الأبوة الوطنيّة السورية الثالثة/ رستم محمود
لسوء حظ عاثر، لم يفصل بين الاستقلال السوري وهزيمة 1948 سوى عامين فحسب. وقتها، أضيف الى جرح النرجسية السورية الأول جرح آخر. وقتها، كان للهزيمة بُعد تحطيمي لمخيلة النُخب السياسيّة والثقافيّة في المدن السوريّة، التي كانت مثخنة بما اعتبرته تقسيماً لسورية الطبيعيّة عقب الحرب العالميّة الأولى، حيث ما كادت تنتشي بالاستقلال حتى لحق بها هذا المصاب.
من أنقاض ذلك نبتت شجرة الشموليّة السوريّة الأولى، التي تمثلت بتناغم غير معلن بين العسكر والقوميين الانقلابيين واليسار الثوري، شكل بمجموعه تحولاً كاريكاتورياً في معاني الأهداف التي كان يتبناها.
فالعسكر الذين لم يستطيعوا مجابهة إسرائيل، عادوا وانقلبوا على الحياة الديموقراطيّة والحريات العامة على بدائيتها. واليساريون باتوا يعتبرون ميسوري البلاد أعداءهم الأكثر شناعة، وأن عملية إفقارهم تفوق أي انشغال آخر. والقوميون الذين رصدوا هزيمة العرب مُجتمعين، عادوا وسكّوا أدبيات العداء لأقليات البلاد.
شكلت تلك الديناميات السياسيّة والأيديولوجيّة والاقتصاديّة ما يُمكن تسميته بـ «الأبوة الوطنيّة الأولى»، التي باتت معها دمشق «قلب العروبة النابض»، ومركزاً لأول انقلاب عسكري في عصر العرب الحديث، وفتح السياسيون السوريون ذراعهم للوحدة الشموليّة التي قضت على الحياة العامة والسياسيّة وكُل الحريات العامة. الأبوة الوطنية السورية وقتها، تشكلت كغمامة من الخطابات والمؤسسات والسياسات والسلوكيات التسلطية تجاه السوريين، وفي شكلٍ أكثف تجاه الأخوة الأضعف في المحيط، من فلسطينيين ولبنانيين وأردنيين.
بدأت هذه الأبوة مع الانقلاب العسكري الأول عام 1949 وانتهت بنهاية حكم حافظ الأسد، مروراً بالوحدة والانقلابين البعثيين. فطوال هذه المرحلة، كان ثمة صوت قوي في كُل شيء، يمنح نفسه شرعيّة تحطيم الأصوات الأخرى.
كان حُكم بشار الأسد بداية لعصر جديد من الأبوة الوطنيّة السوريّة. ففيما كانت الأبوة الأولى تمزج في خطابها بين فلسطين والعروبة والوحدة واستثنائية الزعيم، كانت الأسدية الجديدة تحاول الإيحاء بأنها المؤسسة لـ «سورية أولاً». ومحل القومية العربية والنظريات الأيديولوجية، حلت مُصطلحات وخُطب خزعبلية عن التطوير والتحديث والتنميّة الإداريّة والانفتاح. ومكان الانتقام الأول من أغنياء البلاد، صار تحطيم فقرائها الأضعف هو السياسة الاقتصادية الفعلية، التي باعت البلاد لقائد المسيرة وأقاربه، وبات على السوريين أن يجربوا حظهم العاثر في العمالة الرخيصة في البلدان المجاورة، وأن تمتلئ مدن سورية بالعشوائيات، فيما يجف في أريافها الشاسعة كل شكل للحياة.
كان غرور نُخب الحكم وتسلّطها على العامة المشترك الدائم بين الأبوتين. العامة الذيــن كان أي اعتراض منهم على ما يُمارَس بحقهم، يجعلهم أعداء للبلاد ولهذه الوطنية المفروضة، التي صارت تُغــطي بغـــمامتها الأيديولوجية والخطابية وأجهزتها القمعية كُل أشكال الحياة.
فقد كانت السلوكيات الإجرامية للنظام السوري وذويه بحق السوريين مُحصلة وتتويجاً لسنوات الأبوة الوطنية السورية الثانية. فكل أبوة تبدأ بهزيمة وتنتهي بتحطيم ما.
على أنقاض ذلك، تتأسس راهناً أشكال مشوهة من الأبوة الوطنية السورية الثالثة، وهي متينة القوام، في أوساطٍ غير قليلة من المعارضين.
تتجرع مصادرها الإرث الرومانسي للشهور الأولى من الثورة السورية، مع مقولات عن واحدية المجتمع السوري وأبدية وحدة التراب السوري ومركزية الحكم المُتخيل له مستقبلاً، مُتشبثة بطيف الدولة المدنية المفترضة والمواطنة الأكثر افتراضية.
باسم جميع عناصرها الافتراضية تلك، وبهروبها الدائم مع جميع الوقائع والأسئلة الفعلية التي تقول عكس تلك المفترضات تماماً، فإن هذه الأبوة السوريّة الثالثة، مثل الأخيرتين، تسعى الى أن تفرض مسطرتها وخياراتها ولغتها ورموزها وبرامجها على المختلفين معها. وهي مثل غيرها لا تتوانى عن نبذ هذه العناصر المختلفة، ونعتهم بسوء الجدارة والولاء لما تعتبره القيم العليا لـ «الوطنيّة السورية». وربما في مرحلة لاحقة، قد تستخدم ضدهم السلوكيات القمعية الشمولية التي مارستها الأبوتان السابقتان، هذا لو تمكنت من بناء المؤسسات نفسها، وهي على كل حال جربت حظها في ذلك في غير مناسبة ومكان سيطرت عليه.
لهذه الأبوة الثالثة ضحايا أيضاً، يجمعهم بضحايا الأبوتين السابقتين الضعف والقابلية لأن يكونوا الأعداء الوظيفيين لهذه الأبوة. ويشكل أبناء الأقليات ومطالبهم التي لا تتطابق مع مخيلة أبناء هذه الأبوة الوطنية الجديدة، أكثر العناصر قابلية لأن يكونوا الأعداء الجدد. وهل مثل كالأقليات أولاد عاقّون يحتاجون إلى أبوة صارمة!؟
* كاتب سوري.
الحياة