صفحات العالم

الأزمة السورية والانتخابات الإيرانية

 محمد السعيد ادريس

تعد إيران من أكثر الدول في العالم تأثراً في أوضاعها وسياساتها الداخلية بما يموج من أحداث وتفاعلات في البيئة الإقليمية المجاورة والبيئة العالمية، بسبب كثافة تفاعلاتها مع هاتين البيئتين، وهي تفاعلات تصل في كثير من الأحيان إلى درجة الاشتباك، وربما الاشتباك الساخن .

هذا التأثير تكشّف بوضوح خلال الأسابيع والأيام الأخيرة الماضية في ما يمكن وصفه من دون تجاوز، ب”تجربة الانتخابات التشريعية الباهتة” التي جرت يوم الجمعة الفائت . هناك أسباب داخلية كثيرة بالطبع أسهمت، دون أدنى شك، في أن تجيء هذه الانتخابات باهتة، على عكس الانتخابات الرئاسية السابقة عام 2009 التي فجرت أزمة سياسية حادة مازالت تداعياتها ممتدة حتى الآن .

من أهم هذه الأسباب، ومن أبرز هذه التداعيات ذلك العزوف الاضطراري للتيار الإصلاحي عن خوض الانتخابات بقوائم انتخابية قوية ومنافسة على نحو ما حدث في انتخابات سابقة، وهو عزوف مرجعه أولاً إلى عنف الضربات التي تلقاها هذا التيار ورموزه، خاصة كل من مير حسين موسوي ومهدي كروبي، ومنها أيضاً الانقسام الذي فرض نفسه بين مختلف أجنحة هذا التيار على الموقف من الحكم بعد الأحداث الدامية التي وقعت في فبراير/ شباط من العام الماضي التي وصلت إلى حد اتهام قادة هذا التيار بالخيانة العظمى، حيث اتجه البعض إلى المزيد من التشدد إزاء النظام إلى درجة المطالبة بإسقاطه والخروج على ثوابته والمواجهة المباشرة مع المرشد الأعلى السيد علي خامنئي، في حين آثر البعض التريث في ردود أفعاله وفضّل الانضباط خوفاً على التيار وخشية على مستقبله، وحاول أن يحافظ على مساحات من التلاقي مع قيادة النظام، هذا الانقسام امتد إلى الموقف من الانتخابات بين من أصّروا على المقاطعة ومن حاولوا رفض دعوة الانعزال ودفعوا بمرشحين مستقلين في دوائر مختلفة .

مجمل هذه التفاعلات أثرت كثيراً في مشاركة الإصلاحيين في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وجعلت مشاركتهم محدودة ورمزية، الأمر الذي انعكس بقوة على مناخ الانتخابات وعلى الأخص في المدن الكبرى، وجعلها انتخابات باهتة خالية من المنافسة الصاخبة المضادة وأفقدها مذاقها الطبيعي بعد أن انحصرت المنافسة الانتخابية هذه المرة بين قوائم التيار المحافظ باختلاف أنواعها .

هناك أسباب أخرى لا تقل أهمية في تأثيرها عن هذا الفتور وهي خروج قطاعات واسعة من المواطنين وخاصة في أوساط الشباب والنساء من دوائر المشاركة السياسية والاهتمام بالقضايا العامة، كرد فعل طبيعي على الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، وتكشّف الكثير من مساوئ الحكم وفساد النخبة الحاكمة التي افتقدت الكثير من جاذبيتها الشعبية، وهي مساوئ وصلت إلى درجة استدعاء مجلس الشورى “البرلمان” للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لمساءلته بشأن “انتهاكات” اتهمت حكومته بارتكابها، فضلاً عن سوء إدارة الاقتصاد وتداعيات العقوبات الاقتصادية الدولية وآخرها مقاطعة دول الاتحاد الأوروبي للنفط الإيراني، ما أدى إلى انخفاض حاد في سعر العملة الإيرانية “التومان” وصل إلى 8% بحسب اعتراف المصرف المركزي الإيراني .

كان استجواب مجلس الشورى للرئيس نجاد صدمة قاسية أفقدت الكثير من الإيرانيين حماستهم لما يرونه أمامهم من صراعات ومنافسات سياسية بين النخب الحاكمة أدت إلى إقصاء تيار سياسي عن المشاركة في العملية السياسية، لكنها أدت أيضاً إلى استئثار تيار واحد بالسلطة وانخراط هذا التيار في ممارسات تجريح وصلت إلى درجة التخوين والاتهام بالانحراف .

هذه الأسباب الداخلية وغيرها، أثرت من دون أدنى شك، في المناخ العام للانتخابات وفي مجمل أجوائها، لكن التأثير الأهم جاء من الخارج في ظل تفاقم الضغوط الخارجية وشعور الإيرانيين بخطورة التهديد القادم من الخارج، الأمر الذي يؤثر بدرجة كبيرة في التفاعلات السياسية الداخلية ويجعلها تتوارى في أولويتها مقارنة بأولوية التحسب والتصدي لما هو تهديد قادم من الخارج، ومن ثَم تراجعت أولوية هذه الانتخابات ولم تستطع أن تفرض نفسها كحدث بارز صاخب على نحو ما كان معتاداً في انتخابات أخرى سابقة، بغض النظر عن نسب المشاركة الشعبية في هذه الانتخابات .

من أبرز هذه التحديات ذلك التهديد الحقيقي “الإسرائيلي” بشأن ما يتعلق بخيار الحرب ضد إيران، والجدل الأمريكي – “الإسرائيلي” الصاخب بشأن الدعوة إلى هذه الحرب، وهو تهديد لا شك قد يشعل المنطقة بأسرها إذا ما تحول إلى واقع ومن الممكن أن يجر الولايات المتحدة إلى حرب، وإلى الدرجة التي رفعت سعر النفط إلى مستويات شبه قياسية بسبب تزايد حدة التوتر بين إيران والغرب .

حديث الحرب على إيران، رغم أنه تحول إلى حديث معتاد في كل مرة تتأزم العلاقات بين الغرب وإيران بسبب البرنامج النووي فتخرج “إسرائيل” لتفرض دعوة الحرب، لكن يبدو أنه هذه المرة يكتسب مزيداً من الجدّيّة، لأسباب تراها “إسرائيل” محفزة للضغط على الأمريكيين لإقناعهم بالمشاركة في هذه الحرب، أو على الأقل السماح ل”إسرائيل” القيام بها شرط توفير الدعم العسكري اللازم لإنجاحها وتوفير المتطلبات اللوجستية والسياسية الضروريتين .

هناك أسباب غير مباشرة لهذا الاندفاع “الإسرائيلي” أبرزها ما تراه “إسرائيل” من تفاقم لعلاقات إيران بجوارها الإقليمي الخليجي والتركي على وجه الخصوص، لكن الأزمة السورية الراهنة تعدّ الدافع الأهم لذلك .

تدخل الأزمة السورية طرفاً شديد الخطورة والأهمية على مجمل تفاعلات إيران الإقليمية وأيضاً على أوضاعها وتفاعلاتها الداخلية، وعلى الأخص ملف الانتخابات التشريعية .

فالتطورات الأخيرة الخاصة بالأزمة السورية ابتداء من تداعيات “الفيتو” المزدوج الروسي – الصيني الذي أحبط محاولات دولية وإقليمية لدعم القرار العربي الداعي إلى إرسال قوات عربية ودولية لوقف العنف في سوريا، وانتهاء بما يمكن وصفه ب”فشل مؤتمر أصدقاء سوريا” الذي عقد مؤخراً في تونس، وبالذات ما يتعلق بدعم القرار نفسه، وفشل اتخاذ موقف بشأن تسليح المعارضة لإكساب دعوة إسقاط النظام الجدية اللازمة، حفز “إسرائيل” إلى محاولة تحويل الأولويات بحيث يأتي هدف إسقاط النظام في إيران ليسبق هدف إسقاط النظام في سوريا، طالما أن هدف إسقاط النظام في سوريا بات متعذراً أو محاصراً .

إيران تدرك هذا كله، تدرك أن دعوة إسقاط النظام السوري هي خطوة أولى نحو التوجه لجعل خيار الحرب عليها ميسّراً أو أمراً لا بد منه وغير مستحيل، ولعل هذا ما يفسر جدية الدعم الإيراني للنظام السوري .

هذا الفهم له ما يماثله في التعامل الإيراني مع مطالب التفاعل الشعبي الإيراني مع أصداء ورياح الربيع العربي، فهو إن حدث في إيران فتنةٌ ومؤامرة، تماماً كما هو في سوريا، أما في الدول الأخرى فهو صحوة، ولعل ثمار هذا الفهم هي ما أدى إلى كل هذا الفتور في الانتخابات التشريعية الإيرانية .

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى