الأزمة السورية عشية الحل
كمال ديب
عندما يبدأ التفاوض السوري ـــ السوري والعربي والدولي لإيجاد مخارج الحلّ للأزمة السورية، من المفيد أن توضع الأزمة في إطارها الصحيح بأنّها ليست خارجية بالكامل ولا داخلية بالكامل، مع ترجيح كفّة العوامل الخارجية (أنّ سوريا تدافع عن نفسها ضد عدوان خارجي)، إذ لا يمكن رفض التعامل مع العوامل الداخلية على أنّها كلها إرهاب ومرتزقة، بل إنّ الأزمة هي إلى حدّ ما حرب أهلية أيضاً. ويمكن شرح حرب سوريا بأربعة عوامل خارجية («الربيع العربي» والحرب الإعلامية/ الديبلوماسية، والصراع السوري ـــ الإسرائيلي، وسعي الخارج إلى تدمير الدولة السورية والمجتمع). وثلاثة داخلية (فشل «ربيع دمشق»، والصراع القديم بين البعث والإخوان، وانفجار اجتماعي اقتصادي داخلي). وهذا يجرّنا إلى الخلاصتين التالتين:
الأزمة هي خارجية: سوريا ضحية هجمة اقليمية ــ دولية كبرى
تقول خلاصة العوامل الخارجية إنّ «الثورة السورية» تعبير يستحق السخرية، خلقته مؤامرة غربية استعملت جيشاً من المحرّضين والمخرّبين والمرتزقة والسلفيين المتطرفين وجمعيات مجتمع مدني ـــ فاسدة ومرتهنة التمويل ـــ ومنظومة إعلامية عالمية. وإنّ الولايات المتحدة ومعها حلف الناتو واقطاعيات الخليج سعت إلى سحق سوريا، الدولة العربية المستقلة التي تقدّم برامج اجتماعية إلى شعبها وترفض الاستسلام لإسرائيل.
هذا الحلف الجهنمي فتح أبواب الجحيم على سوريا فسلّط عليها عصابات مسلحة وقوى ارهابية مرتزقة وعناصر ميليشياوية، كما جلب عصابات مسلحة إسلامية تابعة للسي آي إيه عبر تركيا لقتل السوريين. وبدأ هؤلاء المسلحون بإطلاق الرصاص على المتظاهرين وعلى الشرطة، ثم بتفجير أبنية وصولاً إلى ارتكاب مجازر بحق مدنيين أبرياء وإلقاء اللوم على الدولة. تساعدهم حملة غير مسبوقة تروّج للأكاذيب عبر جهاز إعلامي ضخم وعالمي من آلاف المطبوعات والمواقع ومحطات التلفزة والإذاعة.
وفي الناحية الديبلوماسية من المؤامرة، تحرّكت جماعات خارج البلاد تدّعي أنّها تمثّل الشعب وتعطي وجهاً مدنيّاً مقبولاً للرأي العام وتمّولها وتوجّه تحركاتها وتلقنها دورها مؤسسات أميركية مثال National Endowment for Democracy وهي ذراع لوزارة الخارجية الأميركية ولرجل الأعمال جورج سوروس (الذي أدى دوراً مهماً في غزو النيوليبرالية كقّوة ناعمة) ولـ«فورد فاونديشن». وهذه المؤسسات الأميركية تموّل وتروّج ـــ في البلدان التي تريد تحريبها ـــ لتنظيمات مجتمع مدني و«ناشطين» شبابيين وحزبيين ومثقفين، يحرّك قياداتهم طمع أعمى أنّها ـــ أي تلك القيادات ـــ ستكافأ على مشاركتها في تدمير بلدانها بالمال والسلطة، هذا إذا كُتب للمؤامرة النجاح.
تدمير سوريا وزعزعة دولتها بهدف إنهائها كقوة اقليمية ينسجمان تماماً مع مخطط البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) وعنوانه «المرجع في شن حرب غير تقليدية» Unconventional Warfare Manual الذي يستعمل تكتيكات واضحة ومحدّدة تتدحرج وتكبر ككرة الثلج. تبدأ بتقديم المال إلى منظمات مجتمع مدني تعمل على خلق أجواء عصيان واضطرابات في البلد المستهدف، يليها احتلال قرى وبلدات حدودية بواسطة جماعات مسلحة ثم خلق مبررات مصطنعة وحجج لشن غارات للناتو على المنشآت الحيوية والاستراتيجية في البلد المستهدف. وتقوم بعدها الشركات الغربية الكبرى بتوقيع عقود قيمتها عشرات مليارات الدولارات مع الحكام الجدد بهدف «إعادة الاعمار». ومخطط زعزعة سوريا هذا يكشف هذه الهندسة للحروب وفبركة أسبابها.
الأزمة داخلية: سوريا ضحية نظام استبداد
تقول خلاصة العوامل الداخلية إنّ سوريا حكمتها منذ 1949ـــ باستثناء فترات ديمقراطية في الخمسينيات والستينيات ـــ أنظمة استبدادية، نواتها عسكر لم يتردّدوا في استعمال القوّة الغاشمة وأجهزة الاستخبارات لقمع الحريات وحقوق المواطنين الأساسية، وإنّ هذه الأنظمة عمدت إلى ابتلاع الثروات الوطنية عبر الممارسات الفاسدة والنهب والهدر والمحاباة والزبائنية. ومنذ 1963 صبر الشعب السوري على حكم البعث وثار في مراحل مختلفة. ثم منح الرئيس الشاب بشّار الأسد بضعة أعوام للتغيير وهذا لم يحصل، بل إنّ التغيير الذي حصل كان لخدمة النيولبرالية، وهو تلبية مطالب جماعات ليبرالية من السوريين، مرتبطة بالرأسمالية الدولية كانت مصلحتها في تحرير الاقتصاد، فيما ضعفت شبكة الرعاية الاجتماعية وازداد الافقار.
كما أنّ دولة البعث ومنذ 1964 أضعفت الطائفة السنيّة السياسية التقليدية سياسياً واقتصادياً، ثم ارتكبت مجازر في حماه وجسر الشغور وتدمر ومناطق أخرى، استمرت حتى مطلع الثمانينيات. ووضعت قانوناً يحكم بالاعدام على عضوية «الاخوان المسلمين»، وخلقت طبقة رأسمالية جديدة من سنّة المدن تتحالف مع النظام وتستفيد منه.
إزاء هذا الواقع ثار الشعب من أجل حقوقه الاجتماعية والاقتصادية وقضايا الحرية والديمقراطية، ومن ضمنه الإخوان، إذ إنّ بروز التيار الاسلامي في ثورة سوريا وغيرها كان تطوّراً طبيعياً، وقد جاء دور الاسلاميين ليحكموا بعد الفشل الذريع للقومية العربية والاشتراكية.
ولكن العوامل الداخلية لا يجوز أن تعني وضع مصير بلاد بأكملها على المحك، فيصبح تدمير سوريا هدفاً بحد ذاته، ما يضعف حجّة العوامل الداخلية ويقوّي منطق من هي أم الصبي («أقطعُه نصفين بالسيف» ـــ قالت الأم المزيفة للملك سليمان)، ما يطرح علامة استفهام كبرى حول من يرفض الحوار (الحصول على كل شيء أو لا شيء). إذ بخلاف مصر وتونس، حيث انتقلت الولايات المتحدة وحلفاؤها من دعم مبارك وبن علي إلى التحالف مع الإسلاميين، في حال ليبيا وسوريا اختطفت الثورة من الشعب لضمان نتائج تخدم مصالح النيوليبرالية. فمنذ عقود حافظت سوريا وليبيا على قدر محدود من الاستقلالية في السياسة الداخلية والخارجية والبرامج الاجتماعية ودولة الرعاية. وهذا لا توافق عليه الولايات المتحدة لأنّ المطلوب هو الطاعة والانفتاح الاقتصادي التام للنهب الخارجي.
وبعد انطلاق حرب الناتو على ليبيا، طُرح سؤال على نعوم تشومسكي «لماذا إسقاط ليبيا وقد دأب القذافي على خدمة مصالح الغرب في السنوات العشرة الماضية؟». فأجاب: access is not enough. (ويقصد أنّ النيوليبرالية من منطق استكبار تقول: كمَن أنتِ يا ليبيا ـــ أو يا سوريا ـــ حتى تسمحي أو لا تسمحي لنا بدخول بلدكِ ونهب ثرواته؟ ابتعدي من طريقنا لندخل براحتنا ونأخذ ما نشاء»). في ليبيا كان الهدف تأمين النفط لفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، ونقل مقر القيادة العسكرية الأميركية إلى ليبيا.
إزاء حرب الناتو والحرب الإعلامية ضد القذافي، ظهرت مقالات تبيّن صورة أخرى عن الدولة التي كانت هناك. وإحداها مقالة عنوانها: «لماذا يقف شعب ليبيا إلى جانب القذافي، ولماذا لم يسقط القذافي بعد ستة أشهر من قصف الناتو؟»
Pourquoi le peuple libyen soutient tant Kadhafi et pourquoi
après 6 mois de bombardement de l’OTAN il n’est pas tombé.
شرح المقال أنّ المواطن الليبي تمتّع بحقوق اقتصادية واجتماعية في عهد القذافي تُعدّ خيالية في أي دولة أخرى في العالم بما فيها دول أوروبا1. ولم تكن دواعي ثورة ليبيا إذاً لأسباب تتعلّق بالإفقار أو الوضع الاجتماعي الاقتصادي، بل من أجل الحريات العامة ومواجهة الاستبداد، لكن ذلك لم يكن كافياً ولا يبرّر حرباً مسلّحة قبلية أصولية دولية، إذ عندما بدأت جحافل المسلّحين تتجمّع في شرق ليبيا كانت ضعيفة إلى درجة أنّ الدولة الليبية كادت تحسم الأمر لولا دخول الناتو. أمّا سوريا، فقد قدّمت الدولة خدمات وبرامج أسوة بليبيا، مع فارق أنّ وضع السوريين الاجتماعي والاقتصادي كان أسوأ في السنوات الأخيرة من الليبيين، لكن أفضل من حال المصريين.
لقد وقفت سوريا في وجه التهديدات الخارجية، وتراجع كثيراً في مطلع عام 2013 احتمال غزوها من الخارج لأنّ الدولة السورية كانت قوية تدعمها طبقات اجتماعية وأقليات دينية وجيش وأجهزة متينة، ورئيس جمهورية يتمتّع بشعبية كبيرة نسبياً مقارنة بمبارك وبن علي، فيما كانت المعارضات السورية ـــ رغم صوابية أمور ومطالب عدّة تطرحها ـــ متنوّعة ومتنافرة وجزء مهم منها مرتهن للخارج.
وخصوصية الحالة السورية أنّ جزءاً من أزمتها هي حرب أهلية، لأنّ ثمّة عوامل داخلية حقيقية، لكنّها عوامل سهّلت تفعيل العوامل الخارجية ومهدت لاختراق البلاد والتدخّل الخارجي، ما جعلها أيضاً حرباً اقليمية دولية. وهذا يلقي المسؤولية المشتركة على دولة البعث وعلى قوى المعارضة على السواء عندما يجري السعي إلى وقف القتال والوصول إلى حل سلمي.
* أستاذ جامعي لبناني ــ كندا
النهار
كمال ديب
عندما يبدأ التفاوض السوري ـــ السوري والعربي والدولي لإيجاد مخارج الحلّ للأزمة السورية، من المفيد أن توضع الأزمة في إطارها الصحيح بأنّها ليست خارجية بالكامل ولا داخلية بالكامل، مع ترجيح كفّة العوامل الخارجية (أنّ سوريا تدافع عن نفسها ضد عدوان خارجي)، إذ لا يمكن رفض التعامل مع العوامل الداخلية على أنّها كلها إرهاب ومرتزقة، بل إنّ الأزمة هي إلى حدّ ما حرب أهلية أيضاً. ويمكن شرح حرب سوريا بأربعة عوامل خارجية («الربيع العربي» والحرب الإعلامية/ الديبلوماسية، والصراع السوري ـــ الإسرائيلي، وسعي الخارج إلى تدمير الدولة السورية والمجتمع). وثلاثة داخلية (فشل «ربيع دمشق»، والصراع القديم بين البعث والإخوان، وانفجار اجتماعي اقتصادي داخلي). وهذا يجرّنا إلى الخلاصتين التالتين:
الأزمة هي خارجية: سوريا ضحية هجمة اقليمية ــ دولية كبرى
تقول خلاصة العوامل الخارجية إنّ «الثورة السورية» تعبير يستحق السخرية، خلقته مؤامرة غربية استعملت جيشاً من المحرّضين والمخرّبين والمرتزقة والسلفيين المتطرفين وجمعيات مجتمع مدني ـــ فاسدة ومرتهنة التمويل ـــ ومنظومة إعلامية عالمية. وإنّ الولايات المتحدة ومعها حلف الناتو واقطاعيات الخليج سعت إلى سحق سوريا، الدولة العربية المستقلة التي تقدّم برامج اجتماعية إلى شعبها وترفض الاستسلام لإسرائيل.
هذا الحلف الجهنمي فتح أبواب الجحيم على سوريا فسلّط عليها عصابات مسلحة وقوى ارهابية مرتزقة وعناصر ميليشياوية، كما جلب عصابات مسلحة إسلامية تابعة للسي آي إيه عبر تركيا لقتل السوريين. وبدأ هؤلاء المسلحون بإطلاق الرصاص على المتظاهرين وعلى الشرطة، ثم بتفجير أبنية وصولاً إلى ارتكاب مجازر بحق مدنيين أبرياء وإلقاء اللوم على الدولة. تساعدهم حملة غير مسبوقة تروّج للأكاذيب عبر جهاز إعلامي ضخم وعالمي من آلاف المطبوعات والمواقع ومحطات التلفزة والإذاعة.
وفي الناحية الديبلوماسية من المؤامرة، تحرّكت جماعات خارج البلاد تدّعي أنّها تمثّل الشعب وتعطي وجهاً مدنيّاً مقبولاً للرأي العام وتمّولها وتوجّه تحركاتها وتلقنها دورها مؤسسات أميركية مثال National Endowment for Democracy وهي ذراع لوزارة الخارجية الأميركية ولرجل الأعمال جورج سوروس (الذي أدى دوراً مهماً في غزو النيوليبرالية كقّوة ناعمة) ولـ«فورد فاونديشن». وهذه المؤسسات الأميركية تموّل وتروّج ـــ في البلدان التي تريد تحريبها ـــ لتنظيمات مجتمع مدني و«ناشطين» شبابيين وحزبيين ومثقفين، يحرّك قياداتهم طمع أعمى أنّها ـــ أي تلك القيادات ـــ ستكافأ على مشاركتها في تدمير بلدانها بالمال والسلطة، هذا إذا كُتب للمؤامرة النجاح.
تدمير سوريا وزعزعة دولتها بهدف إنهائها كقوة اقليمية ينسجمان تماماً مع مخطط البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) وعنوانه «المرجع في شن حرب غير تقليدية» Unconventional Warfare Manual الذي يستعمل تكتيكات واضحة ومحدّدة تتدحرج وتكبر ككرة الثلج. تبدأ بتقديم المال إلى منظمات مجتمع مدني تعمل على خلق أجواء عصيان واضطرابات في البلد المستهدف، يليها احتلال قرى وبلدات حدودية بواسطة جماعات مسلحة ثم خلق مبررات مصطنعة وحجج لشن غارات للناتو على المنشآت الحيوية والاستراتيجية في البلد المستهدف. وتقوم بعدها الشركات الغربية الكبرى بتوقيع عقود قيمتها عشرات مليارات الدولارات مع الحكام الجدد بهدف «إعادة الاعمار». ومخطط زعزعة سوريا هذا يكشف هذه الهندسة للحروب وفبركة أسبابها.
الأزمة داخلية: سوريا ضحية نظام استبداد
تقول خلاصة العوامل الداخلية إنّ سوريا حكمتها منذ 1949ـــ باستثناء فترات ديمقراطية في الخمسينيات والستينيات ـــ أنظمة استبدادية، نواتها عسكر لم يتردّدوا في استعمال القوّة الغاشمة وأجهزة الاستخبارات لقمع الحريات وحقوق المواطنين الأساسية، وإنّ هذه الأنظمة عمدت إلى ابتلاع الثروات الوطنية عبر الممارسات الفاسدة والنهب والهدر والمحاباة والزبائنية. ومنذ 1963 صبر الشعب السوري على حكم البعث وثار في مراحل مختلفة. ثم منح الرئيس الشاب بشّار الأسد بضعة أعوام للتغيير وهذا لم يحصل، بل إنّ التغيير الذي حصل كان لخدمة النيولبرالية، وهو تلبية مطالب جماعات ليبرالية من السوريين، مرتبطة بالرأسمالية الدولية كانت مصلحتها في تحرير الاقتصاد، فيما ضعفت شبكة الرعاية الاجتماعية وازداد الافقار.
كما أنّ دولة البعث ومنذ 1964 أضعفت الطائفة السنيّة السياسية التقليدية سياسياً واقتصادياً، ثم ارتكبت مجازر في حماه وجسر الشغور وتدمر ومناطق أخرى، استمرت حتى مطلع الثمانينيات. ووضعت قانوناً يحكم بالاعدام على عضوية «الاخوان المسلمين»، وخلقت طبقة رأسمالية جديدة من سنّة المدن تتحالف مع النظام وتستفيد منه.
إزاء هذا الواقع ثار الشعب من أجل حقوقه الاجتماعية والاقتصادية وقضايا الحرية والديمقراطية، ومن ضمنه الإخوان، إذ إنّ بروز التيار الاسلامي في ثورة سوريا وغيرها كان تطوّراً طبيعياً، وقد جاء دور الاسلاميين ليحكموا بعد الفشل الذريع للقومية العربية والاشتراكية.
ولكن العوامل الداخلية لا يجوز أن تعني وضع مصير بلاد بأكملها على المحك، فيصبح تدمير سوريا هدفاً بحد ذاته، ما يضعف حجّة العوامل الداخلية ويقوّي منطق من هي أم الصبي («أقطعُه نصفين بالسيف» ـــ قالت الأم المزيفة للملك سليمان)، ما يطرح علامة استفهام كبرى حول من يرفض الحوار (الحصول على كل شيء أو لا شيء). إذ بخلاف مصر وتونس، حيث انتقلت الولايات المتحدة وحلفاؤها من دعم مبارك وبن علي إلى التحالف مع الإسلاميين، في حال ليبيا وسوريا اختطفت الثورة من الشعب لضمان نتائج تخدم مصالح النيوليبرالية. فمنذ عقود حافظت سوريا وليبيا على قدر محدود من الاستقلالية في السياسة الداخلية والخارجية والبرامج الاجتماعية ودولة الرعاية. وهذا لا توافق عليه الولايات المتحدة لأنّ المطلوب هو الطاعة والانفتاح الاقتصادي التام للنهب الخارجي.
وبعد انطلاق حرب الناتو على ليبيا، طُرح سؤال على نعوم تشومسكي «لماذا إسقاط ليبيا وقد دأب القذافي على خدمة مصالح الغرب في السنوات العشرة الماضية؟». فأجاب: access is not enough. (ويقصد أنّ النيوليبرالية من منطق استكبار تقول: كمَن أنتِ يا ليبيا ـــ أو يا سوريا ـــ حتى تسمحي أو لا تسمحي لنا بدخول بلدكِ ونهب ثرواته؟ ابتعدي من طريقنا لندخل براحتنا ونأخذ ما نشاء»). في ليبيا كان الهدف تأمين النفط لفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، ونقل مقر القيادة العسكرية الأميركية إلى ليبيا.
إزاء حرب الناتو والحرب الإعلامية ضد القذافي، ظهرت مقالات تبيّن صورة أخرى عن الدولة التي كانت هناك. وإحداها مقالة عنوانها: «لماذا يقف شعب ليبيا إلى جانب القذافي، ولماذا لم يسقط القذافي بعد ستة أشهر من قصف الناتو؟»
Pourquoi le peuple libyen soutient tant Kadhafi et pourquoi
après 6 mois de bombardement de l’OTAN il n’est pas tombé.
شرح المقال أنّ المواطن الليبي تمتّع بحقوق اقتصادية واجتماعية في عهد القذافي تُعدّ خيالية في أي دولة أخرى في العالم بما فيها دول أوروبا1. ولم تكن دواعي ثورة ليبيا إذاً لأسباب تتعلّق بالإفقار أو الوضع الاجتماعي الاقتصادي، بل من أجل الحريات العامة ومواجهة الاستبداد، لكن ذلك لم يكن كافياً ولا يبرّر حرباً مسلّحة قبلية أصولية دولية، إذ عندما بدأت جحافل المسلّحين تتجمّع في شرق ليبيا كانت ضعيفة إلى درجة أنّ الدولة الليبية كادت تحسم الأمر لولا دخول الناتو. أمّا سوريا، فقد قدّمت الدولة خدمات وبرامج أسوة بليبيا، مع فارق أنّ وضع السوريين الاجتماعي والاقتصادي كان أسوأ في السنوات الأخيرة من الليبيين، لكن أفضل من حال المصريين.
لقد وقفت سوريا في وجه التهديدات الخارجية، وتراجع كثيراً في مطلع عام 2013 احتمال غزوها من الخارج لأنّ الدولة السورية كانت قوية تدعمها طبقات اجتماعية وأقليات دينية وجيش وأجهزة متينة، ورئيس جمهورية يتمتّع بشعبية كبيرة نسبياً مقارنة بمبارك وبن علي، فيما كانت المعارضات السورية ـــ رغم صوابية أمور ومطالب عدّة تطرحها ـــ متنوّعة ومتنافرة وجزء مهم منها مرتهن للخارج.
وخصوصية الحالة السورية أنّ جزءاً من أزمتها هي حرب أهلية، لأنّ ثمّة عوامل داخلية حقيقية، لكنّها عوامل سهّلت تفعيل العوامل الخارجية ومهدت لاختراق البلاد والتدخّل الخارجي، ما جعلها أيضاً حرباً اقليمية دولية. وهذا يلقي المسؤولية المشتركة على دولة البعث وعلى قوى المعارضة على السواء عندما يجري السعي إلى وقف القتال والوصول إلى حل سلمي.
* أستاذ جامعي لبناني ــ كندا
النهار