الأزمة في سوريا الى أين؟
محمد أبو عمار
وتستمر الأزمة في سوريا من دون أن تبدو في الأفق حلول واضحة!..
إن أحداث عام ونص تقريباً من الأزمة السورية، قد أظهرت بوضوح أن طريق سوريا نحو الديمقراطية أكثر تعقيداً مما كان يعتقد. لقد تشابكت في هذه المسيرة المعقدة مجموعة واسعة من المصالح ليست فقط الداخلية أو العربية، وإنما الدولية ايضاً، ما جعل هذه المسيرة تشق طريقها بصعوبة بالغة لم يكن يتوقعها الكثيرون. وإن أحد الأخطاء الكبرى التي ارتكبت هنا، هي المحاولات التي جرت من أجل تعميم ما جرى في بعض البلدان العربية على سوريا. وقد ظهر بجلاء أن مثل هذه التعميمات كانت خاطئة. وبالاضافة لذلك، ان خمسين عاماً تقريباً من التهميش السياسي الذي جرى في سوريا، قد انعكس بشكل واضح على العمل السياسي بصورة عامة في البلاد. وانعكس أيضاً بصورة مباشرة على تكوّن معارضة داخية ناضجة قادرة على فهم الواقع السوري بعمق وبلورة مشروع وطني للتطور الديمقراطي في البلاد. بالإضافة الى كل ذلك، لم تؤخذ بالاعتبار قدرة النظام على المناورة التي أظهرت بشكل واضح تفوقه على المعارضة التي لم تستطع الارتقاء الى المرحلة التي يصبح فيها التطور الديمقراطي في البلاد واقعاً ملموساً. وكي تكون الفكرة واضحة، لا بد من استعراض المواقف العديدة التي تعكس نظرات محددة في ما يتعلق بحل الأزمة السورية.
بالطبع هناك تصور للنظام مبني بالدرجة الأولى على إمكانية حل الأزمة أمنياً رغم أنه يعترف بوجود أخطاء ارتكبها. ويدّعي أن للأزمة جوانب داخلية، لكنها ليست أساسية، بل الأساس هو “المؤامرة على النظام الوطني في سوريا من أجل ضرب نهج الممانعة الذي يتبعه النظام، خصوصاً في ما يتعلق بإسرائيل”.
باختصار: يعتقد النظام أنه “نتيجة موقفه الوطني الداعم لحركات المقاومة، فهو مستهدف من قبل الامبريالية والصهيوينة. وهذا أدى الى تكالب واسع من قبل القوى الامبريالية والصهيونية على اسقاط هذا النظام”. لذلك فإن الحراك الذي يجري في البلاد بجزء كبير منه هو “حراك مشبوه لا يهدف الى التغيير. وإنما يهدف الى إحداث تغيير سياسي في البلاد يربط سوريا بالمعسكر المناهض للتحرر في العالم العربي!”.
بيد أن هذا الرأي لم يكن هو الرأي الوحيد. بل هناك آراء قريبة من آراء النظام، ربما تكون حليفة له بأشكال مختلفة، ترى وتقر بوجود “مؤامرة امبريالية”، ولكنها من جانب آخر ترى أن هناك شقاً داخلياً للأزمة السورية يجب عدم التقليل من أهميته.
باختصار: ان هذه الآراء تعطي البعد الداخلي أهمية أكثر مما يعطيه النظام. لكن ما يجمع هذين الموقفين هو “المؤامرة”. ومن حيث الجوهر، يتفوق هذا الشق الآخر في السياسة العامة لهذه القوى.
أما في ما يتعلق بالمعارضة السورية، فيمكن القول انها انتهت أخيراً الى موقفين:
ـ الموقف الاول يرى أن لا حل للأزمة في سوريا الآن إلا بإسقاط النظام بعدما نضبت كل الوسائل السلمية خاصة بعدما قابلها النظام بأعتى ما عنده من قوة أمنية وعسكرية. ويرى استحالة التغيير ديمقراطياً من دون رحيله، لذا يجب إسقاطه عن طريق الثورة المسلحة.
ـ الموقف الآخر: يؤكد على ضرورة اسقاط النظام ولكنه يركز على ما يلي:
1 ـ إسقاط النظام من حيث بُناه التشريعية.
2 إن إسقاط هذا النظام يجب أن يتم بالعتلات السياسية من دون استخدام السلاح.
إن ما يجمع بين هذين الرأيين هو الاتفاق على إسقاط النظام. أما ما يفرّقهما فهو أسلوب إسقاط النظام. وبما أن الطرف الأول من المعارضة قد اختار الحل العسكري، فهو دفع مجموعات للتسلح ومقارعة النظام وتطور الصراع الى صراع عسكري انطلاقاً من وجود تصورات باستحالة التحول الديمقراطي في البلاد دون إسقاط النظام بقوة السلاح. أما الطرف الآخر، فيدعو فقط الى النضال السياسي. وهذا ما يشكل الخلاف الجوهري بين المجلس الوطني وهيئة التنسيق على سبيل المثال.
لكن في كل الأحوال، ما يلاحظ في الساحة أن جميع القوى السياسية الفاعلة حالياً تفتقد الى المشاريع الواضحة حول طريق سوريا الى الديمقراطية، كما تفتقد تحليلاً عميقاً للبنى المجتمعية يعود بالفائدة على مختلف الفئات الاجتماعية في سوريا. فالنظام على سبيل المثال، يفتقد للحلول السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولنأخذ مثلاً الدستور الذي اقترحته لجنة شكّلها النظام. نرى أن هذا الدستور رغم أنه قد لبى من طرف بعض ما كان يطالب به الشعب السوري في ما يتعلق بعدد من النقاط المهمة مثل المادة الثامنة وغيرها، بيد انه عالج مسألة الديمقراطية من منظور سلطوي، أي لم ينطلق من مسألة تعميم الديمقراطية وإنما انطلق من منظور الحفاظ على السلطة مما أضعف هذا الدستور وجعله لا يلبي طموحات غالبية الشعب السوري.
أما في ما يتعلق بالشق الاقتصادي والاجتماعي على سبيل المثال، أيضاً تفتقد السلطة الى رؤيا واضحة لطريق سوريا في مجال التطور الاقتصادي، هذه الرؤيا من شأنها ايجاد حلول لأزمة النظام الاقتصادية العميقة، إذ لا نرى هناك برامج واضحة، بل نرى تخبطاً كاملاً في الرؤيا، ولا تزال السلطة تخضع الاقتصاد للسياسة وللإيديولوجيا. هذا الأمر يحتاج الى بحث خاص لا يمكن الإحاطة به في مثل هذه المقالة. والآن لنستعرض ما الذي تمتلكه المعارضة في هذا السياق. نرى أيضاً غموضاً يعتري النشاط السياسي والفكري للمعارضة، في ما يتعلق بطريق سوريا الديمقراطي اللاحق. نحن لا نستطيع أن نتبين من نشاطات المعارضة السياسية الاتجاهات التي تسير عليها البلاد لاحقاً وما هي تصوراتهم الاقتصادية والاجتماعية. ان مسألة التنمية على سبيل المثال، هي من المسائل الملحّة جداً في بلد مثل سوريا، إذ يتوقف عليها التحسن المعاشي للسكان. ولا يوجد أي مشروع يرسم آفاق عريضة لهذه الموضوعة، إذ لم تضع أية فئة من المعارضة تصوراً حول ذلك لا بيمينها ولا بيسارها. الاخوان المسلمون على سبيل المثال يطرحون مشروعهم بالعودة الى الشريعة الاسلامية.. لكن هل يعقل هذا في القرن الواحد والشعرين؟ وكذلك العلمانيون، وحتى النظام نفسه.. لا نرى أنه يملك مشروعاً دقيقاً ولا تصوراً واضحاً حول طريق سوريا اللاحق. هذا يؤدي الى استنتاج هام يؤكد أن التغيير الجدي غير ناضج بعد.. ولو كان ناضجاً لأخذ مساراً آخر يختلف عن المسار العسير الذي نشاهده الآن. هناك أمثلة كثيرة يمكن ايرادها كشاهد على غياب المشاريع. ونعتقد هنا أن المجتمع السوري، بكل أطيافه يعيش أزمة عميقة. هذه الأزمة لا تقتصر على النظام فقط، وإنما تشمل المعارضة أيضاً.. النظام مأزوم بنيوياً. ولا حل إلا عبر الانفراج الديمقراطي الذي لا علاقة له بالمنطق السلطوي. السلطة يمكن أن تأتي وترحل من خلال المشاريع التي يقدمها هذا الحزب السياسي أو ذاك، أما الانفراج الديمقراطي، تحدده المشاريع الديمقراطية التي يمكن أن تطرح ويستفتى فيها الشعب. أي لا تقرر مسبقاً كما يفعل النظام. والدليل على أزمة المعارضة أيضاً غياب هذه المشاريع.
باختصار: إن البدائل الحالية القائمة لا تزال في مرحلة الكمون، إنها في المرحلة الجنينية. هناك تحديات كبيرة مطروحة وأسئلة كثيرة من الضروري الاجابة عليها. إن أزمة النظام، باعتقادنا هي أزمة بنيوية عميقة، وهو الذي يتحمل المسؤولية الكبرى في إيصال الحدة المجتمعية الى هذا المستوى من العنف. فتعنت النظام وتعويله، بالدرجة الأولى، على الحلول الآمنية من دون الحلول الأخرى التي كانت متاحة، ساعد على استخدام العنف المضاد دفاعاً مشروعاً عن النفس. وتجاوزت بذلك موازين القوى. فالتاريخ علّمنا أن الجماهير الشعبية هي أقوى من أية قوى أخرى مهما بلغت من قوة.
بيد أن مسؤولية المعارضة التي الى الآن لم تتعلم أن تتفق وأن تختلف مع الآخر، تأتي في أنها لم تستطع أن تستثمر اللحظة استثماراً صائباً بهدف دفع التطور في سوريا باتجاه ديمقراطي حقيقي.
وبتقديرنا يعود السبب في ذلك الى التهميش المجتمعي الذي جرى في البلاد خلال خمسين عاماً حيث كبح، بهذا الشكل أو ذاك، تكوّن وعي مجتمعي ناضج قادر على رسم آفاق تطور ديمقراطي واضح في البلاد. وهذا الأمر أدى الى الهشاشة الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لقوى التغيير. لا ننكر وجود قوى خارجية تعمل لاستغلال الأوضاع المتردية في البلاد واستثمارها لمصلحة ما. مثلاً: لا ترغب بتغيير ديمقراطي جدّي.. لأن أي تغير ديمقراطي جدي في سوريا ستكون له انعكاساته الاقليمية الواسعة التي لا يمكن أن تكون مقبولة لديها. ولكن لو لم يكن الوضع متردياً في البلاد أساساً لما استطاعت تلك القوى أن تفعل شيئاً اطلاقاً. ونستذكر بهذه المناسبة النقاشات التي كانت تجري سابقاً إثر انهيار منظومة المعسكر الاشتراكي والتي برز منها رأيان: رأي يقول: إن الأسباب العميقة لهذا الانهيار الكبير.. هو “المؤامرة الامبريالية العالمية والصهيونية على الاتحاد السوفيتي”. ولكن هذه المؤامرة كانت باستمرار موجودة ولم تستطع إسقاط النظام السوفيتي إلا عندما وصلت التناقضات الداخلية في هذا المجتمع “الاشتراكي” الى الحد الذي لا مفر من السقوط… لقد أصبح أخيراً عقبة أمام تطور القوى المنتجة، وبالتالي أمام التطور المجتمعي الانساني الصاعد باستمرار.
أما التآمر الخارجي فدوره كان ثانوياً، وربما ساهم في الاسراع في هذا السقوط. ولكنه لم يكن في يوم من الأيام هو السبب. وينطبق هذا المثل على سوريا الآن.
وهنا لا بد من التنويه الى أن كل الدلائل تشير الى ان حل هذا الصراع اذا تم بصورة قسرية لن يؤدي الى نتائج حميدة. ولكي تكون النتائج أفضل يجب على القوى المتصارعة بدءاً من النظام وصولاً الى قوى المعارضة بمختلف أطيافها أن تضع مشاريعها ذات الحامل الاجتماعي، أي أن توضح مشروعها الديمقراطي والوطني والاقتصادي والاجتماي بصورة ملموسة. إذ للنجاح شرط يجب أن تتوفر فيه ثلاثة عوامل:
ـ العامل الاول: أن يكون لهذه القوة أو تلك مشروع أكثر تطوراً من مشروع النظام.
ـ العامل الثاني: أن يكون تنظيم هذه القوى أكثر تطوراً من تنظيم النظام.
ـ العامل الثالث: أن يكون لهذه القوى حامل اجتماعي يعطيها دعماً شعبياً واسعاً لا يقتصر على حالة محددة وإنما على كل أطياف المجتمع.
على ضوء ما تقدم، نرى أن الحل لا يمكن أن يكون بانتصار فئة على أخرى. لا يمكن أن يكون إلا من خلال عقد اجتماعي جديد يتيح المجال لكل قوى الشعب أن تبلور مشاريعها الفعلية المتعلقة بمستقبل سوريا.. وأن يعطى لهذه القوى الفترة الكافية كي توضح أفكارها أمام الشعب مع إعطائها بعداً متساوياً لا يميز قوة عن أخرى، وسيكون بعد ذلك الشعب هو القوة الفيصل دون أن يكون هناك إمكانية لإلغاء أي طيف سياسي أو اجتماعي في البلاد.
إن كل ما تقدم، يؤكد على ضرورة العودة الى السياسة كتعبير عن مصالح الناس بمختلف فئاتهم. هذا هو الحل، أو هكذا قد يكون.
إن طريق التطور الديمقراطي في البلاد هو أمر حتمي لا يمكن ايقافه. إنه يجري نحو الأمام، وسيتحقق يوماً ما ربما عبر صعوبات كبيرة.. وربما عبر الآلام… إن ما يجري الآن.. لا بد من أن يتمخض عن شيء ما.. بيد أن القطار قد وُضع على السكة. وان تطور الأحداث لا بد من أن يؤدي الى إنضاج القوى المجتمعية القادرة على وضع رؤيا مستقبلية لتطور بلادنا الديمقراطي الحر. وهذا أمر حتمي تمليه الضرورات التاريخية.