‘اعيان الشام’ لصقر أبو فخر: خمسون عائلة تحكمت بمصائر سورية
جوزيف باسيل
إن الديموقراطية التي نتطلع إليها في سوريا، وبقية أرجاء العالم العربي، ليست مجرد نظام سياسي قائم على فصل السلطات فحسب، بل هي نظام للمجتمع التعددي أي أنها عقد اجتماعي لا يجيز أبداً لمن وصل إلى السلطة بالانتخابات أن ينقلب عليها بذريعة الأغلبية، لأن من شروط سريان العقد التزام جميع الأطراف بنود هذا العقد.
هذه خلاصة يرتجيها صقر ابو فخر في كتابه ‘اعيان الشام واعاقة العلمانية في سوريا’، حين يطرح سؤالين محاولا الاجابة عنهما: لماذا اعيقت العلمانية في سوريا بعد الاستقلال؟ ولماذا ضمرت الديموقراطية في ارجائها مع ان النخبة شبه الليبرالية كانت موجودة في اربعينات القرن العشرين وخسميناته؟ وهذان السؤالان ينطبقان على كل الانظمة العربية التي نشأت آنذاك.
ويلفت الى ان خمسين عائلة موزعة بين ملاك الارض ورجال الدين والتجار حكمت سوريا مطلع القرن العشرين وحتى منتصفه وبقيت بقاياها تسيطر على مواقع مهمة في السلطة حتى بدأ التغيير في السبعينات مع تسلم حافظ الاسد للسلطة.
أعيان الشام: خمسون عائلة
يقول انه منذ زوال الحكم العثماني الى ما بعد الاستقلال، ظل رؤساء الجمهورية والحكومات والوزراء والنواب يأتون بغالبيتهم من نحو خمسين عائلة موزعة بين ملاك الارض ورجال الدين والتجار (علاوة على بعض الصناعيين) امثال آل الاتاسي في حمص وآل الحوراني والكيلاني والبرازي والعظم في حماه والقدسي والكيخيا والجابري في حلب والسيد وشلاش والشعلان في دير الزور والقوتلي والعسلي والحفار والدواليبي ومردم بك والعظمة والعابد والغزي في دمشق.
واستمر الحال الى ان تسلم حزب البعث السلطة عام 1963 وبدأت السيطرة تنقلب لمصلحة الضباط المتحدرين من الارياف والصاعدين من الطبقتين الوسطى والفقيرة، والتي تحالفت ايضا خصوصا في المدن ذات الغالبية السنية مع التجار ورجال الدين.
لكن حزب البعث ‘الريفي’ صار الريف ضده مطلع هذا القرن، واعضاؤه الذين عبثوا بالفكر القومي اللاطائفي انحرفوا الى التدين وحملوا السبحات.
ولأن نتائج الثورات في مصر وتونس وليبيا واليمن لم تكن على قدر الآمال، عبّر عن خشيته من نتائج الحرب في سوريا، وابرزها ‘فرط الجماعة الوطنية وتفكيك الاجتماع البشري السوري، ما سيؤدي الى فرط الدولة التي نشأت على فكرة العروبة، فمن دونها ستتفتت الدولة دويلات طائفية واتنية.
إن تشبث ثلاثي الاعيان: ملّاك الارض والتجار ورجال الدين بسياسة اقصاء الآخرين، احزابا وتيارات سياسية وهيئات اجتماعية ونخب علمانية، والحؤول دون الترقي الاجتماعي، ادى الى ظهور الدولة التسلطية المعاصرة في سوريا. وهذا الثلاثي حال دون بناء الديموقراطية في النظم العربية الحديثة، وساعد في بناء انظمة التسلط ذات القاعدة الشعبية الواسعة في الشرق الاوسط.
وهؤلاء قاوموا كل تحديث وكل فئة او حزب او هيئة تدعو اليه والى طرائقه كالديموقراطية والحرية والعلمانية والتقدم وغيرها من قيم الدولة الحديثة. واستخدموا العنف احيانا. وقد ناهضوا فكرة القومية العربية، فاذا كانت الشام لفظت نخبة المفكرين سواء القدامى او المحدثين، فهل نرتجي خيرا من ثورة طليعتها حاليا ‘جبهة النصرة’ التكفيرية؟
البعث وممالأة الجماعات الإسلامية
ويرى ابو فخر ان البعث اسس للاحداث التي انطلقت في آذار 2011 عندما ‘عقد قرانه’ على الجماعات الاسلامية المعتدلة وادار ظهره للعلمانيين والتقدميين والديموقراطية والليبيراليين بعد ازمة 1979 1982 واقفل بوابة الحريات السياسية امامهم، وفتحها للشيخ احمد كفتارو ولابنه حسن وللقبيسيات ولأبي القعقاع والبوطي وغيرهم، وترك لهم قيادة المجتمع الى المناحي المتخلفة.
ويلفت الى ان تسلم ‘الإخوان المسلمين’ راية التحول في سوريا، كما جرى في مصر، هو ‘الكارثة بعينها’. فكما ان السلطة الحالية لم تؤسس الديموقراطية والعلمانية، فمحال ان تبنيهما المعارضات الحالية التي ترعرعت لدى اجهزة الاستخبارات او الميليشيات التكفيرية. ان سوريا الديموقراطية العلمانية تصبح ممكنة اذا جاءت محصلة تسوية تاريخية بين الدولة والمعارضة المسؤولة التي تتنكب حقا مقتضيات التحول الى دولة عصرية، والا ستسحق الديموقراطية تحت سنابك الحرب الاهلية ذات الطابع الطائفي بعدما اقفل عليها الاعيان الرجعيون حلقة الاستعصاء التاريخي المستمر منذ الحكم العثماني، ولم يدافع عنها السلطويون الجدد الذين ركبوا مركبها ثم قطعوا حبل المرساة عند الميناء الاولى.
ان الجانب الغالب من الاحتجاجات في سوريا لا علاقة له بالديموقراطية، ولم يتخذ شكل الاحتجاج السياسي في سياقه الديموقراطي، فالاحتجاجات ذات طابع سلفي او اصولي او اتني او طائفي او ثأري، وهذه لا تقود الى الاصلاح والتحديث ولا تنشئ مجتمعا مدنيا ديموقراطيا عصريا ولا تؤمن بالحريات والديموقراطية.
الثورات لا تؤدي لزوماً إلى الديموقراطية
يتخوف ابو فخر من ان الثورات التي اندلعت ضد الاستبداد والقهر الاجتماعي والفساد والفقر والتهميش لا تؤدي لزوما الى الديموقراطية والحرية ‘كما يتوهم كثيرون’، بل قد تؤدي الى استبداد ديني او ميليشيوي او تكفيري او عسكري، كما شهدنا في غير منطقة منذ النصف الثاني من القرن الماضي.
وان قدرة الناس على التعبير عن ارادتها في الشوارع ليست ضمانا كافيا لمستقبل ديموقراطي، خصوصا ان الجماعات الاسلامية النافية للديموقراطية فكراً واسلوباً وممارسة قادرة اكثر من غيرها على الاستيلاء على الساحات والشوارع، وبالتالي على اجهاض اي تحرك شعبي، متى تملكت ادوات السلطة والحشد الراعوي. علما انها سيطرت على السلطة في الدول التي شهدت الثورات.
وفي النتيجة ان المسيطرين على الثورات العربية، اي الاسلاميين (جماعة، اخوان، سلفية) يرفضون اساسا الديموقراطية التي يتغنى بها الامريكيون ويزعمون انها هدفهم والحقيقة ان هدفهم السيطرة على النفط وتحقيق امن اسرائيل ويتذرعون بها دعما للاخوان والسلفيين، وهم خير من يعرف ان هؤلاء يرفضونها اسلوب حكم وممارسة، حتى وصل الامر بأحدهن الى القول ‘ان الديموقراطية هي اصل كل شر’. ومنتهى الحيرة من نصدّق الامريكيين ام السلفيين؟ كلاهما يفتقد الصدقية.
لذلك يدعو ابو فخر الى التصدي بالفكر أولاً لعملية ‘تشويه الديموقراطية الجارية الآن’، فالديموقراطية ليست مجرد نظام سياسي قائم على فصل السلطات فحسب، بل هي عقد اجتماعي لا يجيز لمن وصل الى الحكم بطرقها ‘ان ينقلب عليها بذريعة الخيار الحر للاغلبية، لأن من شروط سريان اي عقد التزام جميع الاطراف بنوده. والديموقراطية لا تعني حكم الاغلبية و’نقطة على السطر’. اذاً كيف نضمن عدم انقلاب المجموعات الاسلامية على وعود الديموقراطية؟’.
الجواب ليس عسيراً. فالدولة الديموقراطية العلمانية هي الضمان، لأنها توزع السلطات الدستورية ‘فلا تجتمع في يد رجل واحد، فيصبح مستبدا بالضرورة، ولا ينص دستورها على دين الدولة، لان الدولة لا دين لها’، انما الافراد. واي نص دستوري يحدد دين الدولة يعني الغاء المساواة بين المواطنين، وهي جوهر الديموقراطية والحرية والمواطنية.
الإسلام السياسي يهدّد الأقليات
ان الاسلام السياسي الذي لا يعترف بالهويات والخصوصيات يهدد الاقليات بالتذويب، فيما كانت ترغب في الاعتراف بها وبهويتها في نطاق بلد ديموقراطي مؤسس على المواطنة الحرة والمتساوية، وهذا فارق جوهري بين الفكر الاسلامي الديني وبين الفكر القومي العروبي. ويدعو ابو فخر الى اعادة احياء المشروع القومي العربي في هذه اللحظة التاريخية التي يبدو فيها جلياً التخبط الاسلامي في الحكم، حتى بدا مرتبكاً ومتخلخلاً، بأسرع مما توقع الباحثون. فليس من حل واقعي وراق الا بالدولة الديموقراطية العلمانية المعاصرة التي تجسد فكرة المواطنة المتساوية والحريات العامة واحترام الآخر وخصوصيات الهويات القومية والاتنية… وهذه لا تتأتى ثمارها الا في فيء دولة قومية عربية، تحيي الفكرة دون ادواتها العسكرية التي شوهتها.
إن القومية العربية هي السعي الجدي لإعلاء فكرة المواطن العربي على فكرة الطائفة أو العشيرة أو الكيان السياسي، وهي تعني أن المواطنة المتساوية في أساس الدولة الديموقراطية الجديدة التي يتطلع اليها القوميون العرب. فإذا لم يبنَ الفكر القومي على أسس حديثة وديموقراطية تحقق المساواة في المواطنية وتؤمّن الحريات العامة والعدالة الاجتماعية، وتحترم الخصوصيات الدينية والإتنية… فإنه يدخل مرحلة الاندثار، وتدخل معه المنطقة مخطط التفتيت الذي ظهرت نذره في لبنان والعراق والسودان… وستكون سوريا نقطة الثقل المركزي التي ستمزق محيطها.
ان حضور قضية فلسطين ليس قوياً في الادبيات السياسية لهذه الانتفاضات، فمن يرتجي نضالاً او تقدماً من هذه الثورات؟ وهل ترتجى نهضة بهذه الافكار؟ يبدو واضحاً ان الثورات التي اندلعت ضد الاستبداد والقهر الاجتماعي والفساد والفقر والتهميش لا يمكن ان تؤدي الى الديموقراطية والحرية، وهذا ما يستخلصه المرء من تصريحات المتسلطين، كما ان قدرة الناس على التعبير عن ارادتها في الشوارع ليست ضماناً كافياً للمستقبل الديموقراطي.
يتساءل أبو فخر: هل دخلت المنطقة العربية في عصر التدخلات الخارجية المباشرة؟ هل يتحول بعض الانتفاضات العربية مثل الانتفاضة السورية أداة للدول الكبرى كي تتحكم مجدداً بالارادة السياسية للدول العربية؟ ما جدوى هذه الانتفاضات مع مشروعيتها وشرعيتها وضرورتها إذا كانت ستعيدنا الى عصر الانتداب الغربي؟
أسئلة تبعث على الشك لا اليقين، أورد صقر بعض الاجابات في ثنايا ما كتب، لكنها تحتاج الى دراسات اكثر عمقاً واتساعاً من الصفحات 175، بين دفتي الكتاب.