الأزمة السورية في القانون الدولي المعاصر
غسان ملحم
من الواضح أن منظمة الأمم المتحدة لم تضطلع بمهامها الميثاقية، أو لم تتمكن من ذلك، من طريقة التعاطي مع الأزمة السورية، للظروف السياسية والدولية التي تخضع لها سيرورة صنع القرار فيها. فالمنظمة الدولية لم تستطع وضع حد للممارسات العدوانية والإرهابية وانتهاكات المعاهدات الدولية المتعلقة بالمواطنة والحرية، وكذلك تسوية الأزمة بالطرق السلمية والدبلوماسية بين مختلف الأطراف الدولية المعنية بهذه القضية. فما الذي يمكن قوله في نمط إدارة المرجع الدولي الأعلى للأزمة السورية ومعها الأزمة الدولية الدبلوماسية؟ وما الذي تستطيع فعله هذه الهيئة الدولية، بل ينبغي لها فعله، بهدف المعالجة في سوريا بما يتلاءم مع الأحكام الدولية ذات الصلة؟
تهدف هيئة الأمم المتحدة في المبدأ إلى حل المنازعات الدولية بالطرق السلمية وقمع العدوان في إطار العمل المشترك بقصد المحافظة على السلم والأمن على الصعيد الدولي، والحؤول دون اندلاع حالة الحرب وفقاً لمبادئ القانون الدولي. ومن مقاصدها كذلك إنماء العلاقات الودية بين الدول على قاعدة المساواة في ما بينها، وبالتالي تحفيز التعاون الدولي في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية لتعزيز ركائز الاستقرار العالمي. لذا تمثل هذه المنظمة الدولية المرجع المركزي الذي يتولى إدارة الجهود المبذولة من قبل مكونات المجتمع الدولي وتنسيقها لإدراك الغايات المشتركة انطلاقاً من ضرورة ترتيب العلاقات الدولية ودفعها باتجاه التعاضد والتكامل.
وقد تطور مفهوم العمل الدولي المشترك في المنظمة مع مرور الوقت، إذ لم يعد يقتصر على إرسال القوات الدولية وقبلها البعثات الدبلوماسية المتخصصة في إطار العمليات المولجة بتسوية المنازعات الدولية والإقليمية وإزالة الأسباب التي تهدد السلام، أو التي قد تؤدي إلى الإخلال به. فالمنظمة الأممية تؤكد، بحسب النص الميثاقي، على تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية لجميع الأفراد والجماعات دونما تمييز أو تفرقة، استناداً إلى البند الثالث من المادة الأولى. وهي لذلك تنادي بمراعاة الحق في تقرير المصير لكافة الشعوب والأمم، وتقر به في البند الثاني من المادة ذاتها، الأمر الذي يحيلنا إلى الممارسة الطبيعية لهذا الحق في فهمه التقليدي في مواجهة الاستعمار والاحتلال الأجنبي. إلا أنّ الهيئات المختصة فيها عمدت إلى تطوير هذا النظرية تدريجياً، إذ لم تعد محصورة بمبدأ الاستقلال الوطني في مجال العلاقات الخارجية، وتمكنت من إقرار مبدأ الشرعية الديموقراطية، أو أقله التأكيد عليه في أكثر من قضية، في إشارة إلى البعد الداخلي لتقرير المصير. يأتي ذلك على أرضية تصاعد حركة المجتمع الدولي من أجل الديموقراطية التي تنطوي على حرية اختيار النظام السياسي والاجتماعي الذي يعبر عن التطلعات الوطنية والتفضيلات التي يريدها الناس. هكذا بدأت تتسع دائرة صلاحية الأمم المتحدة في التدخل حتى باتت في كثير من القضايا الدولية المرجع الصالح للنظر في مدى الشرعية السياسية للأنظمة الحاكمة في العديد من البلدان. والأمثلة عديدة على ذلك، وقد لا يتسع المجال لذكرها. فالأمم المتحدة بدأت بتسيير الجيل الثاني من عمليات حفظ السلام، والتي تهدف إلى وضع عجلة العملية السياسية في الداخل على سكة الديموقراطية، أقله من الناحية النظرية، إذا ما أردنا غض الطرف عن التدخلات الخارجية والخلفية السياسية التي تجعل تدخل المجتمع الدولي، وخاصة القوى العظمى فيه، مدار بحث وموضع اتهام.
من هذا المنظار، تغدو هيئة الأمم المتحدة معنية قانوناً بالنظر في قضية الصراع في سوريا من زاوية العمل في سبيل التوصل إلى صيغة تؤدي إلى وقف فوري لإطلاق النار والحد من الانتهاكات المروعة للاتفاقيات الدولية المرعية الإجراء. فالقانون الدولي المعاصر بات يجيز لها التدخل تحت ستار الأغراض الإنسانية، كما أنه يعنى بمتابعة المسائل التي تتصل بفكرة الحرية الديموقراطية التي أصبحت نموذجاً ينبغي التقيد به في كافة المجتمعات السياسية والحضارية. والمطلوب أيضاً وضع تصور أو برنامج عمل تكفله وتتعهد بدعمه الأطراف الدولية الفاعلة في موضوع الأزمة السورية، على أن تتضمن هذه الخطة اتفاقاً سورياً مقروناً بتفاهم دولي حول سبل التطوير أو الإصلاح الديموقراطي.
لقد دخلت العديد من الدول في الصراع الدائر في سوريا، وعمدوا إلى إثارة النعرات والتصعيد الميداني بنية التدويل والتدخل في الملف السوري. ولكن المعركة فيها بين طرفي السلطة القائمة والمعارضة هي في الجوهر صراع حول هذه السلطة ومن أجلها، تذكيه المصالح الخارجية والأطماع الاستعمارية في المنطقة عموماً وفي سوريا خصوصاً. بهذا المعنى، تبقى المسألة السورية قضية داخلية، لا يجوز لجميع الأفرقاء في الخارج، الأصدقاء والحلفاء والأعداء، التدخل فيها سوى بقصد المساندة لسوريا في الحل، وبطلب منها أو بموافقتها. فما وصلت إليه نتيجة كل تلك التدخلات التي تستهدف ضرب المناعة الداخلية وإقحام البلاد في الصراع على النفوذ الدولي. لقد ورد في البند السابع من المادة الثانية لميثاق الأمم المتحدة ما مفاده وجوب الامتناع عن التدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لأية دولة، وكذلك لا يوجد فيه ما يقتضي عرض مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم الميثاق! وعليه، يكاد ينحصر دور المجتمع الدولي داخل المنظمة في المساعدة على الإعداد لمبادرة التحول أو التطور الديموقراطي. فالإصلاح السياسي والدستوري تحد وطني يحتاج إلى الوعي والمسؤولية والخبرة، ولا يمكن لأي أحد في الخارج أن يحل مكان المواطن السوري في دوره الوطني في الإنقاذ والتصحيح. لقد قامت الأمم المتحدة على احترام مبدأ السيادة الوطنية الذي كان ويجب أن يبقى الدعامة الأولى للنظام الدولي الحديث والمعاصر، انسجاما مع نص البند الأول من المادة الثانية في الميثاق. وما التأكيد في البند الرابع منها على وجوب الالتزام بعدم استعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي والاستقلال السياسي لأية دولة سوى من باب الإقرار الصريح بمحددات التحرك الدولي المشروع والمقبول. هكذا، تبدو الأمم المتحدة مطالبة بالعمل لزاماً من أجل إعادة الاستقرار إلى سوريا أولاً، والانخراط في المبادرة الجادة إلى التغيير الديموقراطي ثانياً. وهي لهذه الغاية يمكنها إرسال البعثات الدبلوماسية واللوجستية، من ضمن رؤيتها الخاصة في الإصلاح، لمراقبة الانتخابات العامة وتفعيل أدوات المساءلة والمحاسبة وتحفيز المشاركة وتنمية القدرات المحلية كما الارتقاء بمستوى الأداء الحكومي والإداري، وقبل كل ذلك جمع الأطياف المعارضة مع الأركان في النظام على مأدبة الحوار الوطني. على هذا النحو، يمكن المنظمة الدولية القيام بمهمة تاريخية في إنقاذ سوريا استناداً إلى المحددات القانونية الدولية، والترجمة الوحيدة لذلك هي التسوية ولا شيء سواها في التحليل السياسي لإقفال الأبواب على كل احتمالات المغامرة المجهولة.
من البديهي القول بأن تطور دور هيئة الأمم المتحدة جاء ليستجيب للعديد من التحديات التي تفرضها دوماً متغيرات المنظومة الدولية، ومنها تبدل الموازين العالمية لمصلحة الحلف الأميركي الأوروبي في الماضي، الأمر الذي فرض على جدول أعمال المنظمة البنود المتعلقة بالامتثال لنموذج الاقتصاد الرأسمالي والديموقراطية الليبرالية. ولكن الهيئة الدولية تواجه المزيد من المشاكل التي تستلزم القبول بفكرة الإصلاح في داخلها قبلاً. فالأزمة السورية أبرزت عجزها عن ضمان الالتزام فعلياً بمبادئها الآمرة في تسوية القضايا الدولية المتنازع عليها، حتى بات من الضروري بل الملح إعادة النظر في بنية هذه المنظمة الدولية ومسار عملية صنع القرار في داخل أروقتها في سبيل إعادة الهيبة إليها، ولكن أيضاً من أجل إيجاد الصيغة الجديدة لتحرك الهيئات أو الأجهزة فيها بشكل فاعل، بما يتماشى مع المعادلة الدولية المتبلورة. إلى ذلك الحين، تبقى الحلول في سوريا معلقة على إرادات أصحاب القرار في العالم، على أن يعاد بناء القاعدة القانونية الدولية الآمرة على صورة المشهد الرأسمالي الدولي.
* باحث سياسي
السفير