اقصاؤه من العلانية … ينسينا الحياة/ أوجيني باستييه
قال الكاتب فيليب موراي، إن الحداثة ولدت في 1786 في باريس مع قرار إغلاق «مقبرة الأبرياء». وهذه المقبرة، حيث كانت الجثث تتجاور في الهواء الطلق مع المارة، أغلقت نزولاً لدواعٍ صحية، ونقلت العظام والرفات الى سراديب دفن الموتى. وكأن القرن التاسع عشر ولد من رحم «إنهاء الجيرة الملتبسة بين الأحياء والأموات، وهي جيرة تعصى على التحمّل. وتحولت بين ليلة وضحاها الى جيرة كريهة وممقوتة». ومذذاك، يتواصل «انحسار الموت» (من دوائر العلانية)، على نحو ما قال دارس الاجتماعيات بول يونيه. وإثر اقصائه من المدينة، لا يبرز الموت في الحياة المعاصرة الحديثة إلا حين تقع هجمات إرهابية تلطخ أرصفة المدن بالدماء. وفي عصر يخفي جثامينه بعيداً من الأعين، يعيد كتابان صادران حديثاً الموت الى التداول، أولهما هو كتاب «أفول الموت» لروبرت ريديكر، و «حيز الموت» لبول يونيه. وفي «أفول الموت»، يأخذنا الكاتب في رحلة الى الأمكنة التي نتفاداها والطرق التي تفضي الى الـ «هاديس» (العالم السفلي) أو الى المشرحة. ويروي ريديكر، مراحل إخفاء الموت، وهو إخفاء غير مسبوق في تاريخ الفكر الإنساني: «المنية تصيبنا لا محالة، ولكننا لم نعد نفكر في المسألة». ويشرِّح ريديكر زمننا المتناقض حيث يُصنع في مختبرات السيليكون فاليه (وادي السيليكون) خلود تكنولوجي، ويُطالب في البرلمانات بإجازة الانتحار الرحيم، ويعيش المرء الى عقده السادس من دون أن تقع عيناه على مقبرة، في وقت يزجي طفل في العاشرة من العمر وقته بقتل العشرات يومياً على الشاشة. ومن حرق جثامين الموت الى أفول الموت البطولي، يروي ريديكر قصة إنسانية تدفع الموت بعيداً وتخفيه، وتسعى الى نزع طابعه المفارق، وتحويله الى «حق» يُطالب به (الموت الرحيم) شأن الحقوق السائرة.
فرغبات الفرد المعاصر من غير قاع وهي لا متناهية، فهو يرغب في الخلاص قبل الموت، والحياة الأبدية و4 غيغا (الاتصال بالنت سعة 4 غيغابايت) في التابوت. فهو خسر روحه، وشاغله الوحيد، على نحو ما قال الكاتب الفرنسي جورج بيرنانوس (1888- 1948)، هو «النجاة». فنتوسل بعبارة تخفف من هول المصاب وتتفادى الإشارة مباشرة اليه، فيقال عن المتوفى «رحل»، عوض «مات».
وبول يونيه من كبار علماء الاجتماع الفرنسيين، وكتابه يصدر اليوم وكأنه لم «يرحل» بعد، على رغم انه توفي في 19 آب (أغسطس) 2011 بعد سنوات من مرض مرير. ويروي في «حيز الموت» نزعه الأخير وسنوات احتضاره. ففي هذه الصفحات المحمومة، الموشحة بنفس (لويس فردينان) سيلين (الأديب الفرنسي)، يصيبنا دارس الاجتماعيات بشغفه. فيقص علينا قصة آلامه والعناية به، والملاحظات البائسة لرفاقه في غرفة المستشفى، وتفاهات معالجيه، وسيل الذكريات حين إنعاشه، والكتب التي يطالعها على فراش المستشفى، وأثر حبة «ستيلنوكس» (منوم) التي يمنحه إياها الممرضون لينام نوماً هنياً طوال الليل. ويرفض يونيه حقنه بالمخدر لتخفيف آلام مرضه ووجع النزع الأخير، فهو لا يريد أن يحجز بينه وبين الموت حاجز. و «هذا النص هو صفعة في وجه عالمنا المعقم، وهو الوجه المخفي وراء تفاؤل رواد ما بعد الحداثة ودعاة الانتحار الرحيم والمخففين من فظاعته». فـ «نحن عاجزون عن النظر الى عيني الموت (النزع الأخير)»، يكتب ريديكر. والتفكير الفلسفي أو على منوال الفلسفة هو صنو تعلم الموت (وقبوله)، قال مونتاين. ولكن نسيان أننا الى زوال ينسينا العيش والحياة.
* عن «لوفيغارو» الفرنسية، 18/9/2017، إعداد منال نحاس
الحياة