الأخوة الذين تمتّعوا في بلادنا: لم يروا تلال الوجع والخزي الأعلى من قاسيون/ ندى منزلجي
كان الأخوة، أولئك الناجون برؤوسهم العامرة بالإيديولوجيات من جلادي بلادهم القدامى، يرون في وجوهنا صحن كبّة وبعض الفتّوش، وربما التبّولة التي يخاصمنا على ملكيتها ويربحون كما الجميع، الأشقاء في لبنان.
لم يكن الأسى إلاّ حامضاً يحسّن النكهة.
يشربون البيرة في مقاهينا، ويتهيأ لهم انها أكسير الحريّة.
في رحلاتهم الكثيرة الى الريف السوري، لا يملك الحسّاسون للجمال إلاّ أن يصيحوا من الأعماق: «آه يا لينين». ومن أدركته هداية حديثة صاح: «آه، آه يا سيد الشهداء يا شفيع المستضعفين». وفي مقولة أخرى: «آه يا انطون سعادة». أو «آه يا عبد الناصر آه!» بل منهم للأمانة من صاح في سره: «يا الله! ما أطيب السيد الذي سمح للأشجار أن تشق بذرتها! تضرب جذورها في أرضه، وترتفع سامقة نحو سمائه! ما أكرمه حين أوسد الصخور على الجبال، وأعطى الأمان لماء النهر!».
سوريا المغسولة بالندى. سوريا المتشمّسة على الشاطئ. سوريا البضّة كالقمر في بيت الأهل.
كان الأخوة، يشتمون جلاديهم ملء أفواههم، وفي غمرة نشواتهم البطولية، لم ينتبهوا كيف كلّما هممنا بالكلام، احتكّت الحصى، صمتنا، أو رددّنا كلاماً يابساً كالقش، أو اخترعنا ضحكة، علّه يبتسم حارس أمن الوطن من أعدائه المواطنين في مكمنه على الطاولة المجاورة.
الأخوة الذين اختبروا السوريين، ويعرفونهم أكثر مما يعرفون أنفسهم، هم يعلمون، وإن نسينا، أنّنا ميالون للاستمتاع بالحياة، نكاتنا بذيئة، لدينا جمعيّة للاستشعار عن بعد، يسمح لنا بالتعلم، ونذهب الى جامعات مختلطة، وبإمكاننا أن نعود الى بيوتنا بعد منتصف الليل. فهل يحتاج شعب إلى مكرمة أخرى؟.
الأخوة ثقال الوزن من كثرة ما ابتلعوا من صحون الفتّة ودساتير الأحزاب، رقصوا في بلادنا للمرّة الأولى مع فتيات، فظنّوا أنفسهم في أوروبا، واستخلصوا أنّنا لا همّ لدينا لولا اختلافنا حول هزّة خصر سارية السواس، وكرجة صباح فخري، وأنّنا كنا في أسعد حال، لولا أن قرع الطبل في أغاني علي الديك عال بعض الشيء.
الأخوة الذين تسكّعوا طويلاً في بارات دمشق، واشتروا لصديقاتهم الجديدات من سوق الحميدية، ملابس داخلية، صنعت في سوريا، تقول للحبّة الزرقاء: «انتحري من غيظك فلا حاجة لك بعد اليوم». هؤلاء الأخوة ظنّوا أنّنا نذهب أحياناً الى المعتقلات بحثاً عن بعض السكينة، أو لتخسيس الوزن، أو ربما رغبة بتجربة مثيرة، نكتب بعدها رواية تصيب العالم بضربة على رأسه.
الأخوة الذين استقبلناهم في بيوتنا الرحبة النظيفة، لم يروا الباحات الخلفية حيث نكدّس من الوجع والخزي تلالاً أعلى من رمزهم المفضل (قاسيون). هلّلوا معنا لعودة عطيّة الكهرباء الكريمة، ودفعنا الفواتير وحدنا، ثم شكروا السيّد على حسن ضيافته. ولأنهم مهذبون بطبعهم لم يسألوا حين بالصدفة يأتي ذكر اسم فتخفت الأصوات وتدمع أعين وتغادر سيدة البيت الغرفة على عجل. ربما ذهبت تضع البودرة على أنفها، كما تفعل نساء الانجليز حين يذهبن الى الحمام. فالأبناء كما يعرفون يغيبون لنهل العلم في الإتحاد السوفياتي السابق، الذي اصبح اسمه روسيا الإتحادية، وبقي مع مافياته وحيتانه من محدثي النعمة، أميناً لقضايا الأمة، شديداً في حربه على الرأسمالية الغربية، والإمبريالية المتوحشة.
كلهم كتبوا قصائدهم عن ياسمين الشام، وتغزّلوا ببردى، النهر الرمز المكبل بالنفايات. فهل يليق بالزائر أن يرى البؤس، وأطفالاً يلتحفون الغبار؟
الأخوة الذين أوغلوا كثيرا في سياحتهم، ووصلوا حتى حماة، شهقوا لمرأى فندقها الحديث الفخم، قضوا فيه ليالي لا تنسى. دخنوا سيجار الهافانا، والغليون، وهرشوا رؤوسهم تحت شعر المثقفين الأشعث، وهم يستمعون الى أغاني النواعير، وصوت الفرسان القادمين من أعماق التاريخ، بل إنهم ظنوا ان العاصي سمّي كذلك لأنه نهر ممانع.
الأخوة اللجوجون في الكتابة عن الشهادة، رفضوا بشكل قاطع أن يكونوا قد ترنّحوا، ورقصوا، وباغتتهم قصائد الغزل ببركة حضورها فوق مقابر جماعية لشهداء كانوا يوماً أهل المدينة، فالشهداء هناك، فقط، في فلسطين، شهداء المقاومة، شهداء حرب التحرير، شهداء صبرا وشاتيلا، الشهداء هم جيفارا وأصدقاؤه، شهداء حلبجة، شهداء مذبحة الأرمن، وطبعاً، ولسنا نحن من لا يصدّق، سيد الشهداء الإمام علي وولداه الحسن والحسين.
الأخوة الذين عاصروا الأب، ظنّوا أنّنا في غمرة الانشراح لم ننتبه حين قام الولد بحصر إرثه، فوجد نصيبه، طبخات جاهزة لحلفاء سرّيين، صفقات أسلحة، خطابات عصماء، جلادين محترفين وقتلة موهوبين، سواحل وغابات ومدناً وأقدم عاصمة في التاريخ، وشعباً يعشقه بجنون، فضمّه إلى ثروته على مضض.
الأخوة الذين تغنّوا بالحشود الزاحفة في مسيرات العشق الحرام، لم يتفحّصوا دفاتر الدوام في المديريات والمدارس والوزارات، ولا رأوا الوشاة الصغار كالذئاب وسط القطيع. ثم حين شاهدونا في المظاهرات، نصرخ من أعماق القهر، ألقوا باللوم على حبوب الهلوسة والـ /500/ ليرة سورية. حسدونا في قلوبهم على الأولى، وشمتوا بنا على الثانية. الحالمون منهم ظنّوا أن الشعب السوري خرج جماعياً في نزهة للاحتفال بمقدم الربيع. وحين شاهدوا في أشرطة الفيديو الذين يدوسون على الرقاب، وهم يطرحون سؤالهم الأشهر: «بدكن حرية؟»، قالوا: «واوووو كم تطورت الدراما السورية!». وحين رأوا الأجساد العارية مرميّة في الشوارع وسط الدمار، أجهشوا بالبكاء خوفا على مصير السيدة زينب في مرقدها، الذي يسكن أرضنا وقلوبنا منذ ألف وأربعمائة عام ونيف.
العلمانيون منهم خصّوا بدموعهم تمثال المعري، الذي قطع رأسه التكفيريون.
الأخوة الذين رأوا دماءنا في لوحات وحشية على الجدران والشوارع وبين الأنقاض، قالوا: «لولا ولع السوريات بجهاد النكاح، لما عاث الشيشان والأفغان وجهاديو السعودية وليبيا واليمن فساداً في ربوع الوطن السوري!».
وحين تم رشّنا بالكيماوي.. لم ينتبهوا بداية، وتحت إلحاح الموت، قالوا: «حتّى أولادهم لا يسلمون منهم؟ الخونة يفعلون كل شيء».
أمّا مطر البراميل، فلم يكن بإمكان الأخوة أمامه إلاّ الثناء على عبقرية الاختراع. دولة عصامية توفّر ميزانية شراء السلاح الثقيل، وتبتدع سلاحاً محلياً يقضي على الإرهاب العالمي، وإن تنكّر في حشد من نساء وأطفال ورجال جوعى أمام كوة فرن.
الأخوة الثورجيون بحكم المهنة، هلّلوا لثورة تونس، أعجبتهم ثورة مصر، أحرجتهم ثورة ليبيا، صنفوا ثورة اليمن في خانة: (لا بأس)، أمّا سيّدة الثورات فهي بلا منازع ثورة البحرين.
الأخوة غيروا رأيهم بالشعب السوري بعد أن رأوه على حقيقته في بلاد اللجوء والمخيّمات، وبسبب هذا المستوى المتدنّي لن يتغزّلوا بعد اليوم بنساء سوريا، ولن يقرعوا كؤوسهم في الشام، سيتركون لنا داعش نهنأ بها وتهنأ بنا. الأخوة… الأخوة مقاومازوف..
() كاتبة وصحافية سورية تقيم في لندن
المستقبل