افتقاد القبة، تحية للعلامة خير الدين الأسدي (1900-1971)/ عزيز تبسي
ولد عام 1900، ليدخل القرن العشرين من بداياته، القرن الخافق القلب المضطرب الأعصاب، الذي حمل بين أعطافه الكثير من آمال الشعوب في الاستقلال والتحرر والعدالة. كما في الزمن المخصوص بالثقافة المدينية الحلبية ومواقيتها، بعد تسميم الشاعر جبرائيل الدلال في سجن حلب بثماني سنوات، وقبل عامين من تسميم المفكر الإصلاحي عبد الرحمن الكواكبي في مقهى “إستنبول “في القاهرة.
أبوه الشيخ عمر رسلان، من رجال الدين، عمل أستاذاً للغة العربية ونحوها، في المدرسة الرضائية، إحدى ركائز حي الفرافرة الأرستقراطي، والمدرسة الخسروية الواقعة على مقربة من بوابة قلعة المدينة، أمه اسمها (أسماء) شماع من عائلة، عمل أفرادها في حقل التجارة.
سكنت الأسرة في “حي الجلوم”، الذي لا يزال يحافظ على اسمه السرياني (مكان جز الصوف) وفق كتاب لغة حلب السريانية للأب جرجس شلحت، من أقدم أحياء مدينة حلب، يستند في جهته الغربية على سور المدينة المحاذي لباب إنطاكية، توزعت على جانبيه دور السكن والأسواق والخانات التجارية، وكان منذ زمن حكم الأسرة الحمدانية، مسكناً للفئات الاجتماعية العليا. اجتمع في خاناته في العصرين المملوكي والعثماني، تجار وقناصل الدول الأوروبية، وارتفع على خاصرته الشمالية الغربية “حي العقبة”، الذي تشير أثرياته إلى العصر الحجري، أول مكان مأهول لما ستغدو مدينة حلب. حمّله هذا المكان، المثقل بالزمن والعمارة والأوابد، هاجس البحث في كتب التاريخ واللغة والثقافة الشفهية.
تلقى تعليمه الأول في مدرسة “شمس المعارف”، الواقعة أمام القلعة، وكانت قد أنشأتها الحكومة العثمانية في عام 1904، للارتقاء بالمستوى المتدني لتعليم “الكتاتيب”. اعتمدت هذه المدرسة الحديثة اللغة التركية في تعليم تلاميذها، كما تردد على “المدرسة الرضائية” كطالب مستمع، حيث كان يعلّم والده إلى جانب مجموعة من أبرز معلمي المدينة، الشيخ بشير الغزي مدرس النحو، والشيخ محمد الحنيفي مدرس البلاغة، والشيخ محمد الزرقا مدرس الفقه الإسلامي. إلا أنه حافظ، على دراسته المنتظمة في المدارس الحكومية العثمانية، حتى وصل إلى المرحلة الرشدية، التي تعادل الثانوية، ولم يسمح له والده إتمام التعليم فيها، بعد نفوره من الأفكار الواردة في كتاب “علم حال”، الذي كان يدرس فيه ابنه، وهو كتاب تركي في الفقه. وحمله للالتحاق بالمدرسة الرضائية، وأعطي غرفة، وأمسى من المجاورين. تابع بعدها تحصيله الثقافي بجهوده الذاتية، عززتها الاستجابة المالية السخية لأمه، التي منحته، في وقت مبكر من عمره، القدرة على شراء الكتب، وحفزته للتبحر في تفاصيل المسائل اللغوية والنحوية، ليكّون واحدة من أكبر الخزائن في سورية ولبنان، وفق كتاب (تاريخ الصحافة العربية) للفيكونت فيليب طرزي.
أكمل الوالد سخطه من التركية، التي بدأت تنحو منحى التتريك الإلزامي بمنهجية يقودها ويفرضها حزب الاتحاد والترقي بعد سيطرته على السلطة العثمانية عقب انقلابه عام 1908، بتغيير اسم العائلة من “رسلان” إلى “أسد”، الذي سيضيف عليها بعد بضعة سنوات ابنه “خير الدين” ياء النسبة والـ التعريف، لتغدو الأسدي. وبها سيعرف نفسه ويسجل اسمه على مؤلفاته: خير الدين الأسدي.
-2-
ككلب مسعور، تعقب القدر حياته التي تسير الهوينى، تفككت الأسرة بعد تعثر العلاقة بين أب مهموم بالثقافة وشغوف بالعزلة، والأسفار الطويلة، التي طالما أبعدته عن أسرته، وأم مثقلة بالحنان وحب الأسرة المستقرة والموائد السخية. انتهت الخلافات الدائمة بين الزوجين إلى انفصال، ترك أثره على حياة الفتى، الذي لم يخسر قوة العاطفة التي حرصت الأم على تعويضها وتعزيمها، لكنه فقد العاطفة المتحدة، المتكاملة. اختار العيش مع أمه، وانتقل للسكن معها بعد زواجها الثاني في حي العقبة، منحه مكانه المرتفع، إطلالة يومية على بساتين المدينة، الممتدة إلى جبل الشيخ محسن، وتأمل خضرتها وتجددها وقدرتها على الديمومة.
وعاوده بعد بضع سنوات، ليفقده وحدة الجسد، حين كان يعلم عام 1923 في المدرسة الفاروقية، وكان قد ألف لتلاميذه كتاباً تعليمياً “قواعد الكتابة العربية” عام 1922، وعكف معهم على تشخيص مسرحية “استقلال أمريكا”، بتحليق خافق لأسراب الكلام عن الاستقلال والحرية، بعدما أصر على زج الواقعية في متن العرض المسرحي، وأحضر لذلك كيسًا من البارود الذي يستخدمه الأولاد في إعداد مفرقعاتهم. وبينما كان يوزع حفنات منه على الممثلين، احترق الكيس وأحرق معه كفه الأيسر، الذي فشل الطبيب في مداواته، واقترح عليه بتره من دون تخدير، استلقى الشاب ومد ذراعه باستلام كلي للمصير الذي ينتظره، وتابع بعينيه أسنان المنشار الفولاذية وهي تأكل عظام معصمه، قبل أن يغمى عليه ويغيب عن الوعي. ترك إثرها التدريس في المدرسة الفاروقية، واتجه للتدريس في مدرسة هايكازيان الأرمنية، والأليانس اليهودية، والكلية العلمانية الفرنسية، ومدرسة الأرض المقدسة التي يديرها الآباء الفرنسيسكان. عرّب خلالها مع زميله الأستاذ “بارسيخ تشيستويان” ملحمة “عروج أبي العلاء المعري” للشاعر الأرمني أوديك اسحاقيان.
أفصحت شخصية خير الدين الأسدي، من زمن مبكر عن انطوائية، تأكل ذاتها نفسياً، ولا تكترث بمحيطها التقليدي شعورياً ومعرفياً. وكأنما رفع جداراً، أمام ما يمكن تسميته (منبهات خارجية) الكفاح ضد الانتداب الفرنسي، الاستيطان الصهيوني، الانقلابات العسكرية المتوالية، الأحزاب السياسية، قرارات التأميم، حركات التحرر الوطني. هذا الارتجاج الكوني المتجه نحو التغييرات والثورات لم يصغ إلا إلى (منبهاته الداخلية) بخار الحنان الذي بدده تفكك الأسرة الصغيرة، الجسد الذي عطبه اشتعال البارود، افتقاد جزالة العطاءات الأبوية الآتية على هيئة حفنات من سكاكر وشرائح قمر الدين وأطباق المهلبية وقافلة من أطعمة المذاق الحلو، ونزهات بين البساتين مشفوعة بالأمنيات. لم يتمهل أمام التاريخ العمومي، ومضى إلى تاريخه المفرد، يضع الطربوش في وقت تطلبت تقاليد اللباس وضع العمامة، ويرميه بعد ذلك أرضاً، محتملاً وصف المحيط بالكفر والزندقة والجنون. اختار عيش التاريخ وهو خارجه. من هذا الهدير التي أحاط به وببلده ومدينته، اختار التفاعل مع جمعية هامشية: جمعية العاديات.
-3-
توفي والده عام 1940، أثناء الحرب العالمية الثانية، وانقسام ولاء جيش الانتداب الفرنسي، بين أنصار حكومة الجنرال فيشي الموالية للنازيين، وأنصار فرنسا الحرة التي يقودها الجنرال ديغول. وتصادف دفنه مع قرار منع التجول. وبينما هو والقليل من المشيعين في طريقهم إلى المقبرة، اعترضتهم دورية فرنسية وأمرتهم بفتح التابوت لتتأكد من عدم وجود أسلحة فيه.
وضعته وفاة والده أمام قدر الموت، كحقيقة راسخة ليس منها فكاك، وعززت ميوله نحو التصوف، فعكف على قراءة النفري والسهروردي والشيرازي والبسطامي وابن عربي وجلال الدين الرومي والحلاج. واحتل حافظ الشيرازي المكان الأعلى في اهتماماته. مرض في عام 1945 مرضاً شديداً تراءى له الموت يدنو منه ويلامسه. قرر على أثره وهب مكتبته لمؤسسة ثقافية تعوله لقاء كتبه، وبعد سلسلة من المراسلات مع الجامعة الأميركية في بيروت، وصلت أطرافها إلى أهل السلطة في مدينة حلب، وعملت على تدارك أمرها الذي يشكل فضيحة وطنية، وبعد مفاوضات منح مكتبته إلى “دار الكتب الوطنية” مقابل راتب شهري.
اعتكف ليبدع نصوصاً نثرية في مناجاة الكون والغيب والجسد المماثل. وعلى إنتاج أبحاث ثقّلتها بعض أسئلة القلق المعرفي، وأخرى من التي لا طائل منها ولا حل لها، ربما لأنه لا بداية مدونة تفصح عنها، ولا نهاية متوقعة توقف اضطرابها، عند حد معرفي، أو استقصائي، من نمط الحوارات مع الله، أو رغبة إرادية للاتحاد به. التي انتجتها الاتجاهات الصوفية عبر مسيرتها التأملية.
ما الذي ادخرته الصوفية من أسئلة وتأملات لتعيد طرحه في القرن العشرين، أي خارج زمنها وشرطها التاريخي- المعرفي؟ أتت نثرياته، في “أغاني القبة” على هوامش قصائد أبرز شعراء التصوف الإسلامي. ولم تستطع أن تكون بجانبها، سوى تسكع بظهر مكدود، أمام عمارات صقلها رخام الكلمات وزخارف المعاني، وزمن العصر الوسيط الذي كتبت به.
لم تلتفت الثقافة السائدة ومؤسساتها لتدوينه النثري “أغاني القبة”، وآثرت عليها “أغاني الكبة”، في زمن هو زمنها، تبارى فيه شعراء البلاط الجدد، لاحتلال مواقع “شاعر المنابر” و”شاعر الثورة” و”شاعر الإصلاح الزراعي” و”شاعر المرأة”.
انتقل مع والدته في عام 1946 إلى سكنه الجديد في حي “سيف الدولة”. وبعد بضعة سنوات توفيت والدته، رفيقة حياة امتدت لأكثر من خمسين عاماً. افتقد معها ضجيج الحياة في عزلته الطوعية، صوت آلة الخياطة، أحاديث النسوة الآتيات لخياطة أثوابهن البروكار والأورغانزا، يجففن بها نضح عرق العاطفة، محملات بضجيج الكلام وإبهار الحكايات، يستعضن بها عن هاويات حياتهن وأوجاعها.
ترك في عام 1956 التدريس في المعهد العربي- الفرنسي، بعد أن أحرقه المتظاهرون، أثناء التظاهرات التي أتت دعماً للمقاومة الشعبية في مدينة بورسعيد بمواجهة العدوان الثلاثي (البريطاني –الفرنسي-الصهيوني) على مصر. حصل من إدارته على تعويض مالي، اشترى به أسهماً في شركة الغزل والنسيج، لتكون له مورداً ثابتاً يعيش منه، وبقي معها يدرس في إعداديتي إسكندرون والحكمة.
أممت بين عامي 1960-1961 شركة الغزل والنسيج وخسر فيها كل تعويضاته المالية ومدخراته الأخرى. وكان يرى على أثرها حزيناً شاحباً، يسير في شوارع حلب وحدائقها، متكوراً في زوايا مقاهيها.
اقتنع باكراً بضرورة رفد المعجم العربي الفصيح بمعجم شعبي، باعتبار اللغة كائناً حيًا وتاريخياً، يتجدد باستمرار، وهذا دافعه “لموسوعة حلب المقارنة” التي تقع في حوالي 9000 صفحة. وكان قد وصل بمقالاته وأبحاثه إلى ضرورة الاستعانة باللغات السامية السريانية والعبرية والحامية الأثيوبية والقبطية فضلاً عن الفارسية والتركية والأوردية للوصول إلى معنى الكلمات المتداولة، وهو ما تغافل عنه النحويون العرب في الزمن، واستمرت على نهجهم المجمعات اللغوية العربية المعاصرة.
لم تكن مقالات وأبحاث خير الدين الأسدي، المنشورة والتي لم تنشر قط، سوى تمارين في البحث والتحقيق والتقصي الصبور لهذا العمل الموسوعي، الذي أنجزه بجهد فردي، وصل به إلى حد الإعجاز. عمل يمكن اعتباره مصالحة ديموقراطية بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية. أدخل في متنه الأغاني والأمثال وأنماط الطعام والشراب والهنهونات وترانيم المهد وكلمات المجانين وعباراتهم. تحاور لتوثيق معلوماتها، مع عشرات الباحثين الأوروبيين والعرب.
-4-
لم يعش، خير الدين الأسدي، يوماً بلا أصدقاء، بلا حشد يحيط به من الطلبة والمريدين والمعارف، ومجموعة من الأصدقاء الأثرياء، الذين تعاملوا مع حالته، بوصفها منتج للمرح والتسلية والغرابة، وعمل بعضهم على إيهام الأجيال التالية، أنهم لم يدخروا جهداً لنشر كتاباته أو البحث عن قبره الضائع، كما في إنشاء نصب رمزي له، لكنهم لم ينتجوا إلا الكلام، الذي قد يخفف عنهم ما يمكن إدراجه تحت باب “تبكيت الضمير”، ورغبة للتمسح بباحث وعلامة فذ عمل بجهده المفرد، وقدراته المالية المتآكلة على إنتاج عمل موسوعي “موسوعة حلب المقارنة”.
فارق الحياة، في “دار المبرة الإسلامية” من دون أن يشعر به أحد، بما فيهم من الطاقمين الطبي والإداري، المكلفين بالسهر على حاجات وأوجاع المرضى المقيمين عندهم. تخلصوا بعجالة من جثمانه، بإبلاغهم البلدية عن حالة وفاة، التي أبلغت بدورها دائرة الدفن، التي أرسلت “بيك أب” وعاملاً، حمله إلى صندوقه الخلفي، ومضوا به إلى مقبرة الصالحين، استلمه الحانوتي وحمله تحت ذراعه “ميتكم بخفة الريشة”، ومضى لدفنه في مكان بين قبرين.
ضفة ثالثة