الأدب لم يعد مخيفاً/ عباس بيضون
سبق لأبو علي ياسين أن كتب عن الثالوث المحرم «الدين، الجنس، السياسة» مر وقت على كتاب أبو علي ولا يمكننا القول بسهولة ان الحال لا تزال هي نفسها. قد يخطر لكثيرين انها تفاقمت أكثر، فها هو الإسلام السياسي ينشئ دولة وها هي السينما تستغني عن القبلات، مع ذلك لا نستطيع أن نجزم بأن لا شيء تغير. رغم الشواهد الملحوظة والظاهرة فإن ثالوث أبو علي ياسين، الذي لما يزل، تعرض لبقع من هنا وهناك ولتعريجات من هنا وهناك فلم يعد نفسه، الثالوث المحرم هو إلى حد كبير مقدس ويستولد محرمات جانبية محرمات هي في الغالب سلسلة لا تنقطع.
قد يقول واحد ان وطأة هذا الثالوث خفت، نشعر بذلك لكن انفجاراً ما يعيد الأمور إلى الوراء بل إلى ما خلف الوراء. نلاحظ أن الجنس لم يعد محظوراً في الروايات، وبخاصة تلك المترجمة، لكنه بات شبه محظور في السينما حيث التعبير الجسدي أكثر قرباً وأصرح تعبيراً. قد نجد في الأدب الروائي نقداً للمؤسسة الدينية، لكن المؤسسة الدينية تحكم الآن على الأرض. ثم أن السياسة أبيحت، بشكل استعاري ورمزي أولاً، ثم استغنت عن المواربة وقصدت إلى التعبير المباشر، وخاضت معارك الربيع العربي. كذلك فعل الفن التشكيلي وربما الغناء، لكن الفن والأدب لا يزالان هامشين، بل أظهرت الأحداث ان الشعر ليس وحده الذي بات هامشاً، أن الأدب كله لم يعد يخيف، أو أنه، على الأقل لم يعد فعالاً. لقد اعتدي على فنانين ومات مثقفون في السجن وذهب كتّاب إلى المنافي لكن العلاقة الحذرة بين السلطات والمثقفين لم تعد على حالها. بخروج «الشعب» إلى الشوارع باتت اللعبة أوسع بكثير وباتت مصادرها أكثر تنويعاً. لم تعد بين ضباط ومثقفين بقدر ما صارت بين سلطة وشعب، وطغت عليها تلاوين الشعب وثقافاته ونعراته، وجد المثقفون أنفسهم مجدداً في الهامش. لم يعودوا يخيفون، حتى حين ظلوا يظنون أنفسهم كذلك. تركوا لحالهم نسبياً ولم تعد جريمة الرأي هي الأفدح كما كانت لعقود مضت. تجاوز الصراع الاختلاف في الرأي أو على الرأي، ولم يعد المثقفون وجها لوجه أمام السلطة التي انفجرت في وجهها القاعدة الشعبية وارتدت عليها أفاعيلها وموازينها فيها.
هل يعني ذلك ان الثالوث المحرم لم يعد محظوراً وأن ثمة حرية انتزعها الشارع وفرضها. مرت سنوات قليلة لا تكفي لتكون مختبراً. اتسع الوقت لتواصل الثقافة وليواصل الأدب والفن ما بدأ منذ عقود مع حكم الضباط. انه الأدب النضالي والفن النضالي والفكر النضالي ولو اختلفت الوجهة. من البديهي أن يحصل ذلك لكننا لا نستطيع أن نتكلم عن عصر جديد للفن والفكر. هذا المنحى النضالي لا يزال رمزياً، وهو يبني على مرحلة انقطعت تقريباً أو تجاوزت. لم تكن مرحلة الثالوث المحرم مفروضة فحسب. لقد كانت أيضاً استجابة لالتزامات قائمة آنذاك. لم يكن النقد أو البحث هما الوجهة آنذاك. ليس سوى فراغ ملأه قاموس اصطلاحي ورطانة وانشاء مجوف. لم تكن استعادة الصوت النضالي بعيدة عن ذلك. يمكننا أن نقدر الحاجة بل الواقع إلى هذا الأدب النضالي أو الفن النضالي، بل نقدر القيمة الأخلاقية لهما والقيمة النضالية هذه المرة، لكن بعيداً عن ذلك نجد تلاؤمات وتكييفات بين الاختبار والوجهة لم تترسخ بما يكفي إلى الآن، وهي بالطبع لم تشق طريقاً جديداً ولم تباشر تجريباً مختلفاً.
الثالوث المحرم لم يكن في الماضي مجرد فرض. لقد كان الثقافة آنذاك، وحين نقول انه كان الثقافة، فإن ما يستتبع ذلك، هو أن الثقافة لم تكن موجودة، كانت ذلك القاموس الاصطلاحي والرطانة والانشاء. عندما تكون السياسة ركنا في هذا الثالوث، فإن التحريم يعبر عن نفسه بما يبدو افراطاً في السياسة، فيما يبدو نوعاً من الحلولية في السياسة يرد كل شيء إليها. لكن هذه السياسة المهيمنة ليست سوى ذلك الهراء الاصطلاحي، سوى صنمية لفظية لا تترك مجالاً لأي فكر على الاطلاق، وحين يكون الدين ركنا في الثالوث فإن هذا يعني أكثر من الدين. انه يعني الدين بوصفه العمود الفقري في ثقافة ملفقة، ليس البحث الديني وحده المحظور، بل كل ما ينشأ حول الدين وما يستتبع له. لعل أول ما يخطر من ذلك هو التاريخ. إذ ليس التاريخ العربي سوى التاريخ الديني، ولا يستقيم تاريخ إلاّ بفكه عن الدين، بالطبع لا يمكن أن نفعل غير ذلك بالعلوم الإنسانية إذ لا تنشأ هذه العلوم إلا بتحريرها من العقل الديني. وإذا قلنا إن ما يقوم من ذلك كله لا ينفك عن الديني وتطلباته أمكن لنا أن نقول استطراداً أن لا ثقافة عندنا، وأن ما يقال عن انعدام هذه الثقافة ليس خاطئاً.
السفير