الأحزاب الكردية والثورة السورية/ عمر كوش
اختلفت مواقف الحركة السياسية الكردية من الثورة السورية، باستثناء تيار المستقبل (دفع رئيسه، مشعل تمو، حياته ثمناً لموقفه مع الثورة)، ما بين مشكّكة وحيادية، بل ومعادية في بعض الأحيان، حيث نأت معظم أحزابها بنفسها عن حراك الثورة، على الرغم من ادعاء بعضها الوقوف إلى جانبها، فيما سار بعضها الآخر في اتجاهاتٍ تضر بالثورة، وتخدم النظام السوري، وتنسّق معه، فضلاً عن أن بعض قادة بعض الأحزاب بنوا مواقفهم على مبرّراتٍ واهية أحياناً، وثأرية في أحياناً أخرى، منطلقين من وضع الأكثرية العربية في سورية في سلةٍ واحدة مع الأحزاب القومية العربية الشوفينية، وساووا بينها وبين أصحاب الأطروحات الإيديولوجية لحزب البعث الحاكم، الذي حكم باسمه النظام الأسدي الاستبدادي، بنسختيه، الأب والابن، وجثم على صدور السوريين أكثر من خمسة عقود.
وتبنت معظم الأحزاب الكردية في سورية، صيغة من إيديولوجيا قومية متشدّدة، تجاه العرب وتجاه الكرد أنفسهم، على حساب التخلي عن الوطنية السورية، وخرجت بخلاصاتٍ زائفة عن انتفاء ممكنات التعايش العربي الكردي الذي يؤكده التاريخ، وتشهد عليه الجغرافيا الاجتماعية، ولم تجهد نفسها في إيجاد ممكنات مواطنةٍ سوريةٍ ديمقراطية شاملة، بوصفها الخيار الأفضل لتجذير التعايش التاريخي، بدلاً من المواجهة في صراعاتٍ ونزاعاتٍ خاسرة.
وراهنت بعض القوى السياسية الكردية، التي تصدرت المشهد السياسي، مرات عديدة، على قوى خارجية، لم تقف معها حتى النهاية، لتحقيق مطالبها وأطروحاتها، بل استغلتها في صراعاتها للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، ثم تخلت عنها عند أول مفترق طرق؛ واليوم تراهن، مرة أخرى، على التوافق الأميركي – الروسي، في دعمها لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
في المقابل، انخرط الأكراد السوريون في البداية، وخصوصاً الشباب، في مختلف فعاليات الثورة السورية، مثل باقي السوريين الذين تعرّضوا إلى شتى أصناف قمع واضطهاد النظام الأسدي، الذي حرم، بممارساته الإقصائية والتمييزية، الأكراد من حقوقهم الثقافية، بل وجرّد قسماً منهم من الجنسية السورية، وجعلهم في عداد مكتومي القيد المدني، فضلاً عن سياساته الاقتصادية التي حرمت معظم سكان سورية من العيش الكريم، وجعلتهم يعيشون أوضاعاً معيشية صعبة.
غير أن الأحزاب السياسية الكردية، بشكل عام، لم تشارك في الثورة، على الرغم من المبادرات
“منذ بدء الثورة السورية، اتخذ حزب الاتحاد الديمقراطي موقفاً غير مساندٍ لها” الإيجابية التي أبداها “مشاة الثورة العزّل” (المحتجون السلميون) تجاه الأكراد، وتسمية أحد أيام الجمع باسم كردي (آزادي)، وكانت تعزو موقفها إلى عدم مشاركة السوريين في انتفاضة القامشلي عام 2004، وإلى ضرورة ألا يكون الأكراد رأس حربة في مواجهة النظام.
ولم تع الأحزاب الكردية حقيقة أن حراك الثورة الاحتجاجي السلمي الذي يندرج في حقل السياسة كان رداً على سنوات طويلة من التغييب والإقصاء والتهميش لغالبية السوريين، وموجهاً ضد الشعارات الإيديولوجية المزيفة للسلطة التي تقفز على الوطني إلى القومي، منادية بوحدة الأمة العربية، فيما تمارس أجهزتها وأذرعها الأخطبوطية تقسيماً مذهبياً ومناطقياً وإثنياً، وتعمل على إلحاق سورية، وطناً وشعباً، بمخططات ملالي إيران الذين توغلوا في تنفيذ مشروع قومي توسعي، هدفه الهيمنة، وتحكمه عقلية الثأر من تاريخٍ مضى، وينظر إلى سورية تجمعاً سنّياً معادياً، يجب تغيير بنيته الديموغرافية، وإعادة هندسته اجتماعياً. لذلك، لم يتوان حكام إيران من حشد كل أنواع المليشيات التي أنشأوها في العالم العربي وخارجه، ودفعوا بها إلى داخل سورية، للقتال إلى جانب النظام الأسدي المستبد.
ولا شك في أن عدم حثّ الأحزاب الكردية، ومعها مختلف كيانات اليسار والحزب الشيوعي السوري وبعض الأحزاب القومية، ساهمت في ضرب الإجماع السوري حول الثورة، ومنعه من أن يجسّد إجماعاً وطنياً قوياً، حيث ظهر أن ممارسات النظام الأسدي التفتيتية والتقسيمية فعلت فعلها لدى قطاعاتٍ من الطيف السوري، فضلاً عن إسهامات القوى الإقليمية والدولية التي لا تنظر إلى سورية إلا بوصفها موقعاً جيوسياسياً مهماً بالنسبة إليها، يستوجب الصراع والسيطرة عليه.
مع تحوّل الأزمة الوطنية العامة التي سببها تعامل النظام مع “مشاة الثورة” العزّل، إلى ما يشبه الحرب العبثية، أو ما يزيد عنها، خصوصاً مع التدخل الإيراني والروسي، بدأت أفكار التقسيم تأخذ رواجاً في النقاشات والتحليلات، بل وتجد متحققها على الأرض.
ولعل أول متحقق لمحاولات تقسيم سورية، حدث في الشمال السوري، مع تشكيل كانتونات الإدارة الذاتية التي فرضها حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي يعتبر النسخة السورية عن حزب العمال الكردستاني (PKK)، حين أرسى دعائم ما يشبه دويلة، تحت مسمى “غرب كردستان”، وشكل قوات عسكرية، دعاها “قوات حماية الشعب”، وشكّل أيضاً شرطةً معروفة باسم “أساييش”، لعبت دوراً كبيراً في ملاحقة وقمع الناشطين الأكراد المختلفين مع ما يطرحه الحزب وتوجهاته، وممارساته.
ولعل تصدّي حزب الاتحاد الديمقراطي لموضوع الفيدرالية، وقبلها الإدارة الذاتية، جعله موضع تساؤل، امتد إلى تناول علاقته بعامة الأكراد، وبالأحزاب الكردية، ولم يقف عند التباس الخطوات الانفرادية التي قام بها منذ قيام الثورة السورية، حيث أثيرت شكوك عن وجود علاقة بينه وبين النظام الأسدي، منذ سحب النظام قواته وأجهزته من المناطق ذات الغالبية الكردية، وتركها في عهدة مسلحي هذا الحزب.
ومنذ بدء الثورة السورية، اتخذ حزب الاتحاد الديمقراطي موقفاً غير مساند لها، على الرغم من تصريحات رئيس الحزب التي تقول عكس ذلك، حيث لم ينخرط أتباعه ولا قياداته فيها، بل قمع الناشطين الأكراد في أكثر من منطقة، وذهب بعيداً عندما راح يشكك في الثورة وأهدافها، وتذرّع بحجة إبعاد المناطق الكردية عن الصراع، وجعلها مناطق آمنة، ووجهت إليه اتهامات باغتيال قياداتٍ كردية ساهمت في حراك الثورة.
وليس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وحده من استغل المتغيرات التي طاولت الوضع في سورية، بل النظام الأسدي وتنظيم الدولة (داعش) أيضاً، حيث تحدث الأسد عن “سورية المفيدة” التي تعني بالنسبة إليه دويلة علوية، فيما أقام تنظيم داعش “دولة الخلافة”، الأمر الذي بات يبرّر المخاوف على وحدة سورية، فضلاً عن محاولات بعض الفصائل المسلحة، الإسلامية الجهادية، تنفيذ أجنداتها الخاصة، بعد أن استغلت فراغ القوة الحاصل في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام الأسدي، وراحت تقيم سلطة الأمر الواقع على بعض تلك المناطق، الخارجة عن سيطرة النظام، على الرغم من إرداة معظم سكانها الرافضة لتوجهاتها وممارساتها.
وقد ردت مظاهرات السوريين في أيام الهدنة، أو ما سمي “وقف الأعمال العدائية”، على كل أصحاب مشاريع الانفصال والتقسيم، ورفضت كل دعوات الانفصال برفع شعارات الثورة الأولى، والتي زينها شعار “واحد واحد واحد..الشعب السوري واحد”، و”لا للتقسيم” و”لا للفيدرالية” و”لا للطائفية”.
العربي الجديد