الأحكام السلطانية» للماوردي: كل الجهود الفكرية للدفاع عن الخليفة
ابراهيم العريس
«حاز كتاب «الأحكام السلطانية» للماوردي من الشهرة بين علماء المسلمين وفي المجالات السياسية الإسلامية خطاً لا يحتاج معه الى اي تعريف او تقديم. ومنذ ان تجدد الاهتمام بمسألة الخلافة اعتبر هذا الكتاب، بعامة، خير عرض معتمَد للنظرية السنية السياسية». بهذه العبارات مهّد المستشرق المشهور هاملتون جب لواحدة من اولى الدراسات الجادة في الفكر الغربي التي تناولت فكر أبي الحسن الماوردي، من خلال كتابه «الاحكام السلطانية» الذي يعتبر واحداً من ابرز الكتب السياسية التي وضعت أواخر القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي. ولئن كان الباحث اللبناني رضوان السيد يقول في تقديمه المسهب لكتاب آخر من أهم كتب الماوردي وهو «قوانين الوزارة وسياسة الملك»، ان «المعلومات التاريخية عن شخصية الماوردي وحياته التي قد تعين على فهم فكره السياسي قليلة ومقتضبة»، فإن الباحث الفلسطيني الراحل حنا ميخائيل الذي وضع دراسة مسهبة عن اعمال الماوردي وحياته بعنوان «السياسة والثورة» صدرت مطبوعة قبل سنوات بتقديم لإدوار سعيد، يورد قدراً لا بأس به من التفاصيل التي تضيف الى ما يقوله السيد. وفي مختلف هذه المصادر على اية حال ان الماوردي الذي ولد العام 364هـ./974م، في البصرة وتوفي عام 540هـ./1058م. في بغداد، التي «قضى فيها الشطر الاكبر من حياته حيث عاصر خليفتين اثنين هما القادر بالله والقائم بأمر الله» على ما يذكر السيد، انما وضع «الاحكام السلطانية» كما وضع معظم كتبه التالية وغايته المنافحة عن مركز الخليفة العباسي في وقت كثرت الاخطار من حول الخلافة وبدا واضحاً ان الوزراء انفسهم باتوا يشكلون خطراً على الخليفة ويتولون الحكم مكانه. غير ان ما لا بد من الالتفات اليه هنا هو ان تاريخية عمل الماوردي هذا وارتباطاته بأفكار معينة لأزمنة وظروف محددة، لا يمكنها ان تصرفنا عن أهمية كتب هذا العالم المسلم الكبير في مجال الفكر السياسي في الإسلام، حيث ان في إمكان قارئ كتبه ان يجد خلف تلك الظرفية نظريات وأفكاراً بالغة الأهمية يمكن اضافتها بكل بساطة الى مخزون الفكر الإنساني العالمي في مجال تفكير السياسة وأسس الملك وقوانين الوزارة وما شابه ذلك من افكار لم يتوقف الفكر العالمي – بما فيه الفكر العربي الإسلامي – عن الخوض فيها.
وإذ نعود هنا الى الماوردي نقول إذاً، انه انطلاقاً من ذلك الواقع، وفي ظرف تاريخي محدد، وضع اهم كتبه، ولا سيما «عندما توفي القادر بالله، وخلفه القائم ودخل الماوردي البلاط في شكل اكثر صراحة، وظهرت جهوده واضحة حيث صار يمكن اعتباره موظفاً رسمياً لا متطوعاً». كتب الماوردي اعماله الكبيرة بتلك الصفة ولهذه الغاية، غير ان قراءتها اليوم ولا سيما قراءة «الاحكام السلطانية» تضعنا امام عمل متكامل في الفكر السياسي يتجاوز ظرفه التاريخي، وهو امر يؤكده، على اية حال، الباحثون الثلاثة. ورضوان السيد، من جانبه يلخص اهداف الماوردي من كتابته على الشكل الآتي: مساندة فكر الجماعة وضرورة الخلافة – استمرارية الخلافة والمحاولات الاصلاحية – اهداف الخلافة ومهماتها، حيث يعرّف الماوردي الخلافة او الإمامة بأنها «موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا». والماوردي يدخل بعد هذا النوع من التأكيدات ولا سيما في «الأحكام السلطانية»، في تفاصيل تقنية تتناول الخلافة والإمارة ثم الخلافة والوزارة، فالخلافة والحسبة وحقوق الراعي على الرعية، وصولاً الى البحث في ما يطلق عليه هو نفسه «فساد الخليفة»، حيث ان الماوردي كان في هذا الإطار، وعلى رغم رسمية وظيفته صريحاً في الحديث عما يترتب على فساد الخليفة وبالتالي فساد عقد خلافته. وفي رأي رضوان السيد ان الماوردي يورد اسباباً اخلاقية عامية للفساد، منها الابتعاد عن العدالة بشروطها الجامعة، ومغالاة الخليفة في حرية التصرف وما الى ذلك.
وفي هذا الاطار نفسه، يؤكد هاملتون جب ان الماوردي، في «الاحكام السلطانية»، و «على خلاف بعض الفقهاء المعتمدين الاثبات، لا ينكر صراحة حق الرعية في رفض طاعة الإمام الجائر» نعم، يقول جب، ان الماوردي يورد في الفقرة نفسها انه «فرض علينا طاعة أولي الامر فينا»، الا ان «الصيغة غير الجازمة في عبارته وتعمده اختيار حديث مروي عن ابي هريرة، دون غيره، يقفان موقف المفارقة من قول صريح للأشعري يذهب فيه الى انه يرى خطأ من يعتقدون لأنفسهم الحق في الخروج على الائمة اذا ظهر فيهم مجافاة للحق».
ويرى جب، ورضوان السيد معاً، ويجاريهما ميخائيل في ذلك ان كتاب «الاحكام السلطانية» يعتبر استعراضاً لنظرية متكاملة في الخلافة. ولعل حسبنا ان نستعرض هنا عناوين الكتاب كي نجدنا في مواجهة مجمل الإشكالات التي تتعلق بالموضوع: الإمامة واجبة بالشرع دون الفعل – تنعقد الإمامة باختيار اهل العقد والحل – من الشروط المعتبرة في اهل الإمامة النسب، اي ان يكون من قريش – التكافؤ في شروط الإمامة بين اثنين ثم تمييز احدهما على الآخر ببعض الصفات الاخرى امر مبني على استنباط فهمي – طلب الإمام لا يحرم صاحب الرعية من ان يختار إماماً – للإمام ان يحدد اهل العقد والحل – يحق للإمام ان يعهد الى اثنين او اكثر وأن يرتب الخلافة فيهم على التوالي – لا يلزم الأمة كافة ان يعرفوا الخليفة بعينه واسمه – هناك واجبات عشرة تلزم الإمام يفصلها الماوردي – كل هذا قبل ان يصل فقرات مهمة تتحدث عن الظروف والاحداث التي تؤدي الى فقدان الإمام إمامته. ولعلنا لا نكون في حاجة هنا الى لفت النظر الى ان «الإمامة» و «الخلافة» هنا «وظيفتان» متطابقتان في عرف الماوردي وفي عرف زمانه.
أما بالنسبة الى الظروف التي وضع فيها الماوردي كتابه الأشهر «الأحكام السلطانية»، ففي إمكاننا هنا ان نعتمد بشكل أساسي على البحوث القيمة التي اشتغل عليه رضوان السيد لنشير الى ان تأليف الكتاب قد تمّ بين 437 و450 هجرية وهو ترجيح يورده السيد قائلاً ان «دليلنا على ذلك تلك النزعة المنطقية الهادئة التي تسود الكتاب كله، وذلك التنظيم الدقيق للمسائل، والمناقشة المتأنية لكل الآراء. وهي في نظرنا أمور لا تتوافر إلا للمتفرغ الذي بلغ عمراً معيناً، واتكأ على خبرات سابقة كثيرة علمية وإدارية»، والى هذا يرى السيد في الدراسة نفسها ان «الماوردي ينظم كتابه بطريقة توحي انه كان موجّهاً الى ذلك. فهو يبدأ بالخلافة ثم يثني بالوزارة، وينتقل مباشرة بعد ذلك الى «امارة الاستيلاء»… «والحال ان الباحث اللبناني لا يكتفي بهذا للاستنتاج بأن تأليف الماوردي لكتابه كان بناء على توجيهات معينة بل ينقل عنه ما يؤكد ذلك، حيث يقول الماوردي: «ولما كانت الأحكام السلطانية بولاة الأمور أحقّ، وكان امتزاجها بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير، أفردت لها كتاباً امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته ليعلم من مذاهب الفقهاء»، وعلى هذا القول يعلق السيد قائلاً: «ولأن من تجب طاعته بعد الرسول (ص) هو الخليفة، فالمعقول ان يكون الخليفة نفسه هو الذي كلف الماوردي بوضع الكتاب، ما يعيدنا مرة أخرى الى الفكرة الأساسية التي افتتحنا بها هذه العجالة عن الماوردي وكتابه، فكرة ان الأساس في وضع هذا الكتاب إنما كار رسم الأسس النظرية لصلاحيات الخليفة في زمن كان فيه الوزراء البويهيون يسيطرون على السلطة بالتدريج بشكل يكاد يجعل من الخليفة على ارض الواقع صورة للحاكم لا حاكماً حقيقياً. بمعنى ان الكتاب كله وربما كتب الماوردي في مجملها سلاح فكري في معركة شرسة».
بقي ان نذكر ان الماوردي ترك في الفكر السياسي خمسة أعمال هي: «الاحكام السلطانية» و «تسهيل النظر وتعجيل الظفر» و «نصيحة الملوك» و «قوانين الوزارة وسياسة الملك» و «أدب الدنيا والدين». وهو لئن كان عجز عن انقاذ الخلافة التي كان يريد إنقاذها في اعماله، فإنه اكد في تلك الاعمال، وفق رضوان السيد ان «الخلافة ضرورية في كل زمان ومكان».
الحياة