صفحات الناس

اعترافات عراقي شيعي يقاتل في سوريا/ فاضل النشمي

بغداد

المكان: محافظة حلب

الزمان: ظهيرة يوم من شهر كانون الثاني

الموضوع: مكالمة هاتفية بين مقاتلين

العراقي: يا… (شتائم)، أتكلم معك هل تسمع؟

السوري: أنا أسمعك تفضّل.

العراقي: في دمشق قضينا عليكم وجئنا لكم في حلب. دخلنا أربعة ألوية، كل لواء 500 نفر، وسنقضي عليكم في حلب أيضاً، ونعود الى العراق لنقضي عليكم هناك!

السوري: نحن من الشام وسنقيم، إن شاء الله، دولة الاسلام، فلماذا أنتم هنا؟

العراقي: إن الله خلقنا للقضاء عليكم!

السوري: ان تمكنتم فاقضوا علينا، الله معنا، فمَن معكم؟

العراقي: (يضحك باستهزاء)، الله معك؟! هههههههههه، الله ومحمد وعلي والحسين جميعهم معنا.

السوري: ما هو دليلك؟ ما الذي أتى بك الى هنا، الى أين أنت ذاهب؟

العراقي: أنا أقاتل أمثالك الذين قاتلوا الإمام الحسين، الخوارج الخونة!

السوري: الحسين قتله أهل النجف الشيعة الروافض!

من هو أبو شهيد؟

من مكانين متقاربين، جرت هذه المحادثة في كانون الثاني الماضي بين مقاتلَين: العراقي “أبو شهيد”، هذا اسمه الحركي، المنتمي إلى جماعة شيعية مقاتلة في سوريا، والسوري المنتمي الى “جبهة النصرة”.

واضح أن المقاتِلَين مشبّعان بفكرة “الوحدة والطهارة المطلقة” ومسلّحين بقوة “أفكار مقدسة” تشحذ فيهما روح الانتقام والحماسة والتضحية، وتدفع كلاًّ منهما لإفناء الآخر المختلف وإزاحته عن الوجود، بغبطة كبيرة. في المكالمة الكثير من الحمولات والدلالات التاريخية والدينية المتوارثة بين المسلمين، نسعى من خلال محاورتنا المقاتل العراقي “أبو شهيد”، إلقاء الضوء على بعض جوانبها.

لا يبدو أن ما يقوله “أبو شهيد” الجالس قبالتي باسترخاء واضح، وهو ينفث دخان أركيلته، خارج مألوف السياق الطائفي الذي تختبره المنطقة العربية. لكنه بكل تأكيد يبدو غريباً ومتقاطعاً تماماً مع سياق الحركات الجهادية التي انطلقت مطلع القرن الماضي، سواء في العراق أو في سوريا. فالعراقيون مثلاً، والشيعة خصوصاً، لم يمض مركب جهادهم خلف راية طائفية في تاريخهم الحديث، ومثلهم السوريون. كانت راية “الجهاد” التي رفعتها مرجعية النجف مطلع القرن الماضي ضد الاحتلال الانكليزي للعراق (1914)، اسلامية وطنية خالصة، على رغم خضوع العراق حينذاك، للسلطنة العثمانية “السنية”. حوار المقاتلَينِ يكشف عن حجم التحولات الخطيرة التي مرت بها المنطقة العربية، وفي مقدمتها الانحسار الخطير للولاءات الوطنية والقومية والاسلامية لصالح ولاءات طائفية ضيقة.

ولد “أبو شهيد” في مدينة الصدر ببغداد عام 1985، لأسرة مهاجرة من جنوب العراق. هذا يعني أن أباه كان في هذا التاريخ جندياً يقاتل الايرانيين في حرب الثماني سنوات! يعني كذلك أنه من جيل لم يختبر المسرات والمتع مطلقاً، بل من أجيال أنجبتها الحروب وعصرتها الحصارات والقهر البعثي، واحتضنتها لاحقاً حركات التطرف الديني.

“أبو شهيد” من النوع “العقائدي” الذي ينساق وراء إيمانه بإصرار. في مستوى من مستويات الحوار سألته: ألا تفكر في زوجتك وأطفالك حين تذهب للقتال في سوريا، فأجابني ببداهة لافتة: لا شيء عليهم، سيعيشون، أهلي سيهتمون بهم!

يحرص “أبو شهيد” على القول إن دوافعه في الذهاب الى سوريا غير متعلقة بأي مكسب أو مطمح آخر. يدلل على ذلك بقوله إن الدوافع الجهادية والعقائدية هي ذاتها التي دفعته لقتال القوات الأميركية الى جانب السنّة في منطقة الفضل ببغداد خريف 2004.

طريق الجهاد

عن ذهابه في المرة الأولى الى سوريا: مذ كنت طفلاً رغبت في الذهاب الى فلسطين. طلبت من أصدقاء تربطني بهم معرفة سابقة – وهم من الجماعات المسلحة الشيعية ضد الأميركيين أولاً، وضد الجماعات السنية لاحقاً- أن أذهب للقتال في سوريا. تم ترتيب الأمر وذهبت من طريق جماعة “النجباء” (حركة منشقة عن جماعة “عصائب أهل الحق” العراقية الشيعية). لكن الجماعة كذبت عليَّ فأخفت عني عنوان الجهة التي أرسلتني إلى إيران.

لا يريد “أبو شهيد” الذهاب تحت عنوان أي جهة، فهو يرغب بالذهاب كـ”مجاهد” وليس كـ”مرتزق”. أما جماعة “النجباء” (زعيمها أكرم الكعبي) فغير موثوق بها بالنسبة اليه.

ينفث دخان أركيلته ويواصل: ذهبت رفقة 13 شخصاً من أصدقائي. كانوا قبل ذلك أخذوا جوازات سفرنا ووضعوا عليها تأشيرة دخول إلى إيران، حيث وجدنا في انتظارنا سيارات خاصة ومضللة، نقلتنا إلى معسكر للتدريب شمال طهران. بقينا 18 يوماً وخضعنا لدورة مكثفة وعنيفة في مختلف فنون القتال والأسلحة. كان المدرّبون لبنانيين وإيرانيين، وكان مجموع المتدربين في المعسكر 156 شخصاً من العراق. كان مقدَّراً لنا أن نبقى 70 يوماً في سوريا من دون اتصال بالأهل أو إخبارهم. كنا أول دفعة مقاتلين عراقيين تدخل حلب قبل نحو سنة وثلاثة أشهر. وصلنا في طائرة من طهران إلى دمشق، وبعد 5 أيام طرنا إلى حلب. الجهات التي استقبلتنا ونقلتنا في سوريا، كلها جماعات إيرانية.

كانت الأوضاع حين وصولنا متعبة جداً وتميل لصالح الجماعات السورية المسلحة. أخذونا إلى منطقة “البحوث” في حلب التي استرجعها “حزب الله” اللبناني قبل فترة وجيزة، فلم نجد طعاماً ولا ماء. كانت منطقة قتال خطرة جداً وكنا محاصرين بمقاتلي “جبهة النصرة”.

بعد ذلك احتللنا جبلاً مطلاً على منطقة وسيطرنا على الوضع. ذات مرة عدنا للاستراحة في مقرنا بـ”البحوث” تقلنا سيارة “بيك اب”. في الطريق أخطأ السائق فدخل قرية معادية. كنا 12 شخصاً، أحدنا لبناني، فانفجرت فينا عبوة ناسفة دمرت السيارة ولم ينجُ منا سوى اللبناني وأنا وثالث نجا بأعجوبة ولا يزال يتعالج من آثار إصابته.

لحسن الحظ، جاء أصحابنا بعد ذلك ونقلونا إلى المستشفى في دمشق، حيث لا تتوافر علاجات، إلى جانب خشيتنا من أن ينهي الأطباء السوريون حياتنا. ثم نقلت الى مستشفى شمال طهران خاص للجرحى في سوريا ومجهز بأحدث الوسائل والعلاجات، كأنك في فندق خمس نجوم. بعد ذلك عدت الى العراق وأكملت علاجي على حساب الجهة التي تكفلت ذهابي إلى سوريا.

العلويون فقط

في رحلتنا “الجهادية” في سوريا لم نكن نثق بالجيش السوري مطلقاً، بل بالعلويين فقط. جنود الجيش السوري كانوا ينهزمون أثناء المعارك. كنا لا نثق بهم البتة، لأننا نخشى أن يشوا بنا لجماعات “القاعدة” و”النصرة”. يطلق السوريون علينا تسمية “الصديق”، نحن من لا يقف في وجهنا أكبر الضباط رتبة عسكرية.

المفارقة أن “ابو شهيد”لا ينظر بإعجاب إلى مرشد الثورة الاسلامية علي الخامنئي. يقول إنه “مجرد خطيب”. في ذلك دلالة على أن الجماعات العراقية المقاتلة في سوريا لا تمثل كتلة متماسكة، باستثناء اتفاقها على العدو والقتال الى جانب نظام الأسد. مع ذلك، يذكر “أبو شهيد” من باب الوصف وليس الاستنكار أن الايرانيين يسيطرون على جميع المرافق الحيوية في سوريا، كالوزارات والمطارات والمستشفيات، لانهم يخشون الخيانة: “ايران تحكم سوريا، وكل من يقول غير ذلك كاذب. رأيت ذلك بأمّ عيني في المطار وفي دمشق. المخابرات الايرانية في كل مكان. هي التي تحكم وتقود، بالرغم من أن نسبة الإيرانيين قياسا إلى العراقيين أو اللبنانيين، لا تتجاوز العشرة في المئة”.

أنتم مدفوعون بهدف طائفي؟، أساله، فيجيب: لا، اذا انتهى نظام الأسد في سوريا، فإن تأثير ذلك سيكون على لبنان والعراق. وسينتهي “حزب الله” ولن يتمكن من محاربة إسرائيل، وسوف يأتون الى العراق.

¶ جوابك هذا فيه دلالة طائفية!

– إسرائيل واميركا من صنع الطائفية وهذه مسألة غير قابلة للنقاش.

¶ المسلمون يتطاحنون منذ 14 قرناً على خلفية طائفية حتى قبل أن توجد أميركا واسرائيل؟

– صحيح، لكنهم (أميركا واسرائيل) فعّلوا القضية. مع ذلك جماعات “النصرة” و”القاعدة” تستحق الموت لأن المنتمين اليها قتلة، وسمعت أنهم يكبّرون على النساء فيصبحن حلالاً عليهم.

¶ هذه التجاوزات موجودة عند مقاتليكم أيضاً!

– نعم وهناك من يذهب طلباً للمال أو النساء أو الصبيان حتى، لكننا أقل دموية منهم والمقصّر يحاسب بشدة.

القتل بضوابط شرعية

يعترف “أبو شهيد” أن الجماعات التي تذهب الى سوريا تتداخل في عملها المصالح والاطماع المالية والسياسية. لذلك يقول: يأخذونك أولاً معززاً مكرّماً، لكن حين تصل الى سوريا يقدمون لك الحمص بطحينة، ويعاملونك كمرتزق. لا يتردد في الكشف أنه لا يتفق مع الكثير من الجهات العراقية الشيعية المسلحة في داخل العراق التي تعمل بغطاء حكومي، لأنها: “تريد منك أن تقتل. معنى ذلك أن الأمر فيه دماء، فأين تذهب من وجه الله!”.

يعترف “أبو شهيد” أنه شارك في أعمال قتل لـ”السلفيين” في العراق، ليس بناء على وشاية أحد، بل بعد التحدث معه وسماعه كلامه: “ذات يوم جاؤوا اليَّ برجل مسيحي قادم من أوستراليا وأرادوا إخفاءه لفترة. أبقيته في منزلي وتكلمت معه، فاكتشفت أنه مستشيع، لكن الجماعة أرادت ابتزازه بمبلغ من المال”.

لدى “ابو شهيد” وكالة من مكتب السيد كاظم الحائري (مقيم في مدينة قم الايرانية) الذي منحه رخصة للعمل وفق ضوابط شرعية. أيام الاقتتال الطائفي ترد معلومات عن أحدهم بأنه سلفي، فنرفع تقريراً عن الشخص يتضمن تفاصيل عنه، فيطلبون أن نأتي به. تتم العملية بمساعدة الدولة.

“أبو شهيد” مقلّد للسيد كاظم الحائري الذي أوجب الذهاب الى سوريا للدفاع عن “بيضة الاسلام”. وهو، بحسبه، ذهب لإطفاء النار في سوريا قبل أن تصل إلى العراق.

استدراج السلفيين

حين تقول له إن نظام الأسد زائل ولو بعد حين، والسنّة في سوريا سيصعدون الى السلطة عاجلاً أم آجلاً، بحكم غالبيتهم العددية، يجاوب: حين تذهب الى هناك لا تقول ذلك. نلتقي بشباب لبنانيين ونقول لهم إن سوريا انتهت ولم يبق فيها شيء فلماذا تقاتلون؟ يردّون علينا: لا تخش ذلك. هم دمّروها وهم سيعيدون بناءها. لا يقصدون الحكومة السورية، بل يقولون إن لديهم أناساً كباراً من الامارات والخليج سيفعلون ذلك. نطلب منهم تحرير كل مناطق سوريا، فنحن قادرون على ذلك، فيقولون: لا، لا تستعجلوا، نريد أن نستدرج السلفيين ونبيدهم في سوريا.

أخيراً اعترف “أبو شهيد” بأن عدد المقاتلين العراقيين في سوريا يبلغ نحو 8500 مقاتل، يقاتلون ويتبدلون بشكل دائم.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى