افتحوا عيونكم على سوريا.. أو تفضلوا تفرجوا/ جهينة خالدية
ماذا يحصل لو فتحنا عيوننا على المأساة السورية؟ ماذا يحصل لو رأينا تلك المجاعة بالصور الفوتوغرافية والأخبار والفيديوهات؟ ماذا يحصل إن بكينا؟ لا بل ماذا يحصل إن أجهشنا في البكاء ورددنا “يا رب لطفك”؟ هل تراهم يا الله؟
عاجزون أمام صورة آلاء المصري. أمام ذلك الجسد الخشبي الذي تبحث عدسة الكاميرا عن ملامح طفلة فيه ولا تجد. تقترب، تبعتد، تهتز علها ترى في جلدها، أو شفتيها أو عينيها أو يديها، ما يوحي بأن هذا الجسد يعود إلى كائن صغير دبت فيه الحياة يوماً. لا فرق كبيراً بين صور آلاء وصور العجزة في المشاهد التالية. كلهم أفواههم مفتوحة إلى السماء بإنتظار كسرة خبز أو مصل أو ماء. كلهم عيونهم جاحظة وكانت آخر ما رأته تفاهة عالم لم يستطيع أن يوصل لهم “كمشة” طحين.
ليس جسداً حيّاً ذاك الذي حملته المرأة في تقارير نشرات الأخبار. لم تكن آلاء قد استشهدت بعد، لكن لا شيء فيها كان يوحي بأنها على قيد الحياة. غلب الجوع آلاء وقتلها بعدما أصيبت بالجفاف وسوء التغذية، ما أدى إلى قصور كلوي، نتيجة الحصار المفروض على مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في سوريا. تركها كقطعة خشبية قاسية، يعلوها رأس ثقيل. تحركها المرأة أمام الكاميرا وتردد “خليهم حكام العرب يتفرجوا علينا، منشكيهم لله، شوفوا الأطفال، طفلة ما قبلوا يمرروها على الحواجز، تفضلوا هيدي الطفلة، تفرجوا عليها”.
والعالم يتفرج. في الواقع هذا كل ما يفعله العالم. هذا كل ما نفعله، وستشكونا آلاء جميعاً، لا الحكام فقط. آثمون نحن، وأضعف الإيمان أن نعترف بآثامنا، لأن كل ما فعلنا أننا بكينا، واكتأبنا وبتنا نشيح نظرنا عن صور اليرموك لقسوتها، ولأننا كتبنا على جدراننا ونَعينا، ربما تبرعنا ببعض الثياب.. وعدنا إلى حياتنا الطبيعة، بعدما “أرحنا” ضمائرنا. أكملنا حيواتنا، أكلنا وتفرجنا. كلنا شريك في المجاعة..
لا أحد يستطيع أن ينكر أن ناشطين كثيرين يعملون في ملف الإغاثة في الأزمة السورية، منهم من لا يغيث إلا حسابه المصرفي ويزيد أرقامه، ومنهم من يدفع من جيبه الخاص، وربما يخاطر بحياته ليوصل بعض الطعام والثياب.. ونعرف أن برامج عدة تحاول أن تتواصل مع الطرفين المتصارعين لتجد طريقة لكسر الحصار ببضعة أكياس طحين وعبوات الحليب.. لكن أمام كل التقارير العالمية أو الإقليمية أو المحلية التي تفند مساعداتها لسوريا، لا يسعنا إلا أن نقول: لا يهمنا. لا شأن لنا ببرامجكم، نهتم فقط لذلك الوجه الأصفر الذي مات ونحن نجلس أمام الشاشات نتأمله يموت، ببرودة ما كنا نعرف أنها كامنة فينا. نشاهد الفيديوهات المتلاحقة التي يريدنا النظام وميليشياته أن نحفظ جيداً لنرتدع والتي يسعد لخروجها إلى العلن ليقول مجدداً إن هذا مصير من يحاربه.
لن نعرف يوماً رقم آلاء في عداد الشهداء، فالجهة الأولى (الأمم المتحدة) المفترض أن توثق كل هذا الموت تعبت، وقررت أن تتوقف عن العد. ما هذا التخلي يا الله؟ العدّ توقف، والقتل مستمر. كيف؟ العدّ توقف والعدّاد الوحيد الذي يزيد ويزيد هو عدد المشاهدات لفيديوهات القتل والتعذيب والتجويع، لماذا؟ لأننا نتفرج.
لأننا نفتح عيوننا على المأساة السورية كما طلب منا الفيديو الذي أطلق قبل أسابيع بالتعاون مع “اليونيسف”. الفيديو الذي شارك مجموعة من النجوم والموسيقيين البريطانيين، بينهم سفير “اليونيسيف”، الممثل إيوان ماكريغور، وأطلق تحت عنوان “لا مكان مثل البيت”، يريد أن يلفت أنظار العالم إلى معاناة الأطفال السوريين طالباً دعمهم والتبرع لحملة شراء الثياب الشتوية لهم. فعلاً لا مكان كالبيت للسوريين ولأي لاجئ في العالم.. لكن السوريين اليوم، يريدون السقف ويريدون الثياب ويريدون قبل ذلك بعض الطعام، ويريدون تحركاً دولياً فعلياً لا مجموعة من الفيديوهات المؤثرة التي تُنتج سوريا يومياً أقسى منها، وأكثر واقعية ومأسوية وتأثيراً.
هكذا ونحن نشاهد فيلم الدعم، نفتح عيوننا على هذه المأساة جيداً، نشعر أن “اليونيسف” نفسها وكل المنظمات الدولية التي تحاول أن توعي العالم على الأزمة السورية بفيديوهات وشرائط توعوية.. هي سبب رئيسي لهذه المأساة، وطالما أنها مقصرة في ايجاد الحلول وتأمين الإغاثة، فما عليها إلا أن تتحول إلى جمعية للفنون يمكن أن يكافئها العالم على أفلامها الإنسانية.
تنتهي الموسيقى الحزينة لشريط “اليونيسف”، لكن تبقى جملة الطفلة في “برومو” من انتاج “فجر برس” وهي تكرر “نحنا رح نموت أبقوا اتذكرونا” عالقاً طويلاً في الذهن. ويُجفل صوت المرأة التي تصرخ “نحن عم ناكل أكل البقر، ونحن عم نحوش أكل الحمير عم ننقنص، بدنا جمعية الرفق بالحيوان، لك ما بدنا انسان”. ويعود صوت الممثل العالمي ليقول للعالم “افتح عينيك على سوريا”، دعوة لا تختلف كثيراً عن المرأة التي حملت آلاء وهي تعلن “تفضلوا هيدي الطفلة، تفرجوا”، لكن الفرق أن الدعوة الأولى تخرج برعاية منظمة يُفترض أن تحدّ من المأساة، والدعوة الثانية تأتي من شعب يعيشها.. ونحن نتفرج.. ونكتب نص كهذا، الذي نعرف أنه ليس سوى دليل إضافي عن العجز.
المدن