صفحات الثقافة

الأخ الأكبر .. يراقبك!/ أمجد ناصر

 

 

كُتب كثيراً عن “الأخ الأكبر” مذ وضع جورج أورويل روايته الشهيرة “1984”.

لم يبق مجال لم يدخله “الأخ الأكبر”، حتى إنه صار اسماً لبرنامج تلفزيوني بريطاني رائد في ما يسمى “تلفزيون الواقع”.

كان جورج أورويل، الكاتب البريطاني الذي قاتل ضد الفاشية في إسبانيا، قد وضع روايته هذه في آخر سني حياته (1949)، وجعل عنوانها لافتاً في زمنه: 1984!

كان يبدو هذا العام، العشوائي (غير المقصود بذاته) بعيداً. أراد أن يوحي بأنه يتحدث عن تاريخ وواقع في رحم الغيب، بينما كان يتحدث عن واقعه وزمنه.

لم تكن لندن المدينة المقصودة في العالم البوليسي الخانق الذي تدور فيه أحداث الرواية، على الرغم من ورودها في الرواية بالاسم، فمعظم الدراسات التي تناولت رواية أورويل هذه تشير إلى أنها ترمز إلى الاتحاد السوفياتي المحكوم بقبضة ذي الشاربين الكثّين القاسية: جوزيف ستالين.

ترِدُ لندن في الرواية بالاسم، وهناك أجواء رمادية تذكر بها. لكن الصورة العملاقة التي تطالع بطل الرواية، أنَّى توجه في تلك المدينة القاتمة، أقرب إلى موسكو، الحزب الواحد، البوليس الذي قد يكون أي مواطن، الرفيق الأمين العام.

ليس في رواية أورويل أية محاولة، أو ذكاء، في إخفاء المراقبة، فالصور العملاقة التي أشارت إليها تحمل هذا الوعيد: الأخ الأكبر يراقبك!

جاء عام 1948، الذي كانت تعتبره الرواية، مستقبلياً، ومضى.

كُتب الكثير، يومها، عما إذا كانت لهذا العام الذي تتخذه الرواية دلالة خاصة أم لا.

بالطبع لم تكن.

إنه مجرد عام كان يبعد نحو ثلث قرن عن تاريخ كتابة الرواية.

بعد أقل من عشرة أعوام على عنوان الرواية، التاريخ سينتهي والاتحاد السوفياتي و”منظومته” الاشتراكية.

ولن تحضر الرواية لتشهد بعدما تجاوزها الزمن، عنواناً وواقعاً.

فدولة “الأخ الأكبر” زالت. والشاربان الكثان لجوزيف ستالين صارا رمزاً لقسوة لن تتكرر..

هكذا ينتهي الأدب الذي يرتبط بـ”لحظة” محددة من التاريخ، ويعكس وقائعها، فالزمن نهر هيروقليطس العظيم لا ننزل في مياهه الكدرة مرتين.

ولكن، مهلاً.

هل انتهى زمن “الأخ الأكبر” فعلاً مع انطواء دولة ستالين ورفاقه، في غير بلد أوروبي شرقي (وآسيوي أيضاً)؟

كلا!

وها هو المجند الأميركي إدوارد سنودن، الذي فضح أكبر عملية تجسس على البشر في التاريخ، لايزال يذكرنا بالتحولات التي تطرأ على “الأخ الأكبر”، وانبعاثه من رماده الذي كنا نظن أنه مثواه الأخير، في زي جديد. هذه المرة، لن ترى تلك الصور العملاقة للأخ الأكبر، وهو يحذرك أنه يراقبك.

لن تغيب عيناه عنك، ستراهما أينما ذهبت.. كلا.. لن ترى صورة للأخ الأكبر، ولن تسمع أنك موضع مراقبة، حتى وإن كنت أبعد ما تكون عن “الشبهات”.

تذكرت سنودن، اليوم، بعدما وصلت إلي رسالة من مهرجان برلين، تقترح علي أن أنضم إلى لائحة الكتاب والشعراء والصحافيين الذين يطالبون بالحرية لهذا الشاب الأميركي الذي كشف عن حجم التجسس الذي تقوم به وكالات الأمن الأميركية والبريطانية على ملايين البشر، ليس فقط على “المشبوهين والدائمين”، بل علي أنا وأنت، ومن هم مثلنا في الغرب والشرق.. هكذا

أمكن لـالأخ الأكبر، في العصر الرقمي الذي نعيش فيه، أن يبسط سيطرته على الأثير، وأن يتسلل إليك من الموبايل، هذه الأداة التي تحدد له أين أنت، وماذا تقول وماذا تنوي أن تفعل.

لكن المفارقة العجيبة والمصائر المؤلمة لهذا الشاب الأميركي الشجاع، أن ينتهي به المقام، اليوم، في بلاد “الأخ الأكبر” التقليدية التي نفضت عنها غبار النسيان، وراحت تحاول أن تستعيد، بهمّة الرفيق بوتين، أمجاداً غابرة. ولكن، على طريقة “الاستبداد الشرقي”!

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى