الأدباء الجدد في سوريا: أدباء للثورة وآخرون للنظام/ سامر محمد اسماعيل
صياغات ومفردات مبتكرة لكن أين الدم من الحبر؟
يتقدم اليوم إلى واجهة المشهد الثقافي السوري الكثير من الأصوات التي وجدت ضالتها تحت أنظار الحرب الدائرة منذ قرابة أربع سنوات؛ ففي الشعر مثل ما هو في الرواية الجديدة تكاد تكون الكتابة هي الملاذ الأخير من جحيم الموت وعبثيته؛ كتابة عشبية تنمو بين أطلال المدن التي صارت أثراً بعد عين؛ والشهود هنا شعراء وروائيون واظبوا على قراءة الكارثة بحبر حساسيتهم التي جعلت منها الحرب نصوصاً للصراخ في وجه الدم المتدفق من أجساد الضحايا؛ فمن الطبيعي أن تفرز التغيرات في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي لشعبٍ ما، تغيرات في نوع الأدب الذي ينتجه هذا الشعب – تقول الشاعرة ناهدة عقل وتتابع: «فما بالك حين يكون التغيّر تجربة عنيفة بحجم (حرب). لا شكَّ بأنها تغدو نقطة تحوّل جذرية في حياة من يعايشونها. وعلى رأسهم الفئة الأكثر حساسية لالتقاط المتغيرات والتأثّر بها. أعني فئة الكتّاب والفنانين؛ لكن السؤال الذي أراه مهمّاً هنا: هل نملك تلك الطاقات الإبداعية فعلاً. وما مستوى الأدب والفن الذي كان ينتجه هذا الشعب قبل الحرب؟ فواقع الإبداع الأدبي العربي بالمجمل – لا السوري وحده – هو واقع متردٍ مخجل منذ عدة عقود. وقد زادته كوارث (الربيع) تردّياً ومدعاةً للخجل». برأي عقل أن التحسّن في مستوى الكتابة الإبداعية في (سوريا الحرب) غير متحقق حتى الآن. تعلق صاحبة كتاب (مفاتيح الغيم): «أنظرُ لغالبية الكتاب الشباب فأراهم يسمون أنفسهم (أدباء ثورة) أو (أدباء نظام) وهذا ليس من الأدب بشيء. أسماء كثيرة لا تنتمي للفن والأدب صاروا أدباءً وفنانين من موقع معارضتهم أو موالاتهم لا من أي موقع آخر؛ أما أدباء الجيل الأسبق فأراهم خارج السرب تماماً. لا أسمع منهم صوتاً فجّرت الحرب طاقاته الإبداعية كما ينبغي لها أن تفعل؛ عدا صوت الشاعر نزيه أبو عفش الذي تبنّى مأساة شعبه عبر (يومياته الناقصة) التي أقرأها كصدىً أعمق وأصدق لصوت ألمِ الشعب السوري وصرخات روحه الممزّقة في رحى الحرب».
وعن كتابها الشعري الجديد الصادر مؤخراً عن دار التكوين بدمشق تقول ناهدة: «لم يُكتب «في غياب الرّب» بالكامل في ظل الأزمة؛ جزءٌ منه كُتب قبلها؛ ولعل عنوانه يشي بموضوعه الرئيس (الفَقد) على أكثر من مستوى .لا أعرف كيف أضع ما أكتب ضمن سياقٍ ما. أكتبُ وجدانيات ذاتية وعامة في آن، كما ينبغي لكلٍ نصٍّ شعري. ولم أقارب الأزمة في نصوصي إلا من موقع أني أعيش في خضمّها وأتأثّر بها كجميع من هم حولي. موقعٍ إنسانة ومواطنةٍ سوريّة ترى بلدها يدمّر وشعبه يقتل كلَّ يوم؛ أما بخصوص النشر فلم أصادف مشكلةً هي نتاج مباشر لظروف الحرب. أحبُّ أن أعتقد أن بلدي ما زال كما كان موطن خيراتٍ لا تنضب».
أنا أحد المرتزقة
الروائي باسم سليمان يرى أن حضور الكاتب السوري الشاب في زمن الصّورة التي تحولت من ساكنة إلى متحركة: «يعني أن تحرث رياح السّموم لتزرع ربيعاً. أن تأتي والكلمة الخالقة سلعة في خط الإنتاج!؟ فما بالك بكلمتك الأضعف من جنين حُمل به في الحرام. إنّه زمن ارتزاق الكلمة الأكبر؛ حيث الكلمة مجرد عضو في حزب سياسي أو ديني أو ميديوي، دوره كعامل البوفيه يأتي بالمشروبات فيما الحبر بسجنه الانفرادي يحدّث وحدته عن أمجاده الغابرة». ويضيف سليمان صاحب رواية (نوكيا): «لا أظنني دون كيشوتي الطالع عندما امتهنت الكتابة، فالدونكيشوتية فيها من السّخرية والتهكّم الكثير؛ أمّا أنا فأقرب لـ(كميكازي) أحمق يقود طائرته الورقية ليفجر ألبوم صور لحكام يصيبهم الحبر بالجدري، فيعقّمون الدواة من الدواء؛ فالجمهور العربي والسوري خصوصاً ما زال في طور الأذن/ الصّورة ولم يخرج حتى اليوم للعين القارئة وإن خرج للعين الناظرة فالعين القارئة كالحلقة المفقودة التي بحث عنها داروين، فهي مجرد أضغاث أحلام، يستفيق منها القارئ مستحضراً كل المتعوذات والتمائم للتّخلّص من أثرها».
الكتابة لعنة وليست كتلك اللعنات المحمودة – يعلق سليمان – بل لعنة شريرة تمعن في إهانتك وتحويلك لمتنبي آخر تحت الطلب لمن يدفع أكثر، فسيف الدولة وكافور تجليات رحيمة للذي يعانيه الكاتب السوري اليوم، يوضح سليمان الذي أصدر كتابه (لم أمسس): «إن دور النشر السورية والعربية عموماً مثل بائعي صكوك الغفران والمؤسسات الرسمية للثقافة لا ترى فيك إلا ثوراً لحراثة أرضها؛ والجرائد والمجلات قواد يدلّل عليك ويضربك في آخر الليل عندما يتأفف مستثمر منك أو زبون؛ ومع ذلك تصرّ على تمرير جثتك العفنة من خرم الإبرة لتدخل ملكوت الكتابة /الخلود».
ككاتب جاء متأخراً لعالم الكتابة ولم يحدثْ أن عرفها قبلاً، قراءة أو كتابة – يعلق سليمان – بكلّ بساطة دخلت السّوق بإرادتي المحضة؛ لا وليس كسائر الكتّاب الآخرين الذين قادتهم أقدار مجوسية ليصبحوا كتاباً؛ ويضيف سليمان: «هكذا رحتُ أقرع أبواب رؤساء الجريمة المنظمة، أعرض خدماتي النقدية والإبداعية بمدح كاتبٍ مكرسٍ بيد قارئة ودع تقدّمية أو ذمّ كاتب ليبرالي يشرب قهوته محلاة بالنفط وإن ظهر اسمي في جريدة أدور به كالأعمى الذي أنجب صبياً مجبوباً، هكذا اعتبرتُ الكتابة من اللمم التي تغفرها الكلمة الخالقة وعندما استيقظتُ كغريغور سامسا لم أكن صرصوراً بل كاتباً؛ ومن هنا في مقاربتي القادمة للحرب في سوريا لن يجد القارئ أثراً للكائن البشري فيها، لربما هي توبة تجبّ ما قبلها».
لقد هرمنا
الروائية والشاعرة نادين باخص تجيب عن سؤال الكتابة الجديدة في سوريا بالقول: «لقد هرمنا! لا أعتقد أنه لا يزال بالإمكان الحديث عن أدباء شباب، على الأقل من ناحيتي، فلا يمكنني أبداً اعتبار أنني ما زلت شابة. منذ الرصاصة الأولى علمت أنها ستكون الأولى في سلسلة لا متناهية. صدق توقعي للأسف، وبعد شهور عدة باتت الكلمة بالنسبة إليّ أكبر ترف مقزز ممكن أن أعيشه. فأية ثنائية تافهة هي تلك التي تجمع بين الحبر والدم؟ وكيف لي أن أظل مرابضة في برجي العاجي، أعد إخوتي الموتى وأكتب فيهم مراثي لن تعيد لهم الروح، ولن تنتقم لفاقديهم» وتتابع باخص: «لا سيما أني ابنة حمص التي كانت بداية المآسي، والتي اضطررت لتركها منذ شهر أيار/مايو 2011 بسبب انتقالي للعيش مع زوجي خارج سوريا حيث يعمل؛ بت بعدها عاجزة تماماً عن صياغة جملة واحدة مفيدة. ربما اليوم بعد مرور أكثر من أعوام ثلاثة ونصف، اختمرت الحرب في داخلي بما يكفي لأحاول أن أخوض مغامرة كتابة نص ما». نادين لا تزعم أنها استعادت أدوات كتابتها بما يكفي: «لقد عدت»، ولا أملك الثقة الكاملة بحتمية النجاح، وكان كل ما كتبته خلال السنوات الأخيرة مجموعة مقتضبة من اليوميات الشعرية المكثفة، خلال عودتي إلى حمص عام 2012 بعد مرور عام على خروجي منها ودمارها، وهي في طريقها إلى الصدور. وباقي الكتب التي صدرت كانت مخطوطات سابقة لعام 2011».
لقد أفرزت الحرب نصوصاً شحيحة ارتقت إلى درجة المأساة، مقارنة بفيض النصوص الغثة التي كتبها كثير من المتسلقين – تعلق نادين باخص صاحبة كتاب (أخفي الأنوثة): «الجميع يريد أن يكتب بالتغاضي عن حقيقة أن الكتابة الإبداعية ملكة لا يمكن لأي كان أن ينسبها لنفسه، لا سيما مع شيوع أدب اليوميات الذي لا يقل أهمية عن غيره من الأجناس، لكنه يغري الكثيرين بركوب موجته بمن فيهم الذين ليسوا جديرين بالكتابة؛ لكن هنا أؤكد أنني ما زلت أنحاز إلى النص أياً كان مبدعه، وإن كنت أخالفه الرأي، ولا تهمني تُهم الخندقة التي تأتيني من شتى الأطراف، وسأظل أتلقى الإبداع كإبداع لا كانتماء، وسأظل أحتكم للنص لا سواه».
الشاعرة عبير سليمان التي أصدرت مؤخراً كتابها (رسالة إلى بيدق ميت) ترى أنه من الطبيعي أن تصبح الكتابة في زمن الحرب صرخة.. استغاثة.. أو اعتراض أو وسيلة بقاء، وحتى سلاحاً من عطر يشق ستار الدخان. هكذا تصف الشاعرة سليمان التي أصدرت مؤخراً كتابها (رسالة إلى بيدق ميت) وتضيف: «إن كنتَ تريد أن تصبح شاعراً حربياً بحق فتعال إلى سوريا؛ فأنت حتماً ستتأثر بما يدور حولك، وستكتب عن وجعك ووجع الآخرين، ومن غير الطبيعي أن تقتصر كتاباتك على الغزل والغواية بينما مدينتك تنزف مثلاً! قد نستطيع مجابهة جزء كبير مما يجري حولنا عبر الأدب والفن في حال كنا في مجتمع أفراده يقرؤون بشكل أفضل، وضمن مؤسسات ثقافية وإعلامية تعتني بصناعة الأدب والفكر والفن لا صناعة نجومهما».
واقع الكتابة في سوريا اليوم معقول من حيث وجود أقلام مذهلة وغنية وقادرة على الإضافة للأدبين العربي والعالمي، تعلق الشاعرة سليمان وتضيف: «الواقع محزن في ما يتعلق برعاية مؤسسات الدولة، فلا نشاطات حقيقية تهتم بالأقلام الجادة والمبدعة؛ بل لا يوجد منذ سنوات ملتقيات تليق باسم سوريا وبمبدعيها، فالأنشطة الثقافية الرسمية الحالية، فيها الوجوه المتجهمة نفسها؛ والتي تتكرر دون أن تقدم جديداً، فالعقلية القديمة ما زالت تتحكم في مفاصل الثقافة السورية؛ وهذا يعيق تحركها قُدماً بشكلها الطبيعي المتعارف عليه في بلادٍ أخرى».
الأدب، كمن يتنفس تحت الماء.. هكذا تصف الشاعرة السورية – الكردية فيدان نابو واقع الكتابة الجديدة في بلادها؛ وتقول: الكاتب أو الكاتبة الشابة يستلقون بحذر على بُعد إنشات تحت سطح البحر، يرون الشمس لكنهم لا يقوون على تحرير أنفاسهم من الأمواج التي تضغطهم إلى القاع كل يوم وكل لحظة؛ وتضيف نابو التي تقيم في بلدة عفرين – شمال غربي سوريا – الواقعة تحت حكم الإدارة الذاتية الكردية منذ أكثر من عامين: «الكثير من الأقلام حملت متاعها وهجّت، ليس لمواقفها الوطنية، بل على اعتبار أن لا منفذ فكريا للعمل الإبداعي في ساحة الحرب. وهو حتماً السبب الرئيسي والوحيد ليغرق الأدب في حالة من التخبط، يملك أصحابه حاضنة ثقافية محدودة وضيقة، بحكم تداعيات الحرب؛ فرغم أن الحرب السورية أفرزت هموماً جديدة وقضايا عديدة، إلا أنها أثقلت كاهل الكاتب بجراحات كبيرة، وأغنت ذخيرته الفكرية بل أغنت الساحة الأدبية بأقلامٍ وأسماءٍ جديدة، معظمها تتوجه نحو العنفوان العاطفي والدفاع المستميت عن قناعاتها وإيمانها بحتمية التغيير والتجديد في روح الكتابة الحرة، وأخرى معذبة وبائسة واستسلامية أمام عجز وصول الكلمة للمتلقي». ترى نابو صاحبة كتاب (الكل يخطئني بكَ) الذي رفضت الهيئة السورية للكتاب نشره أن: «الأدب يعيش الآن في سوريا الكثير من المرارة، لولا الشبكة الإلكترونية التي وفرت للكاتب سبل النشر والتفاعل مع القارئ عبر مواقع التواصل الاجتماعي أكثر منها عبر المواقع الرسمية لهيئات ثقافية عامة وخاصة».
التواصل بين الكاتب والقارئ بات معاقاً بسبب الحرب، بين ما خسرناه وما لنا القدرة على الاحتفاظ به، توضح نابو: «ككتاب وكاتبات من الأكراد السوريين التجأنا إلى الشبكة الإلكترونية لنخلق خطاً موازياً للحركة الأدبية داخل سوريا وخارجها، ونحاول قول الكلمة ولو على حائطٍ افتراضي؛ فظهر ما يمكن تسميته بأدب الأزمة، يكافح ليبقى صامداً في ظل ضعف وصول الكلمة وجمود دور النشر الرسمية والخاصة، وعدم استقرار مواقف الأدباء تجاه الأطراف المتصارعة. رغم ذلك فإن الهيئات الرسمية (بحسب محاولتي التواصل مع أكثر من جهة)، لا تقبل بالمنحى الجديد للغة الأدبية التي أفرزتها الحرب، لغة متمردة وصارخة بهموم واقعٍ نتعامى عنه بأساليب تقليدية باتت لا تناسب غليان المفردات والصياغات الجديدة لدى الكاتب ولا تروي حالاته الشعرية، فالرواية والشعر أصبحا أكثر تحرراً من قيود الرقابة وغيابها أولاً، وغني بمواضيعه وبلغته بقدر حدة الصراعات الداخلية والخارجية للكاتب نفسه وللواقع المعيش ثانياً، ووجداني ومعذّب ثالثاً».
رغم هذه المواقف أمام الكم الكبير من الخديعة التي نعيشها، تضيف الشاعرة فيدان: «كردياً، كثير من الأقلام وجدت لها منفذا للتنفس ومساحة من الحرية، لكن تبقى الأعمال الروائية والشعرية ضعيفة لغياب جمهور قارئ متذوّق، ولخروج نخبة كبيرة من المثقفين من البلد، ولتغيّر اهتمامات بعضهم ليصبح العين الفاحصة لقراءة الحدث السياسي أكثر منه الأدبي، ناهيك عن اتخاذ عدد كبير منهم الموقف الحيادي والمراقب حفاظاً على أمنه وسلامته؛ فما يحدث في المناطق الكردية هو نفسه ما يحدث في كامل سوريا؛ لكن أمثالنا نحن الكتاب الشباب نحاول أن نجد طريقة لإيصال أقلامنا إلى القارئ، إن كان أصلاً جاهزاً ليتلقى أي جديد بظل فداحة معيشته وهمومه، ودون أن يتبنى أحد هذه الأقلام الجديدة، أبسط مثال تجاهل مجلة الشهباء الثقافية الصادرة عن مديرية الثقافة في حلب النشر لي أو لأي كاتب أو كاتبة كردية)». وتضيف الشاعرة نابو «أعمل اليوم على تحرير صفحتيْ الثقافة والمرأة في جريدة (روناهي) الكردية، وفي اختيار موادها ومواضيعها وتنقيحها؛ فمدينتي عفرين تحاول أن تعيش قفزة نوعية في الاهتمام بالحركة الثقافية، لكن في ظل غياب عدد كبير من الشريحة المثقفة؛ تبقى كتابتي الشعرية عاجزة عن الوصول إليهم كما هي».
الشاعر أسامة خليل أحمد يرى أن «الأدب في زمن الحرب يمكن أن ينقسم إلى قسمين الأول: أدب مرحلي يعتمد على الفعل ورد فعل، والثاني هو نتاج حقيقي للثورة ولم يظهر بعد، وأصحابه لا يكتبون وذلك لظروف شخصية وعامة؛ ولأن رؤيتهم واتجاهاتهم ومواقفهم غير مستقرة تجاه الأحداث لذا هنالك بطء في الأقلام؛ فما يُكتب الآن هو أدب الأزمة أما أدب الثورة فهو لم يكتب بعد، لكنه بات قريباً لتبلور رؤيتهم تجاه الكارثة بسبب أن كل الحراك الداخلي والخارجي (الإقليمي والدولي) أخذ حده؛ فالحراك السياسي لم يعبّر بعد عن مطالب الشعب. وهو حراك خائب، والمجتمعات المتحضرة والمتقدمة لها قيادتان، الأولى الظاهرة للعيان وهي السياسية، والثانية هي الفكرية وهم خلف الستار (الأدب الفلسفة الإعلام الصحافة)». فالثانية برأي خليل «هي التي تحدث التغيير وهي الغائبة في خضم أحداثنا وصراعنا السياسي؛ لذا فما يمكن تسميته بالثورة فاشل بسبب تغيّب حرية الفكر». إلا أن الشاعر زيد قطريب يرى أن «معظم الشعراء الجدد اليوم ينشغل باقتفاء أثر المعجم السوري الجديد؛ والذي راح يتشكّل مع بدء الأحداث! نعم هناك أسراب هائلة من الألفاظ التي تدخل النص بقوة، كما هي حال الصورة التي تتعرض هي الأخرى إلى هزات كبيرة نتيجة انكشاف الخيال على مشاهد لم تكن مألوفة في السابق، حتى بالنسبة للقضايا المعرفية، يتعرض النص إلى امتحانات خطيرة لم يكن يتخيل مواجهتها وهي تتصل بقضايا خطيرة مثل الهوية والانتماء والعلاقة مع (الآخر) والديموقراطية».
في هذا الخضم، تتحرك احتمالات النص السوري، يعلق قطريب الذي أصدر مؤخراً كتابه الشعري (باركنسون): «يبدو أن الشعراء الشباب وكأنهم قد تلقفوا هذه الإشارة بسرعة، فهم يحاولون الوصول إلى تلك الحساسية بتعابيرهم الخاصة وصورهم الجديدة لكن حتى اللحظة ما زال التجريب سيد المشهد، صحيح أن المفردات والصور والانفعالات مع العناوين قد اختلفت، لكن النص لم يصبح ناضجا بعد، وكأننا النص الشعري ما زال في حالة تمارين على الحالة المستجدة من أجل استيعابها وشحذ الأدوات بهدف الانطلاق من جديد». على مستوى آخر، فالاختلاف ظهر واضحاً عند الشعراء الشباب الذين غادروا المؤسسات الرسمية وراحوا يرسمون ممالكهم الشعرية الخاصة؛ وذلك بسبب تهدم الجسور مع تلك المؤسسات وانعدام الثقة، يقول قطريب: «شعراء اليوم يصنعون تجاربهم ونشاطاتهم كأنهم ينحتون في الصخر فعلاً، وهم في كل هذا يتمكنون من طباعة كتبهم الأولى ويصلون إلى أكبر شريحة من الجمهور عندما تسلط كل وسائل الإعلام أدواتها عليهم.. صحيح أن الصعوبات كبيرة لكننا شهدنا العديد من حفلات التوقيع مؤخراً؛ كما اعتدنا حضور الكثير من القراءات الشعرية في اللقاءات الثقافية التي انتشرت كثيرا خلال هذه المرحلة.. بشكل ما».
تبدو التحديات كبيرة والمسؤوليات جساماً أمام النص السوري، ومن يدري ربما يكتب هذا النص المختلف والجديد الذي سيحظى بشرف الانعطافة الكبرى، شاعر مخضرم وليس شاباً كما نتصور.. المسألة مرتبطة بالتجريب والسباق مع الزمن والأحداث ربما؛ والجميع في الانتظار؛ فمن الطبيعي أن تتأثر تلك الكتابة بواقع الحرب، يقول الشاعر عدنان أزروني ويضيف: «من الطبيعي أن تتجه الموضوعات لتناول إفرازاتها. وتعجّ القصائد بمفردات أكثر تداولاً ارتبطت بهذا الواقع. لكن، ضمن الرؤية السابقة، هل استطاعت فعلاً القصيدة السورية في ظل الحرب أن تؤسس لمرحلة جديدة أو قصيدة جديدة؟ أعتقد أنه من المبكر الحكم بوضوح على الأداء الشعري السوري خلال فترة الحرب. لكن من الممكن الاعتماد على بعض الإشارات؛ فتناول الحدث اليومي، ووصفه وهذا ما ينتشر بكثرة في ما قرأت وسمعت من نتاج شعري راهن بات يؤسس لقصيدة سورية جديدة؟ أعتقد أنه لا يكفي أن نستعرض الشعر عبر التاريخ لنرى أن ما بقي منه وما اعتُبرَ قمماً شعرية، كان، في الأغلب، ما تجاوز الحدث وصفاً، إلى ما وراءه. بمعنى، الاعتماد على الحدث الآني في استشراف ما ستؤول إليه الأمور مستقبلاً».
لكن هل استشراف واقع جديد ومغاير. أو التنبؤ بما سيأتي يظل كافياً لصعود نخب أدبية خلال الحرب؟ يجيب أزروني الذي أصدر مؤخراً ديوانه (تصويبات) عن الحرب السورية: «أعتقد أنّ القليل القليل من هذا النتاج ما كان يدور في هذا الفلك؛ فارتباط الذهنية العامة، في كثير من مفاصلها، لا سيما ذهنية المتلقي، بالمفهوم التقليدي للفهم الشعري، والمتمثّل في ربط المفردة بمعناها الحرفي. (الكثير من الدراسات النقدية العربية المبكرة، ربطت جودة الشعر بوضوح المعنى)، وضعف القدرة على ابتداع معانٍ جديدة، أو القدرة على استنباط تلك المعاني من قبل المتلقي؛ يؤدي إلى ضعف هذه القدرة على التعبير، فما زال هذا المعطى يؤثر على الشعراء الشباب. بحيث ما زالوا، بمعظمهم، ينحون نحو استخدام تلك المفردات بمعانيها المتداولة. ووضعها في سياقات محددة ومكررة تكاد تكون مُسْتَهلكَة تماماً، بحيث تقضي على كل جديد أو مفاجئ أو مدهش».
قد نستطيع أن نُعفي الشعراء الشباب في بداية تجربتهم الشعرية من حكم قاسٍ ضمن المنظور الّذي عرضته، يضيف أزروني ويقول: «حداثة تجربتهم لن تعفيهم، حتماً، من البحث والقراءة والتجربة والمحاولة. كما أنها، بوضوح، لن تعفي القائمين على المؤسسة الثقافية من احتضان تلك التجارب الشابة والعمل على خلق المناخات المناسبة لتطوير تجربتهم. وإقامة اللقاءات الشعرية بل العمل بمنطق الورشات والمحترفات لتطوير مشاريع تلك التجارب. لا أستطيع، بأي شكل، أن أعفي نقادنا من وظيفتهم التاريخية الغائبة منذ عقود (لا سيما نقاد الاختصاص) ـ وهذا وجع متأصل يحتاج الخوض فيه بحث مستقل تلك الوظيفة المتمثلة بأخذ أية تجربة شعرية جديدة على محمل الجد ودراستها بتأنٍ، والحكم عليها موضوعياً و(علمياً). وأيضاً، لا أستطيع أن أعفي شعراءنا (المكرّسين) من الأخذ بيد هؤلاء الشعراء الشباب، الذين أثبتوا حضوراً استثنائياً في الآونة الأخيرة من حيث النشاط ومن حيث النتاج؛ وليس الاكتفاء بالاستماع بمحض الصدفة وإلقاء أحكام عشوائية تحط من شأن تلك التجارب كأن نقول إنها «مجرد تجميع كلمات»، مثلاً، دون الاستناد إلى بعد نقدي وعلمي واضح».
(كاتب سوري)
السفير