صفحات الثقافة

“الأخ رقم واحد”/ سحر مندور

اسمه بول بوت، وقد اختار لنفسه وظيفةً هي هندسة سلوك الجماعة. كل من يعرف قصة كمبوديا مع “الخمير الحمر” يعرفه، فهو الأخ رقم واحد. الأول بين من يفترض أنهم متساوون، المفكّر الآتي بالإيديولوجيا والعَلم الأحمر والنشيد، صاحب الطول والابتسامة الواعية الذي يصفق للناس عندما يصفقون له. سمّوها “كمبوديا الديموقراطية”، حكموها لأربع سنين من 1975 إلى 1979، وقتلوا خلالها من البشر عدداً يتراوح ما بين 1,7 مليون مواطن (نسبة 21 في المئة من السكان، بحسب “مشروع الإبادة الكمبودية” في جامعة “يال”، الممول من الإدارة الأميركية) وثلاثة ملايين مواطن (اليونيسيف). يُرجّح أيضاً أن نصف القتلى قضوا خلال التعذيب أو بالإعدام المباشر، ونصفهم الآخر مات بسبب المجاعة والأوبئة.

يقول الصوت في فيلم المخرج الكمبودي ريذي بانْه، أن الرجل في منتصف عمره يجد الطفل فيه يتربّص به، ينتظره، يريد المواجهة مع الصور. اسم الفيلم “الصورة الناقصة”. وهو من إنتاج العام 2013، فاز بالجائزة الكبرى لفئة “نظرة ما” ضمن مهرجان كان السينمائي الدولي، وقد عرض في بيروت خلال مهرجان أفلام “أسبوع آرتي” في سينما “متروبولس ـ أمبير صوفيل” (مستمر حتى الإثنين المقبل). أما مخرجه فقد عاش كطفلٍ سنوات حكم “الخمير” الأربع، أُرسل كطفلٍ إلى الريف للأعمال الشاقة، ومُني كطفلٍ خلالها بخسارة كل شيء، حتى روحه.. فأعاد انتاجها فيلماً يستعين بالوثائق البصرية التي حفظتها البروباغندا عن سنوات الجريمة، كما بوثائق بصرية خاصة بعائلته، وصنع حرية الصورة وفرديتها بما أضافه إليها: شخوصٌ صغيرة منحوتة من صلصال، أربعمئة شخص بملابس ووجوه وأدوار اجتماعية، هو، أمه، أبوه، الناس من حولهم، وقد استحالوا نسخاً متشابهة مع فرض الخمير على الناس “التساوي” باللباس الأسود المعفر بالطين. هم وجوه الفيلم، شعبٌ مخطوفٌ من الزمن. منفيون من مدنهم، لأن المدن لعينة والحقيقة كامنةٌ في الريف: اطحنوا صخره.

وقد طحن الشعب الكمبودي الصخر، خلال سنوات تطبيق إيديولوجيا شيوعية تحكي عن المساواة. جعل الناس فيها بلا ممتلكات، بلا سيارات وأدوات كهربائية، بلا بيوت، بلا خزائن، بلا أحذية، بلا وجهٍ ولا لون، وتحت السلاح المشهور دائماً نحوهم. حياةٌ تضعهم بالتجاور الشديد مع التراب. قربه، فيقعوا سريعاً فيه. كما ينهض المرء من سريره، سيهوي إلى قبره.

يُقتل

أفرغ العسكر العاصمة من ناسها، ألقوا بهم في أراضٍ صخرية متربة، يسيرون كما النمل في أفلام البروباغندا، يصنعون في مسيرهم حلقاتٍ، يفتتون الصخر وينقلون الحصى، ملابسهم رثة موحّدة، حفاةً بلا دواء لأن الدواء إمبريالي يعادي الإيديولوجيا، والصحة كامنة في التقاليد الشفائية. ماتوا بالآلاف بسبب أمراض قابلة للعلاج، كالملاريا.

غريبٌ كيف تلتقي إيديولوجيات مختلفة على محو مسيرة الإنسان قبلها، ومحو الإنسان معها، وفرض “البدء من جديد” كدربٍ إلى الطهارة. يقول المخرج في النص الذي يجلّل الفيلم إن “البحث عن الطهارة ينتهي دائماً بالكراهية”.

ماركس ـ روسو

من الحاجة الشعبية إلى ثورة على التفاوت الاجتماعي الحاد، استقطب التنظيم جمهورهم الأول، على إيقاع خطابات “الرقم واحد”. يقول المخرج إن بول بوت دمج ما بين كارل ماركس وجان جاك روسو ليخرج بإيديولوجيا شيوعية كمبودية النكهة، على الطريقة الصينية.

فيها، الصامتون عن الهتاف، قتلوا. العاجزون عن رفع القبضات، قتلوا. بادروا أم لم يبادروا، قتلوا. كلهم أعداء. كل من لا يرمي نفسه مع اسمه الشخصي جانباً ويصبح الرقم الذي أطلقه “الخمير” عليه، يصبح عدواً، يقتل. الطفل يشي بأمه وهو غافل عن مضمون حديثه، قُتلت. والد المخرج، لم يطق تلقي الطعام كالحيوانات، امتنع عنه في فعل مقاومةٍ أخير، فمات. الشقيق المراهق عازف القيثارة اختفى، أي اغتيل، فالقيثارة ليست مقبولة في مجتمع “الخمير”. الكتب كذلك، فالمدرسة تعزّز الرأسمالية، والعدالة تناهض المعرفة. يتعلّم الصغار ويطبّقون ما تعلموه فوراً: بتنظيم عسكري، يقفون على أعمدة الكهرباء يعالجون الشرائط، وجوههم جديّة عابسة.

في تلك الفكرة الغريبة الشاذة التي راودت الإنسان ونفذها بقوة السلاح، امتلأت الحياة بالجوع. من الجوع، لفظت طفلة تشارك كاتب الفيلم ومخرجه السرير أنفاسها الأخيرة عليه، وهو طفل بدوره. قال: هناك مشاهد لا يجب على إنسانٍ أن يراها. هو، دفن الكثيرين، أطفالاً مثله وكباراً. دفن أمّه. دفن شقيقاته. أكثر من عشرين ألف مقبرة جماعية في كمبوديا “الديموقراطية” الشيوعية، هو دفن في واحدةٍ منها ما عجز عن دفنه في نفسه. هو يحكي بوضوح عن دماره.

يخبرنا البحث أن الأخ رقم واحد عاش ثلاثة وسبعين عاماً ومات على فراشه كما يموت البعير. عقودٌ من الحرب الأهلية التي تلت أربع سنوات الجحيم التي فرضوها على الناس، اشتبك فيها “الخمير” مع تنظيمات أخرى وكانوا من أقوى عناصرها. للبقاء، ولاختلافٍ ليس على سفك الدم، وضع “الخمير” الرقم واحد تحت الإقامة الجبرية، ووافقوا على تسليمه لمحكمة دولية في التسعينيات، فمات في الليلة التي سبقت نقله. مات في سريره، مريضاً أو منتحراً أو مسموماً. لا يهمّ.

عداء الفرديّة

بلا صحونٍ لأن الصحن يعزز الفردية، يحملون الملاعق وينتظرون الطعام الجماعي لأن الطعام المنفرد يعزز الفردية. تلك الفردية التي لا تضرّ “الخمير” حاملي السلاح، إذ يجلس واحدهم ويأكل طعاماً لا يسبب مجاعة. غذاؤهم هم في اليوم الواحد كان يقتصر على كوب صغير من الأرز، 250 غراماً. يعملون 12 ساعة يومياً في الاشغال الشاقة، يفتتون الصخر ويستصلحون الاراضي ويزرعون الأرز الذي يعلّب ويُشحن لا يعرفون إلى أين. انهار غذاؤهم فأكلوا كل شيء، من أحقر الزواحف إلى الحشرات. وإذا سرقوا سمكة من النهر العامر بالسمك، يقتلون. وهم يموتون من الجوع على إيقاع مكبرات الصوت التي تخبرهم عن مدى عدالة المجتمع الذي نقلوا إليه وأسقطوا فيه. تخبرهم عن الغد الرائع الذي يجهزونه بينما هم فاقدو التركيز عالقون في صورة نيل أرمسترونغ يخطو أولى خطواته على سطح القمر. كم أثّرت به هذه اللحظة، وهو يرى أهله يموتون واحداً تلو الآخر، في حفلة “اكتفاءٍ ذاتي” منعت كل شيء عن كل الناس. وكم كان كلام المخرج حادّاً ومرّاً وهو يستذكر التنظيمات في العالم تحتفي بسلطة “الخمير الحمر” كعنوانٍ للعدالة والمساواة. دائماً، يجد الديكتاتور المتعنت المستريح تحت عباءة من الألفاظ الجميلة والأفكار السعيدة، هتافات باسمه تأتي من حفنةٍ ثورية ما في خارجٍ ما.

وبعد نهارٍ متعب يقضونه في الأشغال الشاقة والموت المتفرّق في طبيعة قاسية، تحلو في المساء البروباغندا: يُفرض عليهم الجلوس أمام شاشة بدائية ليشاهدوا تحت تهديد البندقية المستمر أفلاماً عن المزارع السعيد، مفتت الصخر السعيد، الجندي السعيد، العالم الخالي من الطبقات، والعدو الذي لا ينفك يموت في الصورة. لكن صورة الموت الحقيقية هي تلك التي يقف عندها الفيلم: جسمٌ من صلصالٍ يُهال عليه التراب، مرةً تلو الأخرى، وجهاً تلو الآخر، ويعاود الظهور. لا يزول من العين. العين العالقة بدوران الصورة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى