الأزمة السورية… والدور العربي
د. وحيد عبد المجيد
سوريا في خطر. ولكنها ليست وحدها. أزمتها التي بلغت مرحلة اللاعودة ستكون لها تداعياتها في محيطها الإقليمي إذا تُركت لتزداد تفاقماً.
وليس لبنان فقط هو الذي قد يكون مسرحاً لهذه التداعيات. كما أن بعض الآثار المحتملة للأزمة السورية في لبنان قد لا يكون بعيداً عن الدائرة الإسرائيلية وما يتعلق بها من قضايا وصراعات. وانعكاس هذه الأزمة على القضية الفلسطينية قد يكون أكبر من مجرد قصف مخيم للاجئين في اللاذقية، وخصوصاً مع تصاعد التوتر مجدداً فيما يسمى “جبهة إسرائيل الجنوبية” وامتداده إلى مصر.
والعراق، بدوره، يقع في مهب رياح الأزمة السورية التي قد يؤدي استمرارها وتفاقمها إلى تعميق الانقسام الطائفي فيه، وربما أيضاً تنامي المشكلة العرقية إذا ازداد البعد الكردي في هذه الأزمة ظهوراً. وإيران التي يزداد قلقها كل يوم ليست بعيدة. نفوذها القوي في العراق يؤثر في مسار أزمة سوريا، وقد يتأثر بها أيضاً وخصوصاً في حالة اشتداد تفاقمها سواء بقي نظام بشار الأسد كما هو بدون إصلاح ونجح في إخماد الاحتجاجات، أو سقط بدون تسوية ما تحدد اتجاه المستقبل. أما تركيا الأكثر نشاطاً حتى الآن في محاولة إيجاد مخرج من الأزمة فهي تعبر عن قلقها وتؤكده يوماً بعد يوم.
ولعل أخطر ما في الأزمة السورية الآن هو أنها لا تزال في المفترق بعد ما يقرب من ستة أشهر على بدء الاحتجاجات في منتصف مارس الماضي. فالنظام لا يبدو آيلاً للسقوط على رغم توسع نطاق الاحتجاجات التي باتت تغطي معظم أنحاء البلاد. وينطوي استمراره عبر حل أمني وليس سياسيّاً على تكلفة فادحة لن تتحملها سوريا وحدها.
كما أن إسقاطه بدون حل سياسي قد لا يكون نهاية للأزمة، بل هو استمرار لها في صورة أخرى إلى أن يتبلور سيناريو واضح لبديله. فالوضع في سوريا معقد على نحو لا يمكن مقارنته بمصر أو تونس. فليس نظامها الأكثر شمولية والأشد قسوة فقط هو الذي يختلف عن نظامي مبارك وبن علي اللذين ثبت أنهما كانا بمثابة “هواة” في لعبة السلطة وما يقترن بها. كما أن الاختلاف لا يقتصر على أن الجيش المصري والتونسي هما أكثر ارتباطاً بشعبهما بحكم تاريخهما وتكوينهما.
الوضع في سوريا أشد تعقيداً على مستوى المجتمع بسبب التركيب الطائفي والعرقي، وعلى الصعيد السياسي أيضاً في ظل ضعف الجسور بين المعارضة التقليدية التي توجد قيادة معظمها في الخارج والمعارضة الجديدة التي تقود الاحتجاجات على الأرض عبر روابط مستحدثة (تنسيقيات). ولا يوجد حتى الآن تواصل يُعتد به بين أطراف المعارضة السورية، سواء في خارج البلاد حيث لا يوجد سوى تمثيل رمزي للقوى الجديدة التي تعمل على الأرض أو في الداخل حيث تبدو المعارضة الحزبية التقليدية هشة. فلا “ميدان التحرير” هنالك ولا “ساحة القصبة” اللتين التحم فيهما معارضو الرئيسين السابقين في مصر وتونس.
ولا يقل أهمية عن ذلك، إن لم يزد، أن الجيش السوري لم يأخذ خطوة واحدة بمنأى عن النظام ليكون قادراً على القيام بدور فاعل في مرحلة انتقالية بعده سواء بشكل مباشر كما في مصر أو بطريقة غير مباشرة كما في تونس.
ويعني ذلك أن إسقاط النظام بدون تسوية سياسية تحدد أو على الأقل توضح اتجاه المستقبل قد لا يكون حلاً للأزمة، وربما يعيد إنتاجها في شكل آخر.
وإذا كانت مصر وتونس تتعثران في مرحلة انتقال صعبة تزداد مشاكلها بدلاً من أن تقل يوماً بعد يوم، فما بالنا بسوريا الأكثر تعقيداً منهما على مختلف المستويات. وإذا كان مستقبل مصر وتونس يبدو غامضاً بعد أكثر من ستة أشهر في الأولى وسبعة في الثانية، على رغم أن رأسي النظامين السابقين أُسقطا بعد 18 يوماً فقط في إحداهما و28 يوماً في الثانية، فكيف يكون الحال في سوريا التي دخلت الاحتجاجات فيها شهرها السادس!
ولا يقل أهمية السؤال عن مستقبل سوريا وطريقها إلى بناء نظام جديد في غياب مجتمع مدني كان المصريون والتونسيون قد تمكنوا من تحرير مساحات متفاوتة فيه وخصوصاً النقابات المهنية في مصر والنقابات العمالية في تونس. ودلالة هذه الأسئلة، وغيرها، أن تغيير النظام في سوريا بدون حل سياسي قد لا يكون أكثر من إعادة إنتاج أزمتها في صورة جديدة إذا لم تتمكن المعارضة الجديدة والقديمة من التواصل سعياً إلى التوافق على صورة النظام الجديد. فالنقاش في هذه المسألة محصور تقريباً في المنفى. كما أنه لم يحقق تقدماً يذكر في حل الخلافات بين الإسلاميين وغيرهم.
أما نجاح النظام في إخماد الاحتجاجات أمنيّاً بدون حل سياسي وإصلاح حقيقي فلن يكون، بدوره، نهاية للأزمة التي ستندلع مجدداً بعد فترة يُرجح ألا تطول لأن مقومات الاستقرار ستكون مفقودة بشكل كامل تقريباً. فقد تغيرت سوريا فعلًا حتى إذا لم ينعكس ذلك على نظامها السياسي بعد. ولم يعد ممكناً حكمها بالطريقة السابقة. المجتمع تغير وصار أكثر استعداداً للتضحية من أجل حياة أفضل. والنظام فقد، ولا يزال يفقد كل يوم، مساحات أساسية من القاعدة الحزبية (البعثية) التي استند عليها في إدارة البلاد.
ويفيد مسار الصراع الداخلي منذ بدء الاحتجاجات أن النظام سيكون مديناً بالكثير لمن يُطلق عليهم “الشبيحة” إذا نجح في إخماد هذه الاحتجاجات، وأن اعتماده عليهم قد يُعجّل بالفصل الثاني في الأزمة الذي قد يكون أكثر عنفاً.
وهنا تكمن المعضلة السورية التي قد تكون فريدة في إطار ما يُطلق عليه “الربيع العربي” الذي يبدو أنه بدأ في الانحسار مع اقتراب فصل الخريف جغرافيّاً. فاستمرار النظام بدون إصلاح وبطابعه الراهن خطر يضاعف تكلفة التغيير الذي سيظل في هذه الحالة مؤجلاً وقد يجعلها أضعافاً. ولكن إسقاطه بدون حل سياسي لا يعني بداية الخروج من دائرة الخطر.
وهذا الحل هو ما ينبغي أن يكون هناك تدخل عربي من أجله عبر حوار منظّم مع النظام والمعارضة سواء التقليدية أو الجديدة سعياً إلى التوافق على برنامج زمني محدد للإصلاح يبدأ بوقف العنف السلطوي ويقود إلى انتخابات برلمانية حرة خلال أشهر قليلة يتم الاتفاق عليها.
ويتطلب نجاح هذا التحرك تقديم ضمانات عربية، تشمل رعاية البرنامج الإصلاحي والإشراف على الانتخابات.
ويعني ذلك أن التدخل العربي هنا لابد أن يكون مختلفاً عنه في ليبيا. ولكن المهم هو أن الوقت يمضي والأزمة تزداد حدة وتنتقل من الأطراف إلى القلب على نحو ينذر باقتراب مرحلة الحسم سواء إخماداً للاحتجاجات أو إسقاطاً للنظام. فقد راهنت السلطات السورية على أن تبقى الاحتجاجات بمثابة انتفاضة أطراف وأرياف. ولكنها أخذت تتوسع وتنتقل إلى مدن رئيسة وتقترب من قلب دمشق بعد أن وصلت إلى أريافها وبعض ضواحيها الفقيرة. فالوقت ينفد، والخطر يتعاظم، على نحو يفرض الإسراع بتحرك عربي يقدم رؤية لحل سياسي قابل للتطبيق.
الاتحاد