صفحات مميزة

اشتم نظام دمشق رائحة كريهة وإذا بها «حرب أهلية»


حازم الأمين

اشتمت السلطات السورية «رائــــحة كريهـــة» خـــلف وصـــف دول أوروبيـــة ما يجـــري بأنه «حرب أهلية»! لـــعل في الأمر ما يبـــعث على الذهول، فهل حقاً أُصيب النــظام في ســـورية بــهذا الوصــف الذي لا يرغب في أن تُوصف به الوقــائع الدامية هناك؟

الغريب أن النظام لا يريد حقاً أن تُوصف الوقائع الدامية بأنها «حرب أهلية» على رغم مواظبته على الدفع باتجاه اشتعال هذه الحرب! إنها حرب أهلية في الحدود التي يخدم فيها هذا التعريف الوظيفة التي أناطها بها النظام، لكنها ليست حرباً أهلية إذا أراد المجتمع الدولي معاملة سورية الدولة والأجهزة على أساس أنها طرف في حرب أهلية. وكم يبدو تطلب النظام في دمشق ضيقاً حيال هذه المعادلة: إنها حرب أهلية تهدد وجود الأقليات وتأتي بالإسلاميين وتثير قلق إسرائيل على أمنها، لكنها ليست حرباً أهلية مهددة لنفوذ النظام والعائلة والحزب. إذاً، تحفّظ دمشق عن هذا الوصف هو تحفّظ عما قصده الغرب من ورائها، أي كونها مهددة لنفوذه، فيما كانت مهمتها طوال العقود الفائتة تكريس هذا النفوذ.

الوظيفة المنــــوطة بـ «الحرب الأهلية» على نحو ما يشتهيها النظام، هي قيمة خرساء وصامتة، وهي امتداد لخطاب الخوف الخفيض الذي أبدعه «البـــعث» على مدى عــــقود حكمه الخمسة. إنها ذلك الشيء الذي يقيم عليه السوريون من دون أن يتداولوه. يمــــكن رصده في عــــيونهم وفي خوفهم وفي صمتهم، لكنه ليس مادة لتفكيرهم وللبحـــــث عنه في أوجه حياتــهم. وعـــلى هذا النحــــو تم إخضاعهم: ذاك أنهم ومنعاً لاندلاع الحرب الأهلـــية، راكــموا في نفــــوسهــم طبقات هائلة من الحروب الأهلية، أدخلوها في وجدانهم بصفتــها شيطــانهم النـــائم الذي يجــب عـدم إيقاظه.

لنتخيل مثلاً موقع مجزرة حماة في 1982، في الوجدان الجمعي السوري. إنها الواقعة المسكوت عنها في الروايات السورية الكبرى والصغرى. ثلاثون عاماً من الصمت، ومن الحرب الأهلية المشتعلة في النفوس لا في ميـــادين الـــحروب. ثلاثون عامــاً وأم حموية تبكي زوجها القتيل بعيداً من انظار أبنائها. العنف الذي ينطوي عليه البكاء الصامت قد يفوق العنف الذي قضى به الزوج، وهو تماماً ما أراده النــــظام عندما دفع الناس إلى الصمت، إذ إنه يعرف أن الزوجة تبكي زوجها في السر، وأن أولادها يعيشون حداداً ويسمعون صوت بكاء أقرب إلى الاختناق. وهو لم يعاقبهم على حزنهم، لكنه سيعاقبهم إذا قرروا إنهاء حدادهم والمباشرة بالتفكير في ما يعقبه. هنا تماماً تكمن قوة النظام: إنها في الخوف المتواصل منه.

النظام عندما هاله وصف المجتمع الدولي ما يجري في سورية بأنه «حرب أهلية»، شعر بأن الخوف خرج من النفوس وصار في متناول الناس. صار الخوف موتاً، لكنه فقد قدرته الإخضاعية. هذا ما يجري تماماً اليوم في المدن السورية. في السابق كانت الحياة ملازمة للخوف، واليوم تعايشت الحرية مع احتمال الموت. في الحالة الأولى لا أمل بأن تخرج سورية من أفق الخوف، وفي الحالة الثانية الأمل كبير بأن بعد الموت حياة. وفي هذا نفي لأبدية الخوف عبر الموت الموقت والعابر. أبدية الخوف المعبر عنها في الجملة الأثيرة: «قائدنا إلى الأبد» التي لازمت اسم «الرئيس الأب» حافظ الأسد.

لا تفسير سياسياً لرد فعل النظام على وصف المجتمع الدولي ما يجري في سورية بأنه «حرب أهلية»، إذ من المفترض أن يكون سعيداً بالنتائج التي حققها، وبهذا المعنى فهو أصدر رد فعل غير واع مركزه شعوره بأن الحرب الأهلية التي أسكنها في وجدان السوريين طوال عقود حكمه، هي الآن أمام ناظريهم، يدققون في مدى حقيقتها ويقررون ما إذا كانوا سيخوضونها أم لا. ثم إن ذاك الشيطان النائم في النفوس صار الآن خارجهم يعاينونه ويتحسسونه، ولم يعد قدراً غامضاً لا فكاك منه ولا مناص.

«الحرب الأهلية» التي أثارت حفيظة الخارجية السورية، هي اقتتال تفاعلي، وهي مفاوضة ومقايضة ومصالح جماعات ومدن وبوادٍ، فيما «الحرب الأهلية» التي أنشأها النظام منذ وصوله إلى السلطة هي قتل صامت وغير تبادلي، يمارسه النظام ويمارسه الحزب، السوريون فيه طرف متلقٍ ومخيّر بين الخوف أو الموت. من لم يخف من السوريين طوال العقود الخمسة من حكم «البعث» لم يكن أمامه من خيار إلا الموت. الخوف أو الموت.

في الحالين الحرب بشعة، والسوريون مخيّرون اليوم بين قتامتين، والنظام الذي هالته «الحرب الأهلية»، ها هو يدفع باتجاهها على نحو لا تخطئه عين. إنها خياره الوحيد لتفادي السقوط المباشر. وهو يرى أن سورية إذا سقطت كلها فإن في ذلك أملاً بأن يكون هو جزءاً من الركام لا كل الركام. لكن في ذلك أيضاً مقداراً من الهذيان، فالحرب ستعقبها مرحلة هي ليست بالضرورة سلماً لكنها لن تكون بعثاً، والمصالح الإقليمية المنعقدة حول سورية قد تساعد في صمود النظام، لكنها أيضاً ستساعد حكماً في تماسك سورية بعد انهياره.

لعل في قول الــــــغـرب إنها «حرب أهـــلية» استــجابة لما يـــطرب له النظام، لكن «الحرب الأهلية» المُلوّح بها هي استئناف لمـــا بدأه منذ أربعة عقود، كان فيها الطرف الوحيد في معادلة العـــنف. انتقل العنف اليوم ليصير تبادلياً، وعلى رغم ذلك، لدى سورية الآن فرصة لتفادي «الحرب الأهلية» بينما لم تكن طوال مرحلة العقود الخمسة تملك هذه الفرصة. فما يوصف بأنه «حرب أهلية» اليوم لا يبدو مكتملاً، فالحرب كي تُخاض تحتاج أطرافاً، وما يجري اليوم في سورية لا يملك هذا الشرط، ثم إن صورة الانقسام لا تنبئ بتكافؤ. النظام حتى الآن متفوق عسكرياً والمعارضة متفوقة شعبياً، وهذا ليس خط انقسام أهلي.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى