الأبعاد المجتمعية للثورة السورية/ جورج صبرة
مهما اختلف المحللون والباحثون بشأن انطلاقة الثورة السورية ومجرياتها، لن يختلفوا على أنها ثورة السوريين على الظلم والاستبداد، وجاءت في إطار الربيع العربي، وربما تتويجاً له، لأن التغيير في سوريا، وارتداداته الداخلية والإقليمية والدولية، تتعدى الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعب السوري، ليشمل القضايا الجيوسياسية في المنطقة، ومصيرها في إطار الصراع الدولي، وقضايا الأمن والاستقرار والسلام في العالم أيضاً. وهذا يفسر الصعوبات التي تواجهها الثورة، والتعقيدات التي تحيط بها، بحيث صارت قضية إقليمية ودولية بامتياز.
إن موقع سوريا على خريطة الشرق الأوسط، ودورها في تاريخ المنطقة، يؤهلانها، باستمرار، لتكون مكاناً للصراع فيه ودولة للصراع عليها.
أما في الداخل السوري، فللثورة أبعاد متعددة، ميزتها عن مثيلاتها في العالم العربي، فقد نسجتها خيوط نصف قرن من التشابك والانقطاع والصراعات الصاخبة والمكتومة بين القوى الاجتماعية والسياسية، خلال عمر الاستبداد المديد، وتحت سيطرته وسطوته، في إطار دولة تسلطية شمولية عزّ نظيرها.
1- البعد الاقتصادي: الريف حاضنة الثورة وأرضها الخصبة.
على الرغم من أن إرهاصات الثورة كانت مدينية ومدنية، برزت في دمشق العاصمة، إلا أن السمة الأبرز للحراك الثوري، ونشاطاته المتنوعة الريادية واللاحقة، هو الريفية. حيث كان أبناء الريف المحرك الأول للتظاهرات، وصارت سواعدهم المسند الأول لبندقية الثورة عندما تسلحت. حتى إن أول تظاهرة خرجت من الجامع الأموي في 15/3/2011 صممت، ونفذت، بأيدي شباب ريفيين، ومن مختلف المناطق والطوائف. لم يكن الفقر وحده دافعاً، إنما كان، إلى جانبه، التفاوت الحاد بين الطبقات الاجتماعية، في توفير أسباب الحياة وآمال المستقبل، والتهميش الكبير الذي شعر به معظم السوريين، وخصوصاً أهل الريف، من الأكثرية في العمل العام وإدارة شؤون البلاد.
وكان لتآكل الطبقة الوسطى المتدرج، والتدهور المستمر في أوضاعها، أن وضعا البلاد أمام ثنائية حادة بين من يملكون كل شيء، ومن لا يملكون شيئاً. بين من يقبضون على السلطة والمال والمعرفة، ومن وجدوا أنفسهم على الهامش من دون حاضر، ولا مستقبل، ما عمم سخطاً واسعاً على النظام في الريف، وفي أوساط الطبقة الوسطى في المدينة. إذا أضفنا إلى ذلك حجم الأراضي المصادرة، والمستملكة من مؤسسات الدولة والجيش، وحجم الاعتداءات على أملاك الفلاحين من أصحاب النفوذ، لإنشاء مزارع، وامتلاك عقارات بريعية المواقع الرسمية التي يحتلونها، وفشل الخطط الزراعية في تنمية الريف، نعرف أن أهل الريف، وسكانه، صاروا ينتظرون صرخة احتجاج واستنكار، ليرددوا صداها، ويتجاوبوا معها.
2- البعد الاجتماعي: الشباب وقود الثورة، ومحركها الأساس، وللمرأة دور مميز، ومعاناة استثنائية.
من الطبيعي أن تصعد كل الثورات بعزم الشباب أولاً، غير أن ما ميز الثورة السورية هو المساهمة الكبرى للشباب المبكر فيها، حتى إن آلافاً منهم دخلوا السجون، وهم دون الثامنة عشرة من العمر. كان التسرب من المدرسة، وانعدام فرص العمل اللائقة، سبباً في تراكم الشباب، وتزاحمهم في مواقع العمل المؤقت والمجهد والبسيط العائدية، (كراجات تصليح السيارات -جني المحاصيل -ورشات البناء)، ما وفر خلايا جاهزة للانطلاق في مسيرة الثورة من دون تردد، خصوصاً وأن هذا الجيل يحمِّل آباءه مسؤولية استقرار الاستبداد، ونظام التمييز، وتأبيده على أعناق السوريين، فخرج الأبناء من دون حسابات الآباء وخارج إرادتهم، وأبناء البعثيين في المقدمة.
للمرأة السورية صفحة مشرقة في سجل الثورة، من بداية البدايات إلى التظاهرات إلى حمل السلاح والقتال، وشاركت متفوقة في جميع النشاطات، مع ما اقتضته ظروفها من اعتقال وتعذيب وتهجير ومعاناة، في الترحيل الداخلي، والتهجير الخارجي في مخيمات اللجوء (بين شهداء الثورة 12000 شهيدة). وكان الاغتصاب أشنع ما تعرضت له المرأة السورية، من حقد النظام وبربريته، حين تعرضت أكثر من 800 فتاة للاغتصاب، نصفهن قاصرات، وحالات عديدة تمت تحت أنظار الأهل، وأكثر من 200 حالة تمت في السجون والمعتقلات.
3- البعد الديني/ الطائفي: المساجد بوابة الثورة ومراكز انطلاقها.
ولدت سوريا دولة مدنية بعد الاستقلال، وبقيت كذلك، غير أن النهج الطائفي الذي اعتمدته السلطة، للاستمرار في الحكم، كان يذر قرنه في المجتمع رويداً رويداً، ويتسلل إلى مؤسسات الدولة، بدءاً من الجيش والأجهزة الأمنية، حتى شمل بقية القطاعات. وهذا نتيجة التسلط الأقلوي على حكم البلاد بقوة القهر، الذي استدعى عصبوية طائفية، تكون بديلاً عن القاعدة الشعبية اللازمة لأي سلطة. فصار العلويون حراس النظام الذي بناه حافظ الأسد في 1970، ويستمر حتى الآن، ووضعهم في مواجهة الشعب، من دون أن يكون للفئات الشعبية والفقراء منهم حظوة تذكر. استخدم الطائفة قاعدة للوصول إلى السلطة، ويضعها الآن رهينة للاستمرار فيها.
في بلاد ليس فيها قانون ينظم الحياة السياسية، ويوفر للأحزاب مقراتٍ حرة، ونشاطات برعاية القانون، وتنعدم فيها منظمات المجتمع المدني، المستقلة والفاعلة. بقيت المساجد المكان الوحيد الذي يتسع لحيز بسيط من الحضور الحر، على الرغم من هيمنة السلطة على المؤسسات الدينية، وهيمنة دار الإفتاء على حركة المساجد. فهل يحق لأحد، بعد هذا، أن يستغرب انطلاق التظاهرات من المساجد؟ فشكراً للمساجد لأنها فتحت أبوابها لتخرج منها الثورة.
وبالتالي، هناك مائة سبب وسبب، ليكون المسلمون السنة عصب الثورة، وقاعدتها، وفي بنيتها الأساس. منذ البدايات وحتى حمل السلاح، شاركت الطوائف الأخرى، من مسيحيين ودروز وإسماعيلية وعلويين في مختلف النشاطات الثورية، في الداخل والخارج. وكانت شعارات الثورة، وأسماء الجمع، تعبر عن هذه المشاركة، وتحض عليها. (الجمعة العظيمة – جمعة صالح العلي)، غير أن عنف النظام الذي تجاوز كل حد، والمجازر الطائفية المبكرة التي ارتكبها (البيضة والحولة) دفع إلى أسلمة الثورة، للدفاع عن المسلمين السنة، المستهدفين بوضوح لا تخطئه العين.
4- البعد العشائري: العشيرة ومؤثرات التسلط والفساد.
منذ أيام الثورة الأولى، امتلأت السجون بشباب عشائر الجولان المحتل، الموجودين أساساً في ريف دمشق والمحافظات المجاورة. ومن نسميهم ” النازحين” كانوا رأس الحربة في إطلاق الثورة، وحمل السلاح، في تجمعاتهم المنتشرة في ضواحي دمشق، مثل (سبينة –حجيرة –جديدة الفضل –الحجر الأسود)، فقد أطلقت العشيرة الجولانية أبناءها من دون قيود أو حدود، لأن أهل الجولان كانوا الضحية الكبرى لنظام القمع الذي سبب نزوحهم من أرضهم المحتلة، وتخاذل عن فعل شيء لاستردادها. ولم يوفر لهم الحدود الدنيا للعيش الكريم، أكثر من أربعة عقود هي عمر النكسة. ونتيجة ذلك، ظلوا على هامش المجتمع، وخارج رعاية الدولة واهتمامها. فقدوا مرتكزات مجتمعهم القديم، وأشكال الحماية التي يوفرها، من دون أن يحصلوا على حماية بديلة، أو ينخرطوا في المجتمعات الجديدة التي جاوروها قسراً، فكانت الثورة دواءهم المنتظر، ومن هذه العشائر: النعيم -الفضل –الفاعور.
أما عشائر الشمال (شمر –الجبور –البقارة –العقيدات) فقد تنازعتها نوازع التسلط والفساد التي اعتمدها النظام في شراء ولاءات ضمن هذه العشائر، كجزء من نهجه التفتيتي، لوحدة المجتمع. ونجح في تصنيع مرتكزات من أبناء العشائر، فنشأ في كل عشيرة اتجاه انتهازي، يتعامل مع النظام، وينفذ توجهاته بهذا القدر أو ذاك من الحذر والتمويه، غير أن التوجه العام للعشيرة السورية كان مع الثورة، ومضافات شيوخها التاريخيين، وذوي الاعتبار، بقيت مضافات للثورة، ومنصات لانطلاقها. ولم تستطع انقسامات الأخوة، وأبناء العمومة داخل العشيرة، أن تلغي هذه الحقيقة. فأخذت العشيرة السورية مكانها المرموق في جميع المكونات السياسية للمعارضة السورية، وقدمت إضافة نوعية لنشاطها، بالاستفادة من البعدين العربي والإقليمي للعشيرة.
هوية الثورة:
• شعبية: برز فيها ضعف دور النخب وهامشيته، فالمحرك الأساس والفاعل الأول والأخير هو جماهير الشعب. لذلك، افتقدت الثورة للقيادة المركزية. فليس لحزب، أو جماعة، أو تكتل، أو أي شخص الادعاء بدور قيادي، أو مميز في الثورة. وبقي عدد كبير من النخب الثقافية والسياسية والقيادات الدينية والاجتماعية في موقع المراقبة والوسطية والانتظار، بينما اتخذ بعضهم موقف الشك والنأي بالنفس عن الثورة، وأحداثها.
• وطنية: شملت كل المناطق السورية من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، وضمت إلى صفوفها جميع مكونات الشعب القومية، كالعرب والكرد والتركمان والسريان الآشوريين وغيرهم، والمكونات الدينية والطائفية، كالمسلمين السنة والمسيحيين والدروز والإسماعيلية والعلويين، وإنْ، بنسب متفاوتة، لا بد من بحث أسبابها بالتفصيل في دراساتٍ متأنية ومتخصصة.
• ديمقراطية: شعارات الثورة عبرت بقوة عن وطنيتها، وعن ديمقراطيتها في الوقت نفسه، منذ الإرهاصات في حادثة الحريقة 17 شباط 2011 “الشعب السوري ما بينذل” إلى تظاهرة الجامع الأموي 15 /3/ 2011 “حرية حرية” وحتى شعارات “الحرية والكرامة” في درعا “الشعب السوري واحد واحد” و”الشعب يريد إسقاط النظام” الذي تردد في جميع المدن السورية. وحتى بعد أن حمل الثوار السلاح، دفاعاً عن أنفسهم وعن ذويهم، بقيت أهداف الثورة متمحورة حول الحرية والديمقراطية، قضيتين مركزيتين وراء تضحياتها في سبيل إسقاط الاستبداد.
مجتمع تاريخي بتنوعه، غني ومعقد بتركيبه، متسارع بتحولاته، وثورة بهذا العمق والاتساع والطموح، لا يمكن تلبية استحقاقاتهما في عجالة كهذه، فعذراً للقصور.
_________________________________________________
ورقة قدمت في مؤتمر “الوحدة الوطنية والعيش المشترك” في الدوحة 2 – 3 نيسان 2014، وخص كاتبها، جورج صبرة، موقع “العربي الجديد” بها لنشرها.
جميع حقوق النشر محفوظة 2014
العربي الجديد