الأزمة السورية تقترب من منعطف التدخل الخارجي
مركز الجزيرة للدراسات
مرت الثورة السورية، من زاوية توازن القوة بين النظام والحركة الشعبية، بثلاث مراحل. في المرحلة الأولى، التي استمرت من اندلاع التظاهرات المحدودة في منتصف مارس/ آذار إلى بداية يونيو/حزيران، كانت المبادرة الأمنية والسياسية لم تزل في يد النظام، لكنه لم يرتفع إلى مستوى التحدي، وجر خطواته الإصلاحية جراً، دافعاً الجيش إلى ساحة المواجهة، مما جعله يخسر قطاعات متزايدة من الشعب. في المرحلة الثانية، التي استمرت من اقتحام حماة الأول في مطلع يونيو/حزيران إلى بداية شهر رمضان في مطلع أغسطس/آب، بدا المشهد متعادلاً. ألقى النظام بكل قواه لقمع الحركة الشعبية، بينما انتشرت المظاهرات الاحتجاجية في كافة أنحاء البلاد، وغدت أضخم حجماً، وأكثر تنظيماً. في المرحلة الثالثة، لم يعد ثمة شك في أن النظام، بالرغم من مستوى العنف الوحشي الذي استخدمه طوال شهور، بات عاجزاً عن احتواء الحراك الشعبي. أصبحت المظاهرات طقساً استغرق كل أيام وأمسيات شهر رمضان، ولم تعد تخضع لجداول زمنية.
وفي موازاة تدهور حظوظ النظام الداخلية، تدهورت حظوظه الخارجية، في المحيط العربي، وعلى صعيد علاقاته بتركيا، وعلى المستوى الدولي.
الآن، ومع اقتراب الثورة السورية من اختتام شهرها السادس، تتزايد احتمالات تحول الثورة إلى حركة مسلحة، فعزلة النظام الإقليمية والدولية يتسع نطاقها، وسورية تقترب أكثر من ذي قبل من منعطف التدخل الخارجي.
تفاقم مأزق النظام: دائرة العنف المغلقة
خيارات القوى الدولية: انحسار البدائل السلمية
اقتراب التدخل الخارجي
مخاطر ما بعد رحيل الأسد
تفاقم مأزق النظام: دائرة العنف المغلقة
خلال الشهور الأولى من اندلاع الحركة الاحتجاجية، لم يكن النظام مضطراً لمواجهة التظاهرات بمستوى العنف الحاد الذي واجهها به لاحقا. وقد أصبح وقف حملة القمع الهائلة شرطاً مسبقا لكل من اعتقد، سواء بين أحزاب وشخصيات المعارضة أو بين القوى الإقليمية والدولية، أن بالإمكان التوصل إلى انتقال سلمي وتدريجي إلى نظام سياسي حر وتعددي وديمقراطي. ولكن النظام لم يتراجع عن سياسية المغالبة الوحشية، بينما كان يتقدم بوعود لأطراف مختلفة بانسحاب قوات الجيش من المدن وإعادتها إلى معسكراتها؛ وهو الأمر الذي سرعان ما قوض مصداقية النظام ورئيسه. لوهلة ما، لم يكن حتى واضحاً ما إن كان النظام يدرك حجم التحدي الذي يواجهه، أو جدوى وعواقب التصدي للتظاهرات السلمية بقوات الأمن والجيش المسلحة.
لتبرير حملته القمعية، سارع النظام منذ الأسابيع الأولى للحركة الشعبية إلى ترويج مقولة العصابات المسلحة، السلفية والإرهابية، التي تعتدي على أمن المواطنين والبلاد. الحقيقة، أن الثورة السورية انطلقت سلمية، واستمرت سلمية لأشهر طوال، ليس لعجز السوريين عن الحصول على السلاح (المتوفر في سورية، كما في بلدان عربية أخرى)، وإنما لوعي النشطين السوريين بضرورة الحفاظ على سلمية الثورة. ولكن الملاحظ في الأسابيع القليلة الماضية أن هناك توجهاً متزايداً، وإن كان بطيئا، لحمل السلاح واستخدامه ضد قوات النظام وعناصره الأمنية.
وتنقسم المجموعات المسلحة إلى فئتين رئيسيتين: الأولى، وتضم مجموعات صغيرة، لاسيما في شمال البلاد وفي منطقة الحدود السورية – اللبنانية، لجأت إلى استخدام السلاح في رد فعل على تصاعد أعداد الضحايا في أوساط المدنيين وعلى استمرار حملة القمع الوحشية. ليس ثمة من دليل على أن هذه المجموعات ترتبط بأي إطار تنظيمي، أو أنها ولدت من حركة أو تيار سياسي ما. أما الفئة الثانية، فتضم مجموعات متزايدة العدد من الضباط والجنود الذين انشقوا عن الجيش العربي السوري، وقرروا العمل للدفاع عن الشعب ضد قوات النظام. ويتواجد هؤلاء تقريباً في مختلف أنحاء البلاد، بما في ذلك ريف دمشق.
وجود هذه المجموعات المسلحة، وربما تزايد انتشارها في الأسابيع القليلة القادمة، يجعل من الصعب على النظام إعادة الجيش إلى معسكراته. لكن الاعتماد المستمر على الجيش لقمع الحركة الشعبية، سيؤدي بالضرورة إلى ازدياد حالات الانشقاق، وتعميق الشعور بالظلم والحاجة للرد لدى الأهالي. النتيجة، أن النظام صنع بيديه دائرة جهنمية من العنف والعنف المتبادل، أصبح من الصعب عليه الخروج منها.
بيد أن هناك سبباً آخر لتفاقم أزمة النظام: التراجع أمام الحركة الشعبية وتقديم تنازلات إصلاحية تستجيب لمطالب المحتجين يصبح أكثر صعوبة بمرور الوقت. فالنظام سعى في أشهر الثورة الأولى إلى إطلاق حملته القمعية بهدف إخماد الثورة، ومن ثم إتباع نهج إصلاحي محدود، يحقق استجابة جزئية للحركة الشعبية بدون تغيير جوهري في بنية النظام. الآن، وبتصاعد واتساع نطاق الحركة الشعبية، أصبح تراجع النظام أكثر خطراً على وجوده واستمراره؛ وهو الأمر الذي تدركه قيادته. من جهة أخرى، بات من المشكوك فيه أن يقبل السوريون بأي برنامج إصلاحي لا يبدأ بالتخلص من المجموعة الحاكمة.
خيارات القوى الدولية: انحسار البدائل السلمية
تصرّف النظام السوري منذ اندلاع الحركة الاحتجاجية وكأنه يتمتع بحصانة من الملاحقة. وقد أطلق حملته القمعية الواسعة، معتقداً أن دوره وعلاقاته، من جهة، وموقع سورية بالغ الحساسية، من جهة أخرى، تضعه بمنأى عن المساءلة. ولكن المشكلة أن استمرار الحركة الشعبية، وتصاعد معدلات القتل، والتعاطف المتسع مع الشعب السوري، عربياً وإسلامياً ودولياً، وعجز النظام عن إدارة الأزمة، داخل البلاد وخارجها، جعله في عزلة غير مسبوقة. والحقيقة، أنه بخلاف إيران، وبدرجة أقل العراق، على مستوى الدول، وحزب الله، على مستوى اللاعبين من غير الدول، لم يعد للنظام من حلفاء حقيقيين يمكنه الارتكان إليهم.
فكل من الولايات المتحدة وفرنسا أعلنت فقدان نظام الرئيس الأسد للشرعية، ودعتا إلى تنحيه. وبالرغم من أن تركيا لم تسلك نفس المنحى، فمن الواضح أن الثقة بين أنقرة ودمشق تلاشت كلية، وأن الاتصالات بين الدولتين توقفت. السعودية، ودول أخرى في مجلس التعاون الخليجي، سحبت سفراءها؛ بينما أكدت كل من قطر ومصر على ضرورة إيقاف عنف النظام والاستجابة للمطالب الشعبية، وفشل الحل الأمني في سورية. ثم جاءت المبادرة العربية، بعد اجتماع طارئ لمجلس الجامعة العربية، في نهاية أغسطس/آب، التي واجهتها سورية بالرفض وتجاهل رغبة الأمين العام للجامعة زيارة دمشق. وبالرغم من أن روسيا أظهرت منذ بداية الأزمة انحيازاً للنظام السوري، إلا أن تصريحات كبار المسؤولين الروس في مطلع سبتمبر/أيلول، وبعد زيارة مبعوث روسي رفيع لدمشق، والداعية إلى ضرورة توقف النظام السوري عن استخدام العنف ضد شعبه، توحي ببداية تحول في الموقف الروسي. وحتى إيران يبدو أنها لم تعد على ثقة كاملة بإمكانية الحفاظ على الأسد ونظامه، فسعى دبلوماسيوها إلى لقاء معارضين سوريين في باريس حسب أنباء صحفية. وكان وزير خارجيتها علي أكبر صالحي دعا النظام السوري إلى الاستجابة لمطالب المحتجين، معتبرا الثورات في البلدان العربية بما فيها سورية ترفع مطالب مشروعة.
بيد أن أزمة القوى الإقليمية والدولية المهتمة بالوضع السوري لا تقل عن أزمة النظام. تركيا، مثلاً، ظلت حتى أغسطس/آب تعتقد أن بإمكانها الضغط على النظام لوضع حد لحملة القمع التي يقودها، ولإجراء إصلاحات عميقة، تستجيب للمطالب الشعبية. وربما حسبت دول مثل فرنسا والولايات المتحدة أن إعلانها فقدان الرئيس الأسد للشرعية قد يوهن قبضة النظام ويمهد الطريق للتغيير. ولكن الحقيقة أن توقعات أنقرة والقوى الغربية الرئيسة لم تكن مطابقة للواقع، ليس فقط لأن هذه الدول لا تمتلك أوراق ضغط ذات وزن في سورية، ولكن أيضاً، وهذا هو الأهم، لأن النظام يرى أنه يخوض معركة حياة أو موت، ليس له إلا أن ينتصر فيها.
الآن لم يعد أمام تركيا والقوى الغربية، إضافة إلى الدول العربية المعنية بالشأن السوري، إلا أن تبحث عن وسيلة أخرى للتعامل مع الأزمة السورية.
اقتراب التدخل الخارجي
بتصاعد الحركة الاحتجاجية وتوجه بعض المجموعات إلى العمل المسلح، لا يبدو أن النظام في وارد إيقاف الحملة القمعية، أو أنه لم يعد يستطيع ذلك إن أراد. من جهة أخرى، أصبح واضحاً أن الضغوط السياسية على النظام لا تجدي نفعاً، مهما بلغت عزلته الدولية والعربية والإقليمية، أو العقوبات المفروضة عليه. المخرج الوحيد من هذا الوضع هو محاولة التدخل الخارجي، المباشر أو غير المباشر. وربما كانت تصريحات رئيس الوزراء التركي طيب رجب إردوغان بأن سورية تتجه إلى وضع شبيه بالوضع الليبي، والتحرك العربي الذي جاء بدفع من السعودية ومصر ودول الخليج، والمسعى الفرنسي لتمرير قرار في مجلس الأمن يدين استخدام العنف ضد المتظاهرين العزل، مقدمة لمثل هذا التدخل.
ما يشجع على التدخل الخارجي:
1- أن القوى الغربية ترى في نجاح العملية الليبية نموذجاً لتدخل يتفادى مخاطر وأضرار التدخلات السابقة في أفغانستان والعراق.
2- أن هناك أصواتاً متزايدة بين المتظاهرين السوريين، وبعض دوائر المعارضة السورية، باتت ترى أن لا مخرج من الأزمة بدون تدخل خارجي، أو حماية دولية كما يقول ناشطون بالداخل.
3- أن مصر والسعودية ودول الخليج الأخرى وصلت إلى قناعة بأن من الضروري التخلص من النظام السوري، بعد أن “وصل تحالفه مع إيران، وارتهانه لها، درجة بالغة الخطر على الأمن العربي.”
4- أن تركيا، اللاعب الرئيس في الملف السوري، أصبحت أقل معارضة للتدخل الخارجي، بعد أن عجزت عن دفع النظام في دمشق لتبني سياسة إصلاحية جذرية، من ناحية، وتصاعدت الأصوات السورية والعربية الشعبية المنتقدة لأنقرة، من ناحية أخرى.
5- أن عدداً من القوى الغربية يجد في الثورة السورية فرصة لإحداث تغيير في سياسات وتحالفات سورية العربية والإقليمية، وبات يرى في التدخل الخارجي وسيلة لذلك.
بيد أن التدخل الخارجي، الذي لن يقع سريعاً على أية حال، يتطلب عدداً من الشروط، أهمها، توفر غطاء قانوني دولي (يتطلب بدوره صفقة أميركية – روسية)؛ توافق بين الأطراف المعنية على أسلوب ووسائل هذا التدخل؛ ووجود تصور أولي لبديل سوري سياسي.
مخاطر ما بعد رحيل الأسد
في حال وقوع التدخل الخارجي، فإنه لن يتعلق بترجيح كفة الحركة الشعبية على النظام وحسب، بل ومقدرات سورية العسكرية وموقعها في الصراع العربي – الإسرائيلي ودورها العربي والإقليمي. كما أن التدخل الخارجي لا يعني أن النتائج ستكون محسومة سلفاً. ما يمكن أن يؤدي إليه التدخل الخارجي في الحقيقة هو سلسلة من الاحتمالات، تبدأ بسقوط سريع لنظام حكم، ولا تنتهي عند انفجار حرب أهلية، أو حرب طائفية إقليمية.
لتقليل مخاطر التدخل الخارجي، في حال أصبح أمراً محتوماً، لابد أن يكون هناك دور عربي (وتركي) فعال، يعمل من أجل الحفاظ على وحدة سورية، وبناء تآلف داخلي سريع، وعلى حماية هوية سورية ومقدراتها والتزاماتها العربية.
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات