد وصلتُ فيه إلى كل ما يُرتجى من هذه الحياة؛ الحبّ والحرية.

موقع الجمهورية

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى