الأزمة السورية.. تعقيدات روسية – أطلسية/ عبد الوهاب بدرخان
من يبحث عن أي مُعطى إيجابي يمكن أن يسهّل الحل السياسي للأزمة السورية جاءته تعقيدات إضافية طرأت أخيراً، ليس أقلّها الخسائر العسكرية التي مُنيت بها إيران من عسكرييها أو «حزب الله» من قادته الأوائل، وآخرهم مصطفى بدر الدين، لكن نشر الدرع الصاروخية الأميركية – الأطلسية في أوروبا قد يكون أكثر صعوبة، فقبل أيام بدأ تشغيل هذه الدرع في رومانيا، إحدى الدول الاشتراكية سابقاً، وستكون بولندا الدولة التالية.
معلوم أن نشر هذه الدرع من أكبر الخلافات بين روسيا والولايات المتحدة وحلف «الناتو»، حتى قبل تفجّر أزمة أوكرانيا عام 2014، وقد أرجأته أميركا أكثر من مرّة في السابق لأسباب عدّة، منها الحصول على التعاون الروسي في المفاوضات النووية مع إيران، ومنها أيضاً اجتذاب موسكو إلى تفاهمات استراتيجية أمل باراك أوباما في التوصّل إليها مع فلاديمير بوتين، لكن الأخير أحبطها، ومنها أخيراً محاولة طمأنة روسيا إلى أن الصواريخ دفاعية ولا تستهدفها، بل هي تدبير احتياطي ضد التسلّح الإيراني بصواريخ بالستية. وفي حينه لم تقتنع موسكو بهذا التبرير، وهي لفتت أخيراً إلى أنه فقد معناه بعد الاتفاق النووي.
لا شك أن هذا التطوّر سيضاعف الصعوبات أمام مساعي تفكيك عُقد الأزمة السورية، إذ إن التجربة برهنت على أن التفاهمات التي نسجها الأميركيون والروس تلتقي على أهداف بعيدة المدى، وتتعلّق بحل سياسي يحدّد مستقبل النظام السوري، إلا أنها لا ترقى إلى مستوى استراتيجي ثابت، ولذلك فهي تنجح أحياناً كما في فرض «وقف العمليات العدائية» للمرّة الأولى من بدء الصراع، وتفشل أحياناً أخرى كما في تثبيت الهدنة، تسهيلاً لإطلاق المفاوضات على الانتقال السياسي. ولا يُعزى هذان الصعود والهبوط إلى ظروف الحرب وكثرة المتدخّلين فيها فحسب، بل إن مردّه الرئيس إلى الأجندة الروسية الخاصة، وهذه معنية أولاً، وخصوصاً باستغلال الأزمة وليس بإنهاء الحرب، وقد ظهر ذلك في أكثر من مرحلة، ولم يكن سرّاً أن بوتين أبدى استعداداً لفتح المساومات وتقديم تنازلات في الملف السوري إذا وافق أوباما على تنازلات مقابلة تبدأ برفع العقوبات التي فرضت على روسيا بعد ضمّها شبه جزيرة القرم الأوكرانية، وتمتد إلى التفاهم على تقاسم النفوذ في أوكرانيا نفسها، وصولاً إلى الملفات المتعلقة بتوسع حلف الأطلسي ونشر الأسلحة الاستراتيجية.
رفضت واشنطن مساومةً كهذه تربط بين الملفات، متذرّعة أيضاً بأن ليست لديها مصالح تخشى عليها في سوريا، وكل ما عرضته على روسيا كان مساندة خلفية لتدخّلها في سوريا وشراكة في إدارة الأزمة، خصوصاً أن موسكو حاذرت منذ البداية التورّط في مستنقع الحرب، غير أن توزيع الأدوار لم يكن متكافئاً ولا موازناً، فالتدخّل الروسي خلط بين «محاربة الإرهاب» وتعزيز وضع النظام السوري لتمكينه من استعادة زمام المبادرة عسكرياً، لكنه وجد نفسه متقاسماً النفوذ مع الإيرانيين الذين انتهزوا الوجود الروسي ليرفعوا مستوى تدخّلهم.
أما الأميركيون، فأقاموا فصلاً صارماً بين محاربة «داعش» والأزمة الداخلية، وتكفّلوا بإبقاء القدرات العسكرية للمعارضة من دون تطوير، كما قاوموا إلحاح تركيا على إقامة «منطقة آمنة» للجوء المهجّرين، ورفضوا فكرة إرسال قوات عربية برّية لمحاربة تنظيم «داعش».
كان التقدّم نحو الحل السياسي هو الاختبار الحقيقي للتفاهمات الأميركية – الروسية، والمؤكّد أنها أخفقت فيه حتى الآن، لأن روسيا لم تلمس استعداداً أميركياً للشروع في «المساومة» الشاملة. لم يتزحزح الروس عن المفاهيم الرئيسية لهذا الحل (التفاوض على «حكومة وحدة وطنية» تشارك فيها المعارضة تحت رئاسة بشار الأسد)، وفي المقابل لم يتوصّل الأميركيون من جهة إلى إقناع المعارضة بهذا الخيار ومن جهة ثانية إلى انتزاع ضمان روسي بأن الأسد سيغادر السلطة ولن يترشح للرئاسة في الانتخابات التي تُجرى بناء على دستور جديد، غير أن دخول الدولتين الكبريين في نقاش حول «مصير الأسد» أثار مخاوف إيران من «صفقة» لا تأخذ مصالحها في الاعتبار. ولعل هذا ما يفسر عدم اكتفائها بالعمل من خلال ميليشياتها، ومن ثَمَّ اخراج تدخّلها ووجودها إلى العلن، إنْ بإرسال قوات خاصة ومئات الضباط والجنود من متقاعدي «الحرس الثوري» و«الباسيج» أو بتقصد التغطية الإعلامية الواسعة لمراسم تكريم قتلاها. فالرسالة التي أرادها الإيرانيون من هذه العلنية هي تأكيد تمسّكهم بشعار «الأسد خط أحمر»، وبالتالي إبلاغ الروس والأميركيين بضرورة التفاهم معهم وأن أي صفقة ثنائية لن تمرّ.
الاتحاد