اعتصام منزلي!
عمر قدور
من المرجح ألا يحدث هذا سوى في بلد يشبه سوريا؛ بضع نساء واقفات في غرفة يرفعن لافتات تدعو إلى الحرية، وأخرى تدين القمع وتتضامن مع ضحاياه. تردد النساء النشيد الوطني وهن ملثمات بعلم البلاد، بينما تظهر على الشاشة عبارة تفيد بأنهن اخترن هذه الطريقة للتعبير عن موقفهن تفادياً للقمع الذي يتربص بهن في الشارع، وعلى ذلك تفادياً للقتل أو الاعتقال وعدم العودة إلى الأهل أو الأطفال، أما اللثام فهو لحجب الوجه خشية التعرف عليهن من قبل أجهزة المخابرات.
المكان هو أية غرفة في البلاد؛ غامض وعصيّ على الإمساك، لذا قد يكون أيّ واحد من ملايين البيوت الصامتة من الخارج، والتي لا نعرف ما الذي تنطوي عليه في الداخل. وقد يبدّد هذا شكوكاً قديمة، إذ لطالما بدا الصمت مريباً أو مُستَنكراً أو مختَلفاً حول دلالته. الآن تفضح لنا الكاميرا بعضاً من الصمت، تأخذنا إلى أسرار البيوت التي ظنّ الكثيرون أنها راضية أو خانعة وستبقى دائماً كذلك. تفتح الكاميرا نافذة على البيوت لتقول لهم إنهم لن يهنؤوا، فخلف كل باب أخرس ربما يكون هناك نساء أو رجال وحتى أطفال يتحفّزون للخروج؛ في لحظة لا أحد يتكهّن بها سيميطون اللثام عن وجوههم وسيتخطون حائط التورية.
“نحن خائفات” تعلن أولئك النسوة عن خوفهن بشجاعة مؤلمة، وبشجاعة قلّ نظيرها إذ لم يسبق لغيرهنّ أن أتين بالكاميرا لتسجّل هذه اللحظة الفريدة من الخوف والتحدّي معاً. من خلال التسجيل تقول لنا النساء إن الخوف ليس وصمة، ليس وصمة في جبينهن على الأقل؛ هو وصمة خزي في جبين كلّ قناص أو حامل هراوة في الشارع، أو مشرف على التعذيب في أحد الأقبية. هناك نساء نزلن إلى الشارع ونلن قسطهن من الضرب والاعتقال وحتى القتل، ولم يفقدن تصميمهن على إعادة الكرّة، لكن وجودهن لا يقلل من شأن اللواتي والذين لم يتخطوا العتبة بعد؛ إنهم متظاهرون أو متظاهرات مع وقف التنفيذ.
حتى الخوف قد يصبح سلاحاً، لقد استثمرت آلة القمع في الخوف عقوداً طويلة، وربما حان الوقت كي يرتدّ سلاحها عليها؛ هكذا تصبح آلة القمع عارية وعزلاء، بل تسفر عن عجزها أمام ضحاياها إذ يعلنون : نحن خائفون وحسب، لكننا لسنا راضين أبداً. ثمة فرق شاسع بين الخوف والاستكانة أو القبول بالأمر الواقع، وعندما يتم إشهار الخوف على هذا النحو فإنه أيضاً إعلان صريح عن الرغبة في التحرر منه، وإعلان عن أن الخوف توقف عند كونه آلة بطش في الخارج. أصبح الرعب محض رصاصة أو جلاد، لكنه أصبح خارجاً وكفّ عن التوالد في النفوس، بل إنّ اللواتي والذين في البيوت صاروا مصدر الخوف لمن يتربص بهم في الشارع، ولمن كانوا من قبل يرون فيهم مجرد الخنوع، أو لا يرونهم على الإطلاق.
يفضح الاعتصام المنزلي ما هو مسكوت عنه، ويكشف عن اللحظة الإنسانية برفعة وبلا ادعاءات، وربما تكون النساء بسبب وضعهن الاجتماعي أكثر جرأة على اجتراح بدعة من هذا النوع. قد يخجل الرجال من إظهار بواطن الضعف، وقد يتحايل عليها البعض منهم بتنظيرات تسيء إليهم وتزرع الفصام في نفوسهم بدلاً من الاعتراف بأن الضعف أيضاً لحظة إنسانية نبيلة وإن تكن موجعة. ووفق القسمة الاجتماعية السائدة قد نكون بحاجة إلى قدر من التأنيث، بحاجة إلى هذا الاعتصام المنزلي ليذكرنا بجزء من ذواتنا جميعاً وبأولئك الذين يوارون ضعفهم بمواقف تفتقر إلى الصدق أو بالانحياز إلى من يظنون أنه الأقوى.
من جهة أخرى يدلل الاعتصام المنزلي، بالإضافة إلى مظاهر أخرى مستجدة، على أن السوريات والسوريين قد تخطوا مرحلة التعلم الأولى، وباتوا في موقع استكشاف خصوصية حالتهم، ومن ثم ابتداع الأساليب المناسبة لها والتي بدورها ستنضم إلى الإرث الإنساني العام. وفي الوقت الذي تمارس فيه آلة القمع سياسة الإنكار تجاه ما يحدث في الواقع فإن المجتمع أخذ سبيل المواجهة والكشف اللذين لا يعنيان مواجهة الآخر وتعريته فحسب، بل يعنيان أيضاً مواجهة الذات والكشف عنها بلا خجل. هي الذات التي تبدأ رحلة إبداعها الخاص، حيث لا إبداع إن لم تكتنفه ملامح من الخصوصية، ولا إبداع دون القبض على مكامن التوتر والقلق بدلاً من الركون إلى طمأنينة المقولات أو الأساليب الجاهزة.
للوهلة الأولى يستوقفنا هذا النوع من الاحتجاج بطرافته، ولانعدام فعاليته الميدانية قد نعتقد أن أهميته تأتي من رمزيته وحسب، لكن الرسالة أقوى من هذا الحد، والنساء اللواتي اجترحن الفكرة يدركن بلا شك قوة التعبير التي تتخلل بساطتها، بل يدركن تعدد تأويلاتها ومراميها. وليس من المبالغة القول إن ما فعلنه هو ردّ قوي وعميق على العنف الذي يمارس بحقّ المتظاهرين السلميين؛ هي مواجهة العنف باللاعنف، أو حتى بالحد الأقصى من الانكفاء أمامه، وهذا ما يُظهر المدى الفظيع الذي وصل إليه. لن يقودنا التفاؤل إلى الظنّ بأنّ آلة القمع العمياء سترتدع جراء ذلك، ومن المرجح أن العقل البوليسي سينشغل أولاً بالبحث عن مصدر التسجيل وبمعرفة النساء المشاركات فيه، وربما لا يرى في التسجيل وذيوعه سوى مؤشراً على تقصيره في ضبط الناس تماماً، وليس من المستبعد أن يخالط ذلك شعور بالخيلاء لأنه أفلح في إجبار البعض على ملازمة البيوت، لكن شيئاً من اللاطمأنينة سيرافق كل ذلك فيتوجس مما لا يتوقعه، إذ لا يدري متى ستفاجئه الروح المبدعة باقتراحات أخرى لم يحسب لها حساباً.
اعتصامات منزلية تنفذها النساء؛ هذه المرة لا لأن القسمة التقليدية المحافظة تبقي على النساء في البيوت، بل لأن النساء ابتكرن أسلوباً خاصاً لإدانة العنف، ربما لأنهن الأقدر على التعبير عن هذه اللحظة التاريخية بكل تناقضاتها، حيث يختلط الأمل بالخوف، ويختلط التوق إلى الحياة بالدم؛ هي لحظة المخاضات العسيرة والنساء هن من يعرفن معنى ذلك جيداً خارج المجازات.
موقع الآوان