اعترافات ولعنات (مقتطفات من الكتاب) – إميل سيوران
ما أعرف يقوِّض ما أريد.
*
يأتي وقت لا يقلد المرء فيه إلا نفسه.
*
الكآبة تتغذى من ذاتها، ولهذا لا تعرف كيف تتجدد.
*
على أية حال، لم أُضِع وقتي، أنا أيضا تمرغت، كأي إنسان، في هذا الكون الزائغ.
*
إن تطبيق المعاملة ذاتها على الشاعر وعلى المفكر تبدو لي خطأ في الذوق. ثمة مجالات لا ينبغي أن يقترب منها الفلاسفة. تفكيك القصيدة كما تفكك منظومة (فلسفية) هو جريمة، بل عمل تدنيسي وانتهاك حرمات.
أمر مثير للفضول: الشعراء يبتهجون عندما لا يفهمون ما يكتب عنهم. ذلك أن الرطانة تغريهم وتوهمهم بتحقيق تقدُّم. هذا الضعف يجعلهم دون مستوى نقادهم وشارحيهم.
*أفضل طريقة للتخلص من العدو هي أن تمدحه أينما حللت. سوف ينقلون إليه ذلك فلا تبقى لديه قوة لإزعاجك: لقد حطَّمتَ قوته … وسوف يواصل حملته ضدك دائما، لكن من دون صرامة وبأس، إذ يكون قد كف لا شعوريا عن كرهك. لقد هُزم وهو يجهل هزيمته.
*
أولئك الأبناء الذين لم أرغب في مجيئهم ، ليتهم يدركون السعادة التي يدينون لي بها!
*
لا يسكن المرء بلادا، بل يسكن لغة. ذلك هو الوطن ولا شيء غيره.
*
الانتعاظ أو هزَّة الجماع ،ذروة؛ اليأس أيضا. أحدهما يدوم لحظة؛ والثاني يدوم حياة.
*
من يعِشِ الخلود يفوِّتْ… سيرته الذاتية. وفي خاتمة المطاف لا تكون ناجزه أو مكتملة إلا المصائر المحطمة.
*
الحلم، بإلغائه للزمن، يلغي الموت. والموتى يستغلون ذلك كي يزعجونا. البارحة رأيت أبي. كان كما عرفته دائما. ومع ذلك ترددت قليلا. وإذا لم يكن هو؟ تعانقنا على الطريقة الرومانية، لكن كما هي الحال معه دائما؛ من دون دفق حنان، من دون حرارة، من دون إظهار مشاعر الفرح مثلما هو متبع لدى شعب منفتح. وبسبب تلك القبلة المتحفظة، الثلجية، تيقنت أنه هو، فعلا. استيقظت وأنا أقول لنفسي إن المرء لا يبعث من الموت إلا دخيلا، منغِّصا، وإن ذلك الخلود المزعج هو الوحيد الموجود.
*
النقد تفسير خاطئ ومعكوس: ينبغي أن تتم القراءة من أجل فهم الذات، لا من أجل فهم الآخر.
*
كل رغبة تبعث في داخلي رغبة مضادة، بحيث، مهما فعلت، لا أجد قيمة إلا لما لم أفعل.
*
“سوف تحل نهاية الإنسانية عندما يصير الجميع مثلي” هكذا قلت ذات يوم، في سَوْرَةٍ لست مؤهَّلاً لوصفها.
*
ما أشدَّ ما كان البشر يتبادلون الكراهية في الظلمة وعفونة الكهوف! هذا ما يجعلنا نفهم لماذا لم يرغب الرسامون الذين كانوا يتعيَّشون داخل تلك الكهوف، في تخليد وجوه مَنْ يشبهونهم وفضلوا عليهم وجوه الحيوانات.
*
كثيرا ما ينبجس الجوهري إثر حديث طويل. الحقائق الكبرى تقال على العتبات.
*
الرسالة الجديرة بهذا الاسم تكتب تحت وطأة الإعجاب أو الاستنكار، أي المبالغة في كلتا الحالتين. لهذا نفهم لماذا تكون الرسالة الجدِّية رسالة ميتة في المهد.
*
تغيير الكاتب لغتَه يعادل كتابةَ رسالةِ حبّ بوساطة قاموس.
*
ليس غير الموسيقى لربط صلة لا تنفصم بين كائنين. أيُّ هوًى هو هوًى فانٍ. إنه ينحط ، شأنه شأن كل ماله صلة بالحياة، في حين أن الموسيقى ذات جوهر أسمى من الحياة، وبالتالي أسمى من الموت.
*
من الملاحظ أن الرطانة الفلسفية، وهذا عين الصواب، سريعة الانتشار، شأنها شأن اللهجة العامية. والسبب؟ الأولى مفرطة في تكلفها، والثانية مفرطة في حيويتها، إفراطان مدمِّران.
*
الانتعاظ أو هزَّة الجماع ،ذروة؛ اليأس أيضا. أحدهما يدوم لحظة؛ والثاني يدوم حياة.
*
حقيقة أن الحياة ليس لها معنى، هو مبرر للعيش، وهو الوحيد على أية حال.
*
في بحثها عن صيغة قابلة لإرضاء الجميع، ركزت الطبيعة اختيارها على الموت. والموت، كما كان متوقَّعًا، لم يكن ليُرضي أحدا.
*
يعيش أيامه الأخيرة، منذ شهور، منذ أعوام، ويتحدث عن نهايته بصيغة الماضي، عن وجود يلي الممات. استغربت كيف أنه لا يأكل شيئا تقريبا ويتوصل إلى البقاء: “جسدي وروحي استغرقا الكثير من الزمن والضراوة من أجل الالتحام، إلى درجة أنهما لا يتوصلان الآن إلى الانفصال.”
وإذا لم يكن له صوت تشوبه نوبة احتضار فإن مرد ذلك إلى كونه لم يعد على قيد الحياة منذ زمن طويل. ” أنا شمعة مطفأة.” هذه أصح عبارة قالها بخصوص تحَوُّله الأخير. وعندما حدثته عن احتمال حدوث معجزة، كان جوابه: “يتطلب الأمر الكثير من المعجزات.”
*
كان علينا ألا نتكلم إلا عن الأحاسيس والرؤى: وليس عن الأفكار أبدا، لأنها لا تنبثق من دواخلنا ولا تكون ملكنا حقا، أبدا.
*
مدمِّر ومكتسِح بالسأم ، هذا الإعصار على البطيء…
*
توجد كآبتان؛ الأولى يعالجها الدواء، والثانية تلازمنا: إنها الأنا في مواجهة ذاتها إلى الأبد.
*
في التخلص من الحياة حرمان من سعادة السخرية منها. هذا هو الرد الوحيد على من يخبرك بأنه يرغب في التخلص منها.
*
المادح: كثيرا ما يكون عدوًّا مستقبليا.
*
أجدى طريقة لاكتساب أصدقاء أوفياء أن تهنئهم على فشلهم.
*
المبالغة في الحديث عن الجنس تفسده. الذروة الجنسية لم تكن حدثا فلسفيا قط.
*
ما من عائق أمام الخلاص اكبر من الحاجة إلى الفشل.
*
الإشراق إطلالة أخيرة على الوهم.
*
عندما نموت نصير سادة العالم.
*
التدفق الخالص للزمن، الزمن العاري والمختزل في جوهر متدفق بلا انقطاع للَّحظات، ندركه في الأرق. كل شيء يختفي. ويتسرب الصمت إلى كل مكان. ننصت فلا نسمع شيئا. تكف الحواس عن التوجه نحو الخارج. نحو أي خارج ؟ إنه انغمار لا يبقى فيه إلا هذا التدفق الخالص من خلالنا، وهو نحن أيضا، ولن ينتهي إلا مع النوم أو طلوع النهار.
*
إذا كنت أفضل النساء على الرجال فلأنهن يتميزن عن الرجال باختلالٍ أشد في التوازن، وبالتالي، بتعقيدٍ أكثر، وتوقدِ ذهنٍ وصلافة، من دون نسيان ذلك السمو الغامض الذي تمنحهن إياه عبودية القرون.
*
إن الندم، كهجرة في الاتجاه المعاكس، إذْ يمتِّعنا باستعادة حياتنا، يوهمنا بأننا عشنا الكثير من
الحيوات.
*
يقاس عمق أي هوى بالمشاعر الدنيئة التي تسكنه والتي تضمن كثافته وديمومته.
*
لا توجد الموسيقى إلا بمقدار زمن الاستماع، مثل الإله لا يوجد إلا بمقدار ديمومة الوجد.
*
الفن السامي والكائن السامي يشتركان في كونهما يتوقفان علينا كليا.
*
كلما تألمنا أكثر طالبنا بالأقل. الاحتجاج علامة على أن الإنسان لم يجتز أي جحيم.
*
موقعنا في مكان ما، بين الوجود والعدم، أي ما بين وهمين.
*
“عندما هفا طائر النوم إلى بناء عشه في حدقتي، رأى الأهداب فارتعب من الشبكة” من الذي استطاع، أفضل من ابن الحمراء، هذا الشاعر العربي الأندلسي، أن يسبر ما لا يُسبر من أعماق الأرق؟
*
رفعتُ جبال الهِمَالايا طيلة الليل – كيف أسمِّي ذلك نوما ؟
*
بعد كلام كثير لمدة ساعات هاأنذا يغزوني الفراغ، الفراغ والخزي. أليس من البذاءة أن يكشف المرء أسراره ويعري كيانه، أن يحكي ويستمع إلى من يحكي، في حين أن أكثر لحظات حياته امتلاء قد عرفها خلال الصمت، خلال الإدراك الحسي للصمت؟
*
أنت الآن هادئ، لقد نسيت عدوك. أما هو فيسهر ويترقب. ومع ذلك عليك أن تكون مستعدا عندما يهجم. سوف تنتصر عليه لأن الضعف تمكن منه بسبب ذلك الهدر الهائل للطاقة، أي الحقد.
*
ما لا يهمنا هو الذي لم ننجزه، ما لم نستطع إنجازه، بحيث لا يتبقى لنا من حياتنا إلا ما لم تكنه.
*
لا جدوى من تخليك عن هذا المعتقد الديني أو ذاك المعتقد السياسي، سوف تحافظ على التصلب والتعصب اللذين دفعا بك إلى تبنِّيه، سوف تظل حانقا دوما، لكنّ غضبك سوف يكون موجها ضد المعتقد المتروك؛ أما التعصب فإنه يظل ملتحما بجوهرك، وسوف يبقى، بصرف النظر عن القناعات التي تستطيع الدفاع عنها أو رفضها. العمق هو عمقك، جوهرك، سوف يبقى هو ذاته، ولن تستطيع تحويره بمجرد تغيير آرائك.
*
” ورأى الرب أن النور حسن ”
هذا أيضا هو رأي الفانين، ماعدا الأرِقين. فالضوء عندهم اعتداء، جحيم أقسى من جحيم الليل.
*
لا شيء أشد ازعاجا لاستمرارية التأمل من الشعور بالحضور الملحّ للدماغ. ربما هنا، يكمن السبب في أن المجانين لا يفكرون إلا من خلال بروق (ومضات).
*
منذ القِدم ونحن نموت. ومع ذلك لم يفقد الموت شيئا من نضارته. هنا يكمن سر الأسرار.
*
أن تقرأ يعني أنك تترك آخرَ يجهد من أجلك. إنه الشكل الأكثر لطفا في درجات الاستغلال.
*
ما أن أخرج من “أنا ” حتى أنام.
*
لكي تبني المحارة قوقعتها عليها أن تمرِّرَ في جسمها ما يعادل وزنها خمسين ألف مرة من مياه البحر .
…إلى أين ذهبت أبحث عن دروس في الصبر!
*
أن نكون أو لا نكون.
…لا هذا ولا ذاك.
*
حذار من المفكرين الذين لا تعمل عقولهم إلا انطلاقا من الاقتباس.
*
إذا كانت الروابط بين البشر على هذه الدرجة من الصعوبة فلأنهم خلقوا للعراك وليس لإقامة “روابط “.
*
الارتياب يتسلل إلى كل شيء، لكن مع استثناء مهم: لا وجود لموسيقى ارتيابية.
*
آخر شاعر مهم في روما، جوفنال، وآخر كاتب لامع في اليونان، لوسيان، كلاهما تعامل مع السخرية التي انتهى إليها أدبهما، كما ينبغي لكل شيء، سواء أكان أدبا أم لا، أن ينتهي.
*
يا للحظّ الذي يتمتع به الروائي أو المؤلف المسرحي في التعبير متنكرا، وفي التخلص من صراعاته، وأكثر من ذلك، في التخلص من كل أولئك الشخوص الذين يتعاركون داخله! الأمر مختلف بالنسبة للباحث فهو محصور في جنس جاحد لا يسقط فيه تعارضاته الخاصة إلا عبر مناقضة نفسه في كل مرة. في الحكمة تحرر أوسع – انتصار للأنا المجزَّأة…
*
آراء، نعم؛ قناعات، لا. هذه هي نقطة البدء للافتخار الفكري.
*
لا شيء يعادل الظهور المفاجئ “للصرصور” لحظة الاستيقاظ . إنه يعيدك إلى الوراء مليارات السنين حتى العلامات الأولى، حتى أمارات الوجود، أي في الواقع، حتى المبدأ ذاته للصرصور.
*
كل ما نستطيع تصنيفه قابل للتلف. لا يدوم إلا ما هو قابل لتعدد التآويل.
*
في أوج الليالي، لا أحد غير مجتمع الدقائق. كل دقيقة تتظاهر بمرافقتنا ثم تهرب – فرار يليه فرار.
*
كلما تقدمنا في السن أدركنا أننا نتوهم أنفسنا متحررين من كل شيء وأننا في الواقع لسنا متحررين من أي شيء.
*
الأوراق الأخيرة تسقط متراقصة. لا بد من جرعة كبيرة من فقدان الحس كي نواجه الخريف.
*
في لغة أخرى مستعارة (غير اللغة الأم) نكون واعين بالكلمات. فهي لا تكون موجودة فيك بل خارجك. هذا البون بينك وبين وسيلتك للتعبير يفسر صعوبة، بل استحالة، أن يكون المرء شاعرا في غير لغته. كيف عساك تستخلص جوهر كلمات ليست متجذرة فيك؟ إن القادم الجديد يعيش على سطح الكلمة، ولا يمكنه، في لغة تعلمها متأخرا، أن يترجم ذلك الاحتضار الباطني الذي ينبجس منه الشعر.
*
” لماذا الشذرات؟ ” سألني ذلك الفيلسوف الشاب مؤاخذا. – “بسبب الكسل، بسبب النزق، بسبب القرف، لكنْ لأسباب أخرى أيضا…” – وبما أنني لم أجِدْ منها سببا واحدا، أطنبت في تفسيراتٍ بدَتْ له جادَّة وانتهت بإقناعه.
_____________________________________________
ترجمة محمد علي اليوسفي
إميل سيوران (Emil Cioran (1911-1995 ، فيلسوف وكاتب روماني، ولد في قرية رازيناري, إحدى قرى ترانسيلفانيا الرومانية. عاش سيوران في مرحلة تتحدث عن الحداثة، وما بعد الحداثة، لكنه اختار الابتعاد عن زمانه، وعن الزمن. سعى إلى تحطيم المعنى من أجل خوض تجربة اللامعنى. أعلن أنه ضد الفلاسفة وضد المنظومات الفلسفية والمقولات. كما أنه ضد المفكرين الذين ينطلقون من الاقتباس والاستشهاد. وفضَّل شكل الكتابة المقطعية، والاعتراف، والحكمة المختزلة، على الخطاب المتماسك زورا وزيفا كما يقول. يمكننا تحمل الشر وليس مفهمته. ولا معرفة لديه إلا عبر الحواس (كل تجربة عميقة تصاغ بعبارات فيزيولوجية.) وجدت أعماله في البداية تقبلا محدودا. لكن قاعدة قرائه ما انفكت تتوسع في الأعوام الأخيرة، ولا سيما بعد موته (1995). فظهرت كتبه في سلسلة الجيب الشعبية. وكثرت ترجماته وتناولت وسائل الإعلام كتبه ونجاحه المفاجئ.
اعترافات ولعنات (مقتطفات من الكتاب) – إميل سيوران