صفحات الرأيهوشنك أوسي

الآيديولوجيات العقيدية وتدمير الشخصية!


هوشنك أوسي

كثيرا ما تتحدث الآيديولوجيات العقيدية، بخاصة منها اليسارية، عن دور الفرد في التاريخ، وأهمية الشخصية، وكيفية تفجير طاقاتها الإبداعية، وتوظيف ملكاتها المعرفية في ما هو خدمة للصالح العام والمجتمع والشعب والوطن وقيم الحب والخير والجمال والجماعة! وتتحدث هذه الآيديولوجيات، أكثر وأكثر، عن أهمية الوصول إلى الشخصية النموذجية التي تتمثل فيها قيم الجماعة، وتترفع عن الأنانية والفردانية، والمعادية للانتهازية، والمندمجة كليا في آيديولوجياتها، والقادرة على صناعة نسخ مطابقة لها في المجتمع، وضمها للجماعة الآيديولوجية الناشطة فيها.

وتسهب التيارات الآيديولوجية هذه في تعداد خصال ومناقب شخصية «الفرد – الجماعة»، من قبيل التفاني في إنجاز المهام، والإخلاص للمنهج الحزبي، والانضباط والالتزام الصارم به، والاستجابة التامة للأوامر، ونكران الذات، والتضحية في سبيل قضية الحزب والقائد والآيديولوجيا، على أنها التضحية في سبيل الشعب والوطن والمجتمع! هكذا، تمضي الآيديولوجيات العقائدية في صهر الأفراد المنتمين لها في بوتقتها، أو ما يمكن تسميتها بـ«ثقوبها السوداء»، وقصف كل مناطق ومراكز الإرادة والتفكير والذات والسؤال والشك، في شخصية المنتمي لها، في مسعى لتدمير الشخصية لصالح الإبقاء على الشخص فقط، وصولا لبلورة «الجماعة – الفرد» ككتلة متراصة، متينة وصلبة، بحيث يغدو وعي المنتمين إليها مسطحا، مندغما بعقيدة الجماعة، لا يقبل أي نشوذ أو نتوء، باعتباره مروقا وخرقا من صنف الخيانة. وربما تدري هذه الجماعات العقيدية، أو أنها حقا لا تدري، الخطورة الفادحة لهذا التوجه على الاختلاف والتنوع الذي يمثل دينامية التطور المجتمعي، وقابلية المجتمع للارتقاء وتجاوز الركون والسكون والجمود والمراوحة.

الجماعات العقيدية اليسارية، وأثناء نقدها التاريخي لمجتمعاتها، تكون دوما محكومة بهاجس أنها «المنقذ» و«المخلص» الذي نجّى المجتمع والشعب من شفير الهاوية والضلال!.. ومنها، من يشتط بها مدح نفسها إلى درجة زعم أنها أحيت شعبا كان ميتا، وفعلت كذا وكذا، عبر إضفاء هالة من التهويمات والتفخيم والتضخيم على سعيها وحراكها، على أنه مبتدأ التاريخ ومنتهاه!.. وترسيخ ذلك في وعي المنتمين إليها والموالين لها، بحيث تغدو هذه التهويمة حقيقة «بديهية» غير قابلة للنقاش والجدل والمساءلة!.. وبالتالي، تحاول هذه الجماعات ترسيخ وهم غريب لدى المنتمين لها، مفاده أن من لا ينتمون لهذه الجماعة، ينتمون للماضي وقذاراته وضلالاته وآثامه وتخريباته. وأن من ينتمون إليها فإنهم روح العصر، وبحوزتهم أو في متناولهم المستقبل. وعليه، تسعى هذه الجماعات إلى تعزيز هذا الوهم لدى المنتمين الجدد لها، وأنهم عليهم التخلي والتبرؤ تماما من الشخصية القديمة، وخلق «ولادة جديدة» لأنفسهم، عبر الاندماج الكلي، الكياني، الروحي والفكري، في الآيديولوجيا العقيدية التي تتبناها الجماعة. وهنا، يدخل الكادر المنتمي في حالة عداء ومقت شديد ومزمن مع ذاته، على أنها نتاج المجتمع المتخلف، الإمبريالي، الرأسمالي، البرجوازي، الإقطاعي، العبودي!.. ويجب عليه تدميرها، وإعادة بنائها وفق منهج وآيديولوجية الحزب العقيدية، الخلاصية، الإنقاذية، اللاطبقية، اللادولتية!.. فيُدخِل الشخص المنتمي نفسه طوعا (تحت تأثير الديماغوجية العقيدية) في حالة من القمع والكبت والحرمان الذاتي، على الصعيد النفسي والجسدي والفكري. وبالتالي، تنشأ لديه حالة كره وعدوانية شديدة «للمارقين» أو المنشقين عن جماعته، وحتى من الناس العاديين أيضا، ناظرا إليهم بسخف وازدراء، تحت ضغط إحساس باطني، مؤداه أنهم حصلوا على هامش من الحرية والشخصية والفردانية، التي هو محروم منها، أو حرم نفسه منها!.. وهذه الكراهية والعداونية تجاه الآخر تنطوي على شعور أنه يجب على كل الناس أن يكونوا مكبوتين ومقموعين ومقوضين مثله، ينحون نحوه، ويكونون نسخا منه!.. ويؤرقه تساؤل وجودي «لماذا أنا أضحي والآخرون يتمتعون؟!». وأثناء محاولته جعل الناس مثله، ثمة شعور منعكس، دفين وعميق وجامح وخفي، يستبد به، مفاده أنه يجب أن يكون هو مثل الناس، بأن يجعلهم مثله، لا أن يجعل نفسه مثلهم!

وهنا، الشخصية المثلى التي تسعى الآيديولوجيا العقيدية إليها هي الشخصية العجينية المطواعة، المسلوبة الإرادة، والفاقدة القدرة على التفكير المختلف، أو الشك بالآيديولوجيا والحزب والقيادة والقضية أو الدعوى التي ينشط تحت لوائها!

ولأن الآيديولوجيا العقيدية، بخاصة اليسارية، تنظر إلى نفسها على شاكلة «أنا التاريخ، أنا الشعب، أنا القضية، أنا الوطن، أنا البداية والنهاية، أنا الطهر والنقاء والانبعاث»، وفق مبدأ «الفرقة الناجية من النار»، وتنظر إلى الآخرين على أنهم التخلف والرجعية والحضيض والكارثة والبؤس وأسفل السافلين والساقطين..! لذا، فإن المنتمين لها يتحركون وفق هذه الأنا المتورمة!.. ونتيجة النظرة الدونية التي تتبناها الآيديولوجيا العقيدية لوعي وعقل الآخر، فالآخر خارج أطر الجماعية العقيدية مرفوض، فما بالكم بالآخر داخلها، فهو مقموع وملغى ومنبوذ، وعرضة للتجريد والتشهير، وتكال بحقه أشنع الأوصاف والتهم، وقد تصل لدرجة تصفيته!.. ذلك أنه داخل الآيديولوجيا العقيدية، الناشطة وفق مبدأ «الفرد – الجماعة، والجماعة – الفرد»، لا يوجد أي هامش لدور أو حضور الآخر، إلا كضد وعدو وخصم، ينبغي إزالته وإلغاؤه واجتثاثه، وفي أفضل الأحوال التحسب والحذر والتحوط منه!

تنتقد الجماعات الآيديولوجية، بخاصة منها اليسارية/ الثورية، المثقف والشخصية المثقفة، على أنها لا تلعب الدور المنوط بها، وأنها منفعية، ولا مبالية، ولا مسؤولة، وأنانية وانتهازية ووصولية ونرجسية..! وهذا النقد، قد ينطوي على قدر من الصواب، إلا أنه يهدف إلى خلق حالة من العداء والكراهية والبغض والنقمة لدى كوادر وأعضاء الجماعة الآيديولوجية على شخصية المثقف، بوصفه «شيطانا رجيما»، يجب دوما رجمه، أو التحوط والحذر منه ومن أفكاره التي تثير الفتنة والبلبلة، والهدف منها دق الأسافين وتمزيق وحدة الصف والرأي الواحد!.. وفي هذا السلوك، فعل استباقي من قبل الجماعة الآيديولوجية، إزاء أي احتكاك أو تواصل بين أي من المنتمين لها مع أي مثقف!.. وحين تنتقد هذه الجماعات شخصية المثقف وأداءه، على النحو الذي تم ذكره آنفا، فإنها تحدد خصال ومواصفات «المثقف العضوي» المجدي والحقيقي والنموذجي، الوطني، الثوري، على أنه؛ مَن يسوّق للقضية وفق وجهة نظر الجماعة الآيديولوجية، وبل يسوّق لهذه الجماعة أيضا.

وعليه، تعتبر الشخصية القلقة والناقدة والتي لها علاقة بنزعة الشك والسؤال، من ألد أعداء الجماعات الآيديولوجية العقيدية. ذلك أن هذه الآيديولوجيات دأبها الاشتغال على العواطف، والدفع بالبشر نحو الإيمان والإذعان النفسي والعقلي المطلق، لما تروج له وتدعو إليه!.. لذا، لا يمكن لمن يتمتع ببذرة الثقافة، ويريد أن تنمو في داخله شتلة الاستنارة، ويسعى لتوسيع أفقه، أن يعيش في مناخات الأحزاب العقيدية الآيديولوجية.. تلك المناخات الموبوءة بكربون الاستبداد والأحادية الخانقة. ورأينا كيف كانت النازية تحارب وتطارد الكثير من المثقفين، وترهبهم، وتجعلهم يلوذون بالتورية الأدبية، أثناء انتقاداتهم لها. ورغم ذلك، لم ينج الكثير من المثقفين من ملاحقات ومضايقات النظام العقيدي الآيديولوجي النازي، كالأخوين هاينرش وتوماس مان.

ولعل تجربة الشاعر والأديب الروسي فلاديمير مايكوفسكي، الذي افتتن بالأفكار الثورية وانحاز لها، في بداياته، خير مثال، حيث إنه سرعان ما شعر بالصدمة والخيبة والخذلان حين اكتشف زيف تلك الأفكار في الحقبة الستالينية. ولأن الأدب والإبداع لم يسعفاه بالتخفيف عن غضبه وشعوره المرير بالندم والخيبة والانكسار، فقد لجأ إلى الانتحار، وهو في السابعة والثلاثين من عمره، احتجاجا على مرارة وقسوة الواقع، وخيبة الأمل التي مُني بها، حين وجد أن الثورة التي حلم بها ودافع عنها تنهار أمام ناظريه، بعد أن تحولت إلى وحش، وأصبحت تلتهم أبناءها الثوار، وحولت الوطن إلى سجن، والقضية والشعب إلى مطية وقطعان.

والحق أن كثيرين من المبدعين، نحوا منحى مايكوفسكي، حين انتهت الثورة، وأتى زمن الدولة الآيديولوجية العقيدية، وسيدها ستالين، مما جعل يأسا هائلا يستشري فيهم، أدى بهم إلى اختيار الموت ملاذا من أوضاع ومناخات، ما عادت تطاق. والذين لم ينتحروا تكفلت السلطات الستالينية، ودوما باسم الحفاظ على الثورة والشعب والقضية، بإعدامهم أو نفيهم أو سجنهم!

وكانت سنوات مايكوفسكي الأخيرة شديدة الوطأة عليه، لأن المتشددين الحزبيين صاروا يمطرونه ورفاقه بالاتهامات، من قبيل «برجوازي صغير، وفردي النزعة، وشكلاني التعبير».. وهذه التهم، كما هي الآن، كانت في منظور تلك الحقبة توازي الخيانة، مما زاد من حدة يأس مايكوفسكي إزاء الثورة التي حولها الحزب الشيوعي إلى آلة بيروقراطية تنتج الرعب والرهاب. واليأس الحاصل لدى مايكوفسكي لم يدفعه للتراجع والخوف والتردد، مع أنه كان يعرف ضرائب وأكلاف مواقفه وآرائه، فأمعن في التحدي، موصلا إياه إلى مستوى خطير، مع مسرحيته «الحمامات». وبحسب الكاتب والناقد إبراهيم العريس، فإن هذه المسرحية كانت التعبير عن هم مايكوفسكي و«تنديده بالذين غدروا بأحلام الثورة الروسية، أولئك الطامعين البيروقراطيين الحزبيين الذين هيمنوا على مقدرات الدولة، محطمين الأحلام الثورية اليوتوبية الكبيرة».

وعليه، منذ محاكمة سقراط وإعدامه، مرورا بالتصفية السياسية والثقافية لابن رشد ومحاصرته وتكفيره وإحراق كتبه، وليس انتهاء باغتيال ناجي العلي وموسى عنتر وهرانت دينك ومشعل التمو.. كل هذه الجرائم هي حلقات من سلسلة لن تنتهي، ما بقيت منظومة عقيدية آيديولوجية سياسية تزاول العنف على الأرض. ذلك أن الطراز العقائدي من التفكير والحراك يرفض تماما بروز شخصيات، إلا حين تكون منساقة ومنقادة ومطواعة لها. ولا نبالغ إن نعتنا المنظومات الآيديولوجية العقيدية بأنها مصانع العبيد، الجاهزين لارتكاب أبشع الجرائم، ظنا منهم أنهم أصحاب حق وطلاب عدالة وحرية!

* كاتب وشاعر كردي سوري

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى