الأحزاب العربية: من الشمولية إلى مخابئ العصبيات
نسيم ضاهر *
استبشر كثيرين بأفول الأحزاب التي سارت على النمط الشمولي أو استقت من خليط مناهجه الثورية والقومية المتشدِّدة. ومع صعود الأحزاب المسمّاة إسلامية، على اختلاف مذاهبها ومرجعياتها. وضع الربيع العربي إفرازات سياسية عمَّتها تلك التلاوين، على محك التجربة والامتحان، في انتظار جلاء مواقفها وسلوكها من قيم الديموقراطية والحريات بجناحيها الفردي والعام.
من المبكر إصدار الأحكام القاطعة حيال التنظيمات الوافدة حديثاً إلى متن العملية السياسية الجارية. جلّ المتوافر مقدمات فقهية حبست التنظيمات ذوات التوجّه الإسلامي لعقود وفي معظم الدول العربية، نتيجة انقطاعها عن المسرح السياسي الرسمي، وانكفائها على الدعوة ضمن الجماعة قياساً بالممارسة المتصلة بمقادير السلطة ومفهوم الدولة عموماً.
هكذا، ليس ما يُؤهِّل المعني بتفحص أدائها المستقبلي على الفرز الموضوعي المبني على تفاصيل مشتركاتها وتبايناتها، كذلك، ثمة رهان مشروع على انعطاف تشكيلها الأول، المتمثل بالإخوان المسلمين، نحو البرغماتية والقبول بجرعات مدنية حداثية تؤول إلى التزام الحياة الدستورية وآليات المحاسبة الشعبية. غير أن صحة هذه التوقعات تبقى رهن إبعاد المحددات الدينية عن المجال العام، وإخراج المقدّس من دائرة العمل السياسي.
إن تعريف الأحزاب بات خاضعاً لمؤثرات العصر، ولربما فات زمان الأصولية المقبلة من القرن التاسع عشر، بما حملته من معطيات أيديولوجية ومبادئ تنظيمية ومعايير تصنيف. وعليه، اختلفت جذرياً أساليب التواصل والتعبئة والمخاطبة من جهة، قابلها ضمور الضخّ الأيديولوجي وفاعلية التقارير المختزلة للخطوط السياسية العامة. وفي المدار الاقتصادي تراجعت نزعة الخطط البرنامجية تحت ضغط اقتصاد السوق والعولمة والتكامل بصيغه الجديدة، فبان أن الكثير من المقولات والأسانيد قد أضحت من مخلفات حقبة طويت صفحتها ولم تعد مجدية في إدارة الاقتصاد وبيان كيفية مقاربة النتائج الحسية المفضية إلى تقدم نوعي ومعدلات نمو صادقة.
على هذا النحو، تقدمت أيضاً مفاهيم الحقوق الأساسية، مشفوعة بمكانة الفرد ضمن الجماعة، بحيث تبدلت مرجعية ومعالم الرشد والكفاءة في إدارة المجتمع ومواكبة التحولات العلمية والتقنية العاصفة بالعالم وبوتائر غير مسبوقة. وفي معزل عن المكابرة العنصرية والتشدّق القومي والديني، يستحيل حاضراً (ويتعاظم هذا المنحى مستقبلاً) الركون إلى إنجازات حضارية وقدرات عضوية خفيّة عند جرد الحسابات الواقعية الصحيحة بلغة الأرقام وعمق الاحتياجات.
سقطت أحزاب انجذبت إلى الاستبداد بدافع تحولها باعثاً للشمولية، أو نصيراً يتمثل بها ومقلداً بليداً لها. جاء ذلك خلاصة تجربة بائسة أنبتت أنظمة مُتحجِّرة انتحلت صفة التقدمية، واختزلت الدولة والمجتمع بحلقة السلطة المنتدبة على الشعب، تملي الحقائق وتثابر على شعارية زائفة كان لها وقع الأفيون المُخدِّر للرعية، حتى راكمت الخطايا وطفح كيل المجتمع المغيّب بقبضتها وهياكلها وأدواتها الأمنية. ولئن أفسح الحراك الشعبي الجاري فصولاً للطيف الإسلامي مكاناً على خلفية استمرار الدعوة عبر المساجد على رغم معاناة الإقصاء السياسي والملاحقة، ما جعل حامليها في موقع الضحية، وأعطاهم هوية المقاومين للفساد والظلم والمستبد.
ومن الصادم المنذر بالمعوقات واحتمال الارتدادات أن معظم الصادر عن التشكيلات الإسلامية لغايته، إنما أفاد بامتياز من محاسن الديموقراطية الناشئة، فصادق عليها حيث استجابت لمصالحه في المقام الأول، لكنه أفسد على محتواها الحقيقي من خلال التمادي في المراوغة حيال مضمون ومحتوى مفهوم الدولة المدنية المرجوّة، والاتكاء على العصبيات، وتغليب الهويات الثانوية في خضمّ عملية التغيير. ولا ريب في أن هذه المقدمات جميعها، الجدلية في مبناها وطويتها، تدعو إلى التشديد على مسألة المبادئ الحاكمة للدستور، وإيضاح الموقف من الحريات الخاصة والمساواة بين الجنسين واحترام التعدد والأقليات بلا لَبْس أو مُواربَة.
وفوق ذلك كله، يتعيّن على الأحزاب الإسلامية، كما على سائر الفرقاء، اعتبار المعارضة ودورها الفاعل حاجةً للحياة الديموقراطية واحترام منطق وجودها وكيانها، لا مِنَّةً وفرض مناسبات وملحقاً تجميلياً، بل نزولاً عند احتمال انتقال السلطة إليها بفعل دورية الانتخابات. بهذا المعنى، تتمثل القاعدة الأساس في أن الخيار السياسي والانضواء في حزب مدني علماني، وليدا قناعات نبيلة خالصة، لا تقلّ وجاهةً وأمانة عن الانتماء إلى طرف إسلامي.
تسنَّى للبنان البقاء خارج دوّامة الحجر السياسي الذي مارسته أنظمة الحكم الفردي، المزدرية بمبدأ الدستورية والمؤسسات. تمّ له ذلك، وهو المُرهق تباعاً بحرب أهلية مديدة ووصاية سورية مكبلة، أضعفتا مناعته دون القضاء على مزاياه. بل إن العقدين المنصرمين شهدا ولادة المزيد من التيارات والأحزاب من ألوان القوس السياسي كافة. في المحصلة الراهنة، انفتح المسرح السياسي بصورة أوسع، ما يُعتبر خطوة ترسِّخ حضور التنوع والتعبير الأشمل، إنما يشكو من داء الزبائنية الجهوية والعصبيات.
في الحقيقة انهارت عملية التلاقح والتفاعل بين الطوائف، ومعها جسور التواصل الذهني والتأسيس على مفهوم المواطنة بصدق وثبات. يعيش اللبنانيُّون اليوم عوالم ذهنية ووجدانية مختلفة، يفوقها جميعاً الإحساس بالطمأنينة والقدرة على انتشال نظام دستوري تسووي من قبضة المزايدين والمراهنين على تصفية صيغة من عمر الكيان اللبناني. أحزابهم حاضرة بالجملة والمفرّق، نعم، لكنها على شاكلة إيزوتيرية تعنى بذاتها، وعلى ضواحيها شلل معدّة للإيجار.
القائل: «كما تكونون يُولَّى عليكم» له الغلبة في الميدان. هذه حال عربية تثقل على الربيع الواعد وتجد تردّداتها في لبنان، إلى أن يقطع السياسي شوطاً نحو المعاصرة، ويدخل الجميع دار القبول بالآخر، بدءاً بالانفصال عن الأسطوري والغيبي في آن. لئلا تستوي الأحزاب مجرد مخابئ للعصبيات، كما هي عليه، وتفقد ماهيتها، لدعاة التغيير معادلة عاجلة وواجبة، عنوانها دولة مدنية جامعة، دونها سائر المشاحنات والهندسات، مخافة إحباط جيل بأكمله، وتكلّس الثورة مطية للماضويين. المسألة أبعد من الاصطفافات القائمة، وهي تدعو إلى اختراق نوعي للبيئات المنغلقة على ذاتها من حيث ترى دورها المذهبي وتبني دفاعاتها، لأن الخلل الحاصل يهدِّد سلامة الوطن وخسارة أهله جميعاً بما يقارب مفاعيل الاقتتال والتشظِّي من دون إراقة الدِّماء.
* كاتب لبناني