صفحات الناس

الأب منشقّ الأمّ علوية والإبن نازح/ فاروق يوسف

ها نحن نصعد الى الخالق من غير أن تسبقنا ذنوبنا. قتلى بدم بارد، لا شهداء تتبعنا اللافتات المتحذلقة. نستحقّ المزيد من ابتسامات الملائكة. نستحقّ أغصان الورد على الأذنين. نستحق أن يُعاد استنساخنا بموادّ غير قابلة للتلف. لقد عشنا حياتنا بين حاجزين في الطريق إلى وظيفتنا الأخيرة. سلّمنا الرفيق الحزبي المتأنق بلباسه الزيتوني إلى رجل الدين الملتحي، فيما الجارات المنقّبات يزغردن لوقوعنا مخمورين في فخّ التقية.

في كل ما فعلناه، في كل ما لم نفعله، لم يكن الله معنياً بما يقع من حولنا إلا باعتباره صديق الأرامل واليتامى والمشرّدين وعابري السبيل وضيوف الجمل الاستثنائية التي تقال مرةً واحدة في العمر. لم تخرج خطواتنا عن الطريق إلاّ لتنزلق على عتبة البيت. كان البيت جنّتنا التي تجري في أحلامها أنهارٌ من اللبن وأخرى من الخمر. وكنا نشرب ونتلذذ بصحون هي من اختراع مائدة قيل إن للمسيحي فيها ما للمسلم من حسنات. ولم يكن الطعام حلاًّ لبني اسرائيل وحدهم. لقد أحلّ لنا صيد البحر فكانت الأسماك قتلانا الذين يبعثون في أجسادنا نشوةً نادرة تلمس بغبطة، أعضاءنا السرية. ها نحن نستسلم لـ”أوميغا 3″ من غير أن نقيم صلحاً مع الطبيعة. كانت الخرافة قد تمكّنت منا.

من أجل أن نُمهَل قليلاً، صار علينا أن نذكّر القوة التي هي متراسنا في وجه الآخرة بأن لا تهملنا كثيراً. “لقد بُلينا فجددنا” بلسان أبي حيان التوحيدي، كما صرنا نردد. خرجنا للطاعة فهل نعود إلى البيت مأسورين كالعادة برائحة الياسمين؟ سيكون صحوُنا إذلالاً أبدياً فهل من لحظة سكر تعيدنا أنبياء؟

ما من نبيّ إلاّ وكانت هناك قرية كافرة قد نبذته وضحكت من سذاجته. سيكون علينا أن نبتكر قرانا. لكل قرية آلهة من تمر، من زيتون، من أرز، من حنطة. وكانت لنا إبرٌ للجسد وأخرى للروح. إبرٌ نزرعها في مخداتنا بين ريش الحمام وريش النعام لتعيننا على النوم حالمين بروزا لوكسمبورغ وفريدا كاهلو وسعاد حسني وسجاح النبية.

تبتسم الكذبة مثل طفلة اقتيدت على عجل إلى فراش شيخ يمني. كان المجاهدون سعداء بنكاحهم الذي صار يزخرف أعمدة المساجد بسوائله المباركة في حلب. حين وصلتهم المؤونة، كنا ننظر ببلاهة إلى سقوفنا حيث كانت الملائكة تدوزن خطواتنا على النشيد الوطني. بانت رؤوس الحراب.

كان الحزب لا يزال ينفخ في نايه، فيما الخراف المذعورة قد كفّت عن الثغاء بعدما أفزعها دخان الحرب. كان الماضي يتدحرج فيما الحاضر يتداعى. ما الفرق بين ريشتَي الحمام والنعام؟ لم يكن لقلق الكنيسة إلا شبحاً. كان القائد الضرورة يغسل ملابسه الداخلية بيديه في حمّام متسخ في الوقت الذي كان فيه مرتزقته يسبحون في مياهٍ اخضرّت بسبب صبغة أمواله. كم كيلومتراً من العاطفة علينا أن نمشي لكي نجدد ثقتنا بأنفسنا؟

قال لي: “لقد تركتُ أباً منشقّاً وأمّاً علوية”. كان يحدّق فيَّ بعينين ذاهلتين حين أضاف: “وأنا كما تراني نازح”. كنتُ نازحاً مثله، غير أن أبي لم يكن منشقّاً ولا كانت أمّي علوية. كنا في حقيقتنا منشقّين من غير أن ندري، مثلما كنا بعثيين وإن لم ننتمِ.

سيكون علينا أن ننصت إلى من يقول: “مَن لم يكن منشقّاً فليس منا”، مثلما كنا قد سمعنا من قبل مَن يقول: “مَن لم يكن بعثياً فليس منا”.

لقد نزعنا ثيابنا المدرسية قبل أن تُكوى بملاحظات الرفيق الحزبي، وفُطمنا من الرضاعة قبل أن يكرّم رجل الدين أثداء أمهاتنا بفتوى رضاعة الكبير. كان هروبنا حلاًّ موقتاً. نسخر من كرامتنا ونقول: “لقد نجونا”. نرسم جياداً برّية ونؤثث حنيناً بذكرى الاصطبلات التي صارت تتقاسم أوطاننا. نعجل بعودتنا الخيالية فيما يتجمد الزيت بين مفاصلنا.

سنقول لمفتّش الجمارك: “لقد طردونا بعدما قلعوا أسناننا بدلاً من أن يصادروا معجونها، واقتلعوا أفئدتنا بدلاً من جوازاتنا، ختموا بالشمع الأحمر أفواهنا وتركوا أبواب بيوتنا مفتوحة”. “مثلّثٌ شرابُكم”، يقول رجل الجمارك ضاحكاً، وهو يلوّح بقنينة عرق عثر عليها مثل لقية يتيمة. نعجز عن شرح المعادلة التي جعلت الوحدة تسبق الحرية وجعلت الاشتراكية تتأخر عن الاثنتين. هم ثلاثة إلى المدرسة باعتبارها فرقة حزبية يذهبون معاً.

“ألم يسمع هذا الأبله بألياس فرح؟”. كان الرجل القصير مهموماً بمستقبل الأمة التي تصحو على هبة الله إلى العرب، كما كان ميشال عفلق يقول. تقع نظرته على بلاد التنقيط فيمحو سطرين كانا قد تسللا غفلةً إلى صفحته. سيقول: “لا تقل داعش بل الأصح أن تقول داحس”. وحين يرى جملة “حزب الله”، يضيف إليها: “هم المنتصرون”. لقد انتصروا علينا يا رفيق، فنم قرير العين في قبرك الدافئ. انتصرت الأرياف على المدن. انتصر أولاد الشوارع على أولاد المدارس. انتصر اللصوص على المعلّمين. فصار المهرّبون هم بناة مستقبلنا.

تتحدث أوروبا عن الهجرة غير المشروعة، ونحن نتحدث عن حق اللجوء وأجهزة الهاتف الذكية. يفتن بعضنا البعض الآخر في رهاننا على انشقاق لم يقع إلا ليكون عنواناً لخيانتنا التي نسمّيها مكيدة طيبة. أتذكر أن هناك سفراء عراقيين انشقّوا عن النظام البعثي بعدما تبيّن لهم أن ذلك النظام هالكٌ لا محالة، فحملوا معهم ملايين الدولارات بعدما كانوا قد سلّموا إلى المخابرات الغربية، في الطريق إلى منافيهم الآمنة، مئات الملفّات التي كانوا مؤتمنين عليها.

كم تبدو فكرة الخلاص الشخصي رخيصة وعفنة؟

هناك من يعترف اليوم بأن خطة بناء مخيّمات للاجئين السوريين في الأردن وتركيا كانت قد رسمت عام 2009. “كنا نازحين إذاً في الوقت الذي كنا فيه نجلس في مقاهي ساروجة”، يقول لي الرسّام السوري. كان فجرنا يهذي على دفاترهم من غير أن يصل إليهم صياح الديك في جرمانا. لا يكفي والحالة هذه، أن نقول إن نظامنا السياسي كان أبله وأعمى ومعتوهاً. وهو كذلك، لكي نبرئ أنفسنا. لا يكفي القول بتفاهة الرفيق الحزبي الذي كان يضع يده على مسدسه وهو يعرف أن الرصاصة التي تخطئ جاره ستصيب أخاه لكي نفرغ المسجد من أحزمة الديناميت التي كانت مهيأة للإنفجار.

لقد كنا جميعاً مشروع بصل معد من أجل أن تكون لحفلة الشواء رائحة.

كنا لاجئين في بيوتنا في انتظار النفير العام. إن لم يقع الجهاد، فهناك الجهاد المقابل. إنها الفكرة البديلة. لم تسعَ مجتمعاتنا إلى تغيير أحوالها بحيث يغلب العلم الجهل. يغلب الحاضر الماضي. تغلب الثقافة دسائس الفكر الديني المتحجر.

قبل الثورة السورية، كنت قد فجعتُ بالكمّ الهائل من المعجبين بالسيد حسن نصر الله في سوريا نفسها، وبعد ثورة يناير المصرية أصابني بالذهول الكمّ الهائل من المصريين ممن ناصروا حركة “الاخوان المسلمين”. أما في العراق فلا يزال هناك الملايين من الحفاة ممّن يفضلون السير مئات الكيلومترات إلى ضريح الإمام الحسين على أن يخرجوا مطالبين بحقهم، وهم شعب ثريّ، في الكهرباء والماء النقي والرعاية الصحية والتعليم.

لقد رأيتُ منشقّين ولكن انشقاقاً واحداً لم يُحدث صدعاً في الأرض العربية.

كانت الأنظمة العربية ترعى انشقاقات حركة “فتح” الفلسطينية وهي تتوّج زعماءها الذين يبتكرون طرقاً وهمية جديدة للوصول إلى القدس. اليوم يقيم رئيس وزراء سوري سابق في الكويت. في ليبيا حدث الشيء نفسه. أين هو عبد الرحمن شلقم؟ معارضو النظام العراقي السابق عاد معظمهم إلى أوطانهم البديلة بعدما صاروا من أصحاب الملايين. كانت هناك مناقصة، خسرتها الشعوب على الرغم من أنها ساهمت فيها من خلال إضفاء الشرعية عليها.

سيقال: “لقد باعونا”. هي جملة مريحة. بدلا من أن نقول: “لقد بعنا أنفسنا”، وهي جملة مزعجة. هذه شعوب هيأت للصوص فرصة سرقتها. لقد كنا في انتظار الثعالب التي سنكون لها دجاجاً.

أكان لزاما على من يتزوج علويةً، أن ينشقّ ليكون ابنه نازحاً؟ كان يمكن للتاريخ أن يُكتب بطريقة مختلفة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى