صفحات سوريةوائل السواح

الأب باولو وبؤس المعارضة السورية/ وائل السوّاح

 ما زال نبأ مقتل الأب باولو دالوليو غير مؤكد، ولكن هذا ليس مؤشراً جيداً. إنه على العكس دلالة على مدى تدهور المستوى السياسي والأخلاقي للقوى الإسلامية التي فرضت نفسها بقوة السلاح على ثورة السوريين وغيرت مسارها من ثورة حرية وكرامة إلى قتال مسلح بهدف إقامة دولة إسلامية.

إن صحّ خبر مقتل الأب باولو فسيكون ذلك واحداً من أسوأ ما اقترفته الثورة السورية. ولكن المسألة لا يجب أن تناقَش على هذا الصعيد. فحتى لو أن الخبر كان كاذباً، فلن يقلل ذلك من هول جريمة اختطاف الرجل وإهانته وإساءة معاملته. ما يخيف في الأنباء المتواترة عن الرجل هو تقبّل الناس لإمكانية حدوث ذلك وانخفاض مستوى الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية عند أمراء الحرب السوريين والأجانب في سوريا.

يمكن بالطبع الحديث عن المائة ألف الشهيد الذين قتلهم النظام الفاشي في سورية من المدنيين والنساء والأطفال والشيوخ. ويمكن المحاججة بأن الأب باولو ليس أغلى على قلب محبيه من أي طفل سوري استشهد، تحت القصف أو بيد قناص أو شبيح، على قلب أمه وأبيه. هذا صحيح من جانب. ولكن من جانب آخر ثمة رمزية لا يمكن تجاهلها بمساواتية ساذجة لمقتل الأب باولو، الذي جاء إلى سوريا وعمل على تعزيز ثقافة التعايش التي كانت قائمة في سوريا، وزاد عليها ثقافة الفهم المشترك والكينونة الواحدة، من خلال نشاطه في دير مار موسى الذي كان يرتاده مسلمون ومسيحيون ويهود وملحدون ولاأدريون، كلُّ يصلي أو يتأمل على طريقته، ويسعى إلى فهم الآخر والتواصل معه.

ليس هذا مديحاً للرجل الذي قضى ثلاثين عاماً من عمره في دير مار موسى الحبشي في جبال القلمون بعد أن تمكن من إعادة بنائه، ودعم مطالب الثورة منذ بدايتها، ثم أعلن انضمامه الفعلي إليها، وزار مدينة القصير، فطرده النظام السوري باعتباره شخصاً غير مرغوب فيه. ليس مديحا لمن قال علناً: “نحن من خفقت قلوبنا وأرواحنا مع الانقضاض الهمجي لبشار الأسد وجيشه على سورية ومعالمها وتراثها وآثارها. لماذا تحزنون إذا سقطت القذائف على الجامع الأموي؟ أين المشكلة؟ الخرائط والمخططات القديمة عندنا، وسنقوم بإعادة إعماره وترميمه بعد سقوط النظام. المهم أن يسقط النظام ويذهب الديكتاتور والباقي سهل”. هو إقرار لحقيقة يريد الإسلاميون شطبها، ببساطة لأنها تتناقض مع رؤيتهم الأحادية الضيقة لشكل سوريا التي لا تتسع برأيهم إلا للون واحد ودين واحد ومذهب واحد.

يمكن أيضاً المحاججة، كما فعل بعض المعارضين السوريين في الخارج، بأن من قتل الأب باولو هم عملاء النظام السوري في تنظيم “دولة العراق والشام”. وقد يكون في هذا الادعاء حظ كبير من الصحة. ولكن هذا يدفعنا إلى التساؤل عن مدى الفقر المدقع في رد فعل المعارضة السورية على هذا الحدث الجلل. فحتى الآن لم تقم المعارضة السورية بمجرد إدانة رمزية لمختطفي الأب باولو. والتصريح الخجول الذي أصدره قبل يومين الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة لا يزيد عن مجرد التعبير عن “بالغ قلقه على وضع الأب باولو دالوليو الذي اختفى في مدينة الرقة منذ أسابيع”.

القلق هو أقصى ما وصل إليه الحس السياسي والأمني والأخلاقي لأهم مظلة معارضة سورية من المفترض أنها تمثل جميع السوريين وليس فئة محددة منهم. ولكن اسوأ من “القلق” وصف ما جرى للأب باولو بـ “الاختفاء”، فهل ثمَّة احتمال في أن الرجل مضى في نزهة وضاع في غابة، أم أنه مختف عن قصد بهدف إثارة قلق السوريين والعالم عليه؟

يضيف بيان الائتلاف أنه على الرغم مما “قيل” عن استشهاد الأب في مدينة الرقة، إلا أن الأخبار القادمة من الرقة بخصوص الرجل “تؤكد أن الأب باولو على قيد الحياة، ولكن لم يعرف مكان تواجده حتى اللحظة أو الظروف المحيطة باختفائه”.

إذا كان الائتلاف بكل الإمكانيات المتوفرة لديه ودعم السوريين له واعتراف العالم به غير قادر على معرفة مكان تواجده حتى اللحظة أو الظروف المحيطة باختفائه، فالأولى به أن يتنحى عن موقع الصدارة التي وضع نفسه فيها، وأن يعلن للسوريين أنه غير قادر على تمثيلهم وقيادة ثورتهم.

وأخيراً يشدد الائتلاف “على ضرورة التزام مبادئ الثورة في حماية المدنيين ومن بينهم الصحفيون ورجال الدين، وعلى أهمية احترام المعتقدات والمقدسات والحريات العامة والانتصار لحقوق الإنسان ولكرامته وللمثل العليا للدين وللحق وللإنسانية”.

وبيان الائتلاف بخصوص الأب باولو يمثل قمة البؤس والانحطاط الذي وصلت إليه المعارضة السورية العاجزة حتى عن الإشارة بالإصبع إلى الطرف الذي قام باختطاف الأب باولو. وفي رد مباشر من أحد رجال الدين السوريين، قال الأب سبيريدون طنوس إن الائتلاف “يتهرب من تحمل مسؤولياته” تجاه السوريين. في الحقيقة، الهروب هو أفضل وصف يمكن أن ينطبق على الائتلاف في هذه الحالة، لأن الاحتمال الآخر هو أن تكون بعض أطراف الائتلاف مشاركة في جريمة اختطاف الأب باولو ومقتله، الذي لا نزال نأمل أن يكون خبراً كاذباً.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى