صفحات الثقافة

الأدب اليوناني والأزمة المالية:الكتب العظيمة ستظهر لاحقاً/ محمود عبد الغني

 

 

حين ضربت الأزمة المالية اليونان سنة 2010، شرعت أوروبا تفكر في كل الحلول لإنقاذ هذا البلد العريق الذي ظلّت جذوره الهيلينية تلعب في خيال العالم. من بين مظاهر هذا الدعم حلّت “الثقافة الهيلينية” ضيف شرف على الدورة 32 من “كوميديا الكتاب” بمونبولييه بفرنسا. وقد وجد فيها اليونانيون والفرنسيون معاً فرصة لقياس نبض حدس وقوة استشراف الروائيين، والأدباء عموماً، والسياسيين لما يحدث لبلدهم. وقد نشرت جريدة “لوموند” الفرنسية ملحقاً خاصاً بهذا الحدث الكبير.

ما زال كافافيس يلاحق اليونان

كما اقتربت من الهواجس الاجتماعية والأفكار السياسية، والمالية، للعديد من كُتّاب البلد المنكوب اقتصاديًا. الروائية اليونانية إيرسي سوتيروبولوس فسرت كيف أنها كانت تشعر بأن الأزمة ستحصل، تقول: “في سنة 2003 كنت أرى الحفلة الخفية للفساد المالي، رأيت الرقصة غير المبالية للاشتراكيين اليونانيين مع المال”، وهي الرؤية التي أوحت لها بكتابة رواية “ترويض الحيوان” (2011). غير أنها، تضيف، تتردّد اليوم في الكتابة عن الأزمة: “لا يمكن أن يكون ذلك أمراً مباشراً، الأدب ليس كتابة توثيقية أو ريبورتاجاً”. ثم تسترسل قائلة: “الأزمة تُفرغ الأرواح، وليس فقط الجيوب. فكرت في أن ذلك يمكن أن يكون مفيداً، أن تتضاءل قدرتنا الشرائية ويزداد أصدقاؤنا. لقد كان حلماً. لقد أصبحنا أكثر وحشية”.

تُرجمت رواية إيرسي سوتيروبولوس الأخيرة إلى الفرنسية تحت عنوان “ما تبقّى من اللّيل” (ستوك، 2016)، وهي تتحدث عن وقائع يومية، وعن ثلاثة أيام من حياة الشاعر اليوناني الكبير قسطنطين كفافيس، في سنة 1897. تقول “رغم كل شيء هناك تماثلات غريبة، كانت اليونان مفلسة في تلك المرحلة”. حدث ذلك مباشرة بعد الألعاب الأولمبية في صيغتها الحديثة بأثينا.

ما زال كفافيس يلاحق اليونان. قصيدته التي كتبها سنة 1928 “في مستعمرة يونانية كبيرة”، 200 سنة ق.م. يتم استظهارها في الكثير من الأحيان. يبدو كأنها تصف آثار المخططات الاقتصادية المطبقة منذ سنة 2010 تحت ضغط دائني اليونان والمجموعات التي تراقبهم.

الأمل الوحيد: السوريون

بالنسبة للروائي فاسيليس أليكساكيس، لم يبق الشيء الكثير: “اليونان بلد يتقلّص. إنه في طريق الانقراض. الوفيات أكثر من الولادات، والشباب يهاجرون إلى الخارج. أملنا الوحيد هم اللاجئون السوريون. إننا في حاجة إليهم أكثر مما هم في حاجة إلينا”. وإذا كان العديد من اليونانيين قد أظهروا قليلاً من التضامن أمام موجات المهاجرين سنتي 2015 و2016، فإن القليل منهم يريدون البقاء في بلد اقتصاده فقير.

في رواية “كلارينيت” (منشورات سوي، 2015)، يحكي أليكسيس عن موت صديقه الناشر جان مارك روبير، وعن موت بلده. وهو اليوم منشغل بكتابة رواية تساعد إحدى شخصياتها مواطني بلدها على الانتحار. لقد ارتفع عدد المنتحرين في اليونان المأزوم، يضيف ملاحظاً. “لكن تلك الانتحارات يتم التستُّر عليها من طرف الأُسر، بسبب الكنيسة التي ترفض، في هذه الحالة، دفنهم بطريقة دينية”.

إن المرونة التي أظهرها الشعب اليوناني أمام الأزمة، راجعة إلى الأهمية التي يوليها هذا البلد للتضامن العائلي. ويرى أليكسيس أن من النتائج السيئة لهذا الأمر كون “الأزمة تخنق الجميع. في أثينا، نشاهد أشخاصاً مسنّين يحملون علباً بلاستيكية مليئة بالمواد الغذائية الخاصة بأطفالهم. إنه انبعاث صورة الجدّات في الجبال. أتخيّل أن والدة الوزير الأول أليكسيس تسيبراس تتصّل به كل ليلة لتسأله هل أكل جيّداً وهل اقترع على أحد الوزراء الألمان”.

الكاتب يانيس كيورتساكيس، يقول: “عرفت نوعين من الكوارث في اليونان، أزمة دكتاتورية الجيش، من 1967 إلى 1974، ثم الأزمة الحالية، التي هي بدون شك أكثر خطورة على جزء من الشعب”. وأكد أنه “ينبغي البحث في الماضي” من أجل فهم صحيح لهذه الأزمة، وخصوصاً تلك العلاقة المعقّدة التي تجمع اليونان بأوروبا.

“بعد الدكتاتورية، كل شيء كان يتقدم بطريقة منتظمة نحو الديمقراطية، نحو أوروبا. لم نعرف أبداً فترة طويلة مماثلة بدون حرب ولا انقلاب”، يقول غايا غالاناكي. ومذّاك واليونان يبدو كأنه يتّبع “خطوة اللقلاق المعلّقة”، إذا أردنا استعارة عنوان أنجيلوبولوس.

الأدب على وقع الأزمة

في خضمّ هذا المشهد، حاول الأدب الاستفادة من الأزمة. ففي معرضين أوروبيين، الأول في لندن، الثاني بفرانكفورت، يكتب ألان سالس في صحيفة الـ”لوموند”: “الكل يتحدث عن اليونان، ويريدون معرفة حقيقة ما يجري، ويبحثون عن الكتب لفهم البلد”. ومن بين الكتب التي لاقت إقبالا كبيراً، “مأساة أن تكون يونانيّاً” لنيكوس ديمو، الذي كتبه تحت النظام الدكتاتوري، ومنذ ذلك الحين وهو يعرف طبعات متتالية، ويُباع بسرعة. وهو تأمّل عميق وغير متنازل في محنة اليونان الحديث. والكتاب الثاني الذي يُقرأ بكثرة هو عبارة عن مجموعة قصصية لكاتب شاب اسمه كريستوس إكونومو، وتحمل عنواناً أراد الجميع أن يصدّق نبوءته: “كل شيء سيمر بخير، سترى” (2016). وتتناول قصصه الحياة البئيسة في ضواحي مدينة “بيري”، حياة هامشية تمتدُّ اليوم إلى قلب أثينا. يقول هذا الكاتب: “لا أريد أن ألعب دور المتفرج على الأزمة. الكاتب يجب أن يكون بمثابة عالِم كوارث، وأيضاً الزلزال الذي يكسّر سطح الأشياء. يجب المغامرة في الحديث عن ما يرفض الناس سماعه، لكنه يعلن أيضاً ما يمكن أن يحدث في المستقبل. الأمر يتعلق باليونان، لكن ما يحدث في اليونان يهمّ العالم أجمع”. فقد أصبحا مقروئين أكثر من ذي قبل.

اعتُبر نجاح إكونومو انتصاراً للقصة القصيرة التي بدأت تنعشها حياة جديدة، بعد الأزمة التي عاشتها مع جنس آخر هو الشعر اليوناني. فهذين الجنسين أظهرا مرونة فاقت مرونة الرواية في تعاملهما مع الأزمة الشاملة. وللفيلسوف اليوناني ستافروس زومبولاكيس نظرة تفصيلية أكثر: “الناس واعون بأن الأمر لا يتعلق فقط بأزمة، بل أيضاً بحقيقة جديدة. كل واحد يحاول إيجاد الحلول. فأصبح يستهلك أقل، لكنه يحافظ على عادة الذهاب إلى المقهى والمطعم برفقة أسرته وأصدقائه”. ويضيف “إن دور النشر ما زالت تطبع الكتب، وأصبحت تنتقي أكثر، كما أن دور نشر أخرى ظهرت للوجود، أما جودة الترجمات فقد تطورت. كما وُلدت مجلات أدبية ذات جودة عالية، إضافة إلى فورة في الفرق المسرحية”.

كل هذه الحقائق تعبر عنها حيطان أثينا المليئة بكتابات الغرافيتي. ولم تجد صحيفة الـ”لوموند” كخلاصة لما يجري غير اقتباس قولة للمترجم ميشيل فولكوفيتش: “الكتب الكُبرى عن هذه المأساة الكبيرة ستظهر بعد عشر سنوات أو عشرين سنة”.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى