الآثار النفسية المدمّرة لحال الطوارئ/ عبد الكريم أبا زيد
تدخل دائرة حكومية لتوقيع معاملة فيقال لك: لأمر طارئ خرج المدير وسيعود بعد ساعة. لكن هل صدف مرةً أن قالوا لك: لأمر طارئ خرج المدير وسيعود بعد نصف قرن؟!
عندما استولى حزب البعث على السلطة قبل نصف قرن عبر انقلاب عسكري، كان أول قرار اتخذه مجلس قيادة الثورة إعلان حال الطوارئ وما يترتب عليها، فحلّ الأحزاب إلا حزبه، وأغلق الصحف إلا صحيفته، ومنع التجمعات إلا التي يسمح بها مجلس قيادة الثورة لتأييد الحزب الحاكم. قبل عام ونصف العام، رفع النظام حال الطوارئ تعبيراً عن “الانفتاح الديموقراطي” واستبدلها بقانون “مكافحة الإرهاب”. إذا كان المواطن في ظل حال الطوارئ يبقى معتقلاً لسنوات من دون محاكمة فإنه في ظل القانون الجديد يحال على محكمة ميدانية ويُعدَم فوراً!
كل مواطن في سوريا بلغ الخمسين من العمر هو “ابن طوارئ”! لم يذق طعم الحرية ولا يعرف معنى تداول السلطة ولا حرية الصحافة ولا النشاط الحزبي أو النقابي ولا أيّ نوع من الانتخابات، اللهم إلا التي تجري فيها تمثيلية انتخاب مجلس الشعب، حيث تُقسَّم المقاعد سلفاً بين حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية والمستقلين!
أعرف مرشحاً وزّع حلوى قبل شهرين من إجراء الانتخابات بعد أن تبلغ أن القيادة القطرية وافقت على ترشيحه!
الكتب المدرسية عندنا تمجد الحزب القائد وتكرس عبادة الفرد، وإذا كانت سوريا قد نالت استقلالها قبل سبعة وستين عاماً فإن خمسين منها، أي ثلاثة أرباعها عشناها في ظل حكم الحزب القائد، أي في ظل حال الطوارئ. كان التلاميذ في المدارس يُلقَّنون أن نظامنا أحسن نظام في العالم وحكّامنا أحسن حكام في العالم الذين لم يُخلق مثلهم في البلاد! وأن سوريا تتعرض بشكل دائم لمؤامرات إمبريالية وصهيونية بالتواطؤ مع الأنظمة الرجعية العربية، وهذا يفرض علينا أن نكون دائماً في حالة استنفار استعداداً لصد هذه المؤامرات، لذا يجب أن يكون شعارنا “كل شيء من أجل المعركة”!
بعد أربع سنوات من حكم حزب البعث خسرنا الجولان، فقالوا خسرنا الأرض لكنهم لم يستطيعوا تحقيق هدفهم بإسقاط النظام التقدمي المقاوم! الأرض يمكن أن تستعاد، فقد استعادها صلاح الدين الأيوبي بعد مئتي عام، ولكن إذا سقط النظام فهذه كارثة على الأمة العربية جمعاء! في ظل هذا النظام أصبح التملق والنفاق الصفة المميزة، وقد تجلى هذا بوضوح لدى العديد من الصحافيين والمثقفين. كان كاتبو المقالات والأبحاث يستشهدون بأقوال الرفيق القائد كجواز سفر لنشرها. سئل مرة الجنرال ديغول: من هذا الذي كان يجلس إلى يمينك؟ فأجاب: أنا كنت جالساً إلى يسار مالرو!
منذ مدة كنا شلة من المثقفين والصحافيين مجتمعين عند أحدهم. كنا من مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية، قال أحدهم بنبرة ملؤها الثقة بالنفس: تريدون الحقيقة! شعبنا لا يستحق الحرية وهو غير مؤهل لها! نحن شعب يستحق “الدعس بالصرامي”! إن الرئيس بشار كان رحيماً مع “العصابات المسلحة” وأكثر من اللازم! ولو تعامل مع أهالي درعا كما جرى التعامل مع أهالي حماة قبل أكثر من ثلاثين عاماً لخمدت الثورة في مهدها، ولما تكبدنا كل هذه الخسائر في الأرواح والممتلكات! المصيبة أنه كان مقتنعاً بما يقول وليس منافقاً! هذا هو التأثير المخرّب للعقول الذي أحدثته حال الطوارئ!
سألته: تقول إن شعبنا لا يستحق الحرية، ولكن هل جرّبتم طوال نصف قرن إعطاءه الحرية لتعرفوا إن كان يستحقها أم لا؟ ثم هل هناك شعب في العالم غير مؤهل للحرية؟ لو سلّمنا جدلاً أن شعبنا غير مؤهل لممارسة الديموقراطية وتداول السلطة، فهل يصبح مؤهلاً لها من طريق القمع والسجن والقتل تحت التعذيب؟ إنك بحكمك هذا كمن يقول لا أريد أن أرسل ابني إلى المدرسة لأنه لا يعرف القراءة والكتابة، ومتى أصبح يعرفها سأدخله المدرسة. هل تعلم يا عزيزي أن أول شعار رفعه أهالي درعا أثناء تظاهرتهم الأولى كان “الحرية والكرامة”! وعندما لمَّحت الصحف إلى إمكان زيادة الرواتب لإسكات الناس، كان الشعار الذي رفعه المتظاهرون في درعا، وأنا كنت مشاركاً في التظاهرة، هو “الشعب السوري مو جوعان بدّو حرية وأمان!”.
قال آخر: ألا تعتقدون أن ما يجري في سوريا هو مؤامرة إمبريالية صهيونية تموّلها الدول الرجعية في بلدان الخليج؟! أعطوني ربع المبالغ لأشعل لكم ثورة في سويسرا ضد النظام! المصيبة الكبرى أنه قالها جادّاً. ألم أقل لكم إن حال الطوارئ خلقت جيلاً مشوّه التفكير؟! إن المنافق المتملق أقل خطراً، فهو يمشي مع التيار، أما الآخر فإنه يقاتل دفاعاً عن النظام الدكتاتوري عن اقتناع وبشراسة.
سألته: كيف ستشعل ثورة في سويسرا من طريق توزيع الدولارات ما دام نظامها ديموقراطيا ويجري فيه تداول السلطة من طريق الانتخابات والحزب الحاكم هناك لا يتمسك بالسلطة ويقول: “إما أنا وإما لا أحد! إما أنا وإما أدمّر البلد”؟!
إننا فعلاً أبناء طوارئ!
أذكر أن صدامات مسلحة جرت منذ سنوات في أحد أقاليم بنغلادش، طلبت الحكومة من البرلمان السماح لها بفرض حال الطوارئ في ذلك الإقليم فقط لمدة ثلاثة أشهر. ناقش البرلمان طلب الحكومة لكنه لم يوافق إلا على شهرين!! هذا جرى في بنغلادش “المتخلفة”.
المتملقون المنافقون عندنا يبررون فرض حال الطوارئ بأننا نتعرض لمؤامرات إمبريالية صهيونية لأننا بلد مقاومة وممانعة وصمود وتصدٍّ، ونحن البلد الوحيد الذي يتبنى القضية الفلسطينية. علّق أحد الجالسين قائلاً: إذا كان ما تقوله صحيحاً فإن هذا يقتضي إطلاق الحريات، فمن يريد أن يتصدى للمؤامرات التي تحيط بنا من كل جانب كما تقول، فيجب عليه أن يعتمد على الشعب في التصدي لها لا أن يقمعه ويضعه في السجون!
سئل الكسائي، وهو العالم اللغوي الكبير: ما إعراب حتى؟ فأجاب: تعرب حتى حرف غاية ونصب في ما عدا ثلاث وثلاثين حالة. ورُوي عنه أنه قال وهو على فراش الموت: أموت وفي نفسي شيء من حتى!
نحن في سوريا نقول: نموت وفي أنفسنا شيء من قانون الطوارئ