الأسد: أرجوكم.. أنا أفضل من داعش/ عمر قدور
قبل سنتين، حين لم يكن هناك داعش، كانت المجازر قد بدأت من دون أن تجد عنواناً مثيراً لانتباه العالم، فكلمة «النظام» لا يبدو أنها تستفز الضمائر مثلما يستفزها تنظيم الدولة الإسلامية. قبل سنتين، في الخامس والعشرين من آب/أغسطس، كان النظام السوري يرتكب مجزرة في «داريا»، راح ضحيتها ما يقارب مئتي شخص. إثر المجزرة كانت مذيعة قناة الدنيا ميشلين عازار تتجول بين الجثث، وتسأل طفلة عن الجثة التي في جانبها لتؤكد لها أنها جثة أمها. بدلاً من أخذ الطفلة الصغيرة بعيداً عن مشاهد المجزرة، كان المطلوب منها الظهور في تقرير المذيعة التي سربت لاحقاً، لتبرئة نفسها من الجرم، أن مستشارة إعلامية في القصر الرئاسي «المذيعة السابقة في قناة الجزيرة» هي من أشرف على إعداد التقرير. صفاقة المذيعة ومشاركتها التنكيل بالضحايا أخذتا حيزاً واسعاً من الاستنكار على صفحات التواصل الاجتماعي، وفي بعض وسائل الإعلام؛ البعض الآخر لزم ما يعتقد أنه ضفة الحياد مثل الـBBC التي كان عنوانها في اليوم التالي: تقارير عن «مجزرة» في داريا قرب دمشق، وتبادل الاتهامات بين المعارضين والحكومة. وضع كلمة مجزرة بين مزدوجتين هو من موقع الـBBC التي لا تريد أخذ التوصيف على عاتقها، وبالطبع كانت الشبكة أكثر حيادية من مواطنها روبرت فيسك، الذي ألقى مسؤولية المجزرة على المعارضة.
مجزرة داريا لا تعدو كونها مثالاً واحداً وحسب، فالكثير من المجازر التي ارتكبها النظام لم تحدث أصلاً وفق الإعلام الغربي الذي تجاهلها كلياً، ومجزرة الكيماوي الكبرى انتهى مفعولها عند تسليم أداة الجريمة، أي لا حقوق للضحايا. إذاً، ما الذي يمنع المواطن الغربي من الاعتقاد بأن نظام بشار الأسد أفضل من داعش؟ ومن أن الإبقاء عليه في السلطة مصلحة غربية في الحرب على الإرهاب؟
ها هو نظام الأسد أيضاً يناشد الغرب بلسان وزير خارجيته، بما معناه: أرجوكم.. أنا أفضل من داعش، ولدي استعداد مطلق لمشاركتكم حربكم عليه. وعلى نحو مضمر يخاطب الغرب أيضاً: لقد أخرجنا داعش من القمقم، ونحن من نستطيع إعادته إليه. وعلى نحو لا يُراد إخفاؤه تماماً: لقد نجحنا في دفع أعدائنا إلى التطرف، وأثبتنا روايتنا التي وصمناهم بها منذ البداية، وها هو العالم الذي لم يتدخل لردعنا مجبر على التحالف معنا ضدهم. بل: لقد مرت سنة بالضبط منذ استبشر بعض المعارضين بالتدخل الأميركي المزعوم لصالحهم، وها نحن الآن نفاوض لمشاركة الأميركيين تدخلهم بعد أن أصبح واقعاً.
في الواقع، المشكلة لم تكن يوماً في مقدرة النظام على إخفاء جرائمه أو نواياه، إذ يُسجّل له منذ بداية الثورة أنه كان واضحاً إلى حد الوقاحة، وكلما ازداد تجاهل العالم لجرائمه أوغل في وقاحته، وتعمد إظهارها مطمئناً إلى إفلاته من العقاب، ومستغلاً ذلك لإفهام الثائرين ضده أن تعويلهم على القانون الدولي ليس في محله. من الجهة الأخرى، لم يكن المجتمع الدولي جاهزاً في أي يوم، طوال ما يقارب ثلاث سنوات ونصف، لاعتماد توصيف قانوني يليق بالجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام، على رغم تأكيد منظمات حقوقية تابعة للأمم المتحدة حدوثها، لأن اعتماد هذه التوصيفات سيكون ملزماً له بتدخل لا يرغب فيه.
في الخلاصة، ووفق القانون الدولي، لم يُصنف النظام كمجرم ضد الإنسانية، ولم يوصم بالإرهاب بقرار دولي مُلزم على النحو الذي حدث إزاء داعش، بل لم تُبذل جهود فعلية لردع النظام عن وحشيته أسوة بتلك التي بُذلت لردع نتنياهو عن العدوان على غزة. أما في ميدان السياسة الدولية، فحلفاء النظام متوافقون على بقائه كما هو، ومن يقولون أنهم خصومه لا تجمعهم قناعة موحدة، والأهم لا يجمعهم جهد ملموس لإسقاطه، أو لمحاكمته. إصرار بعض الخصوم على توصيف ما يحدث بالحرب الأهلية لم يعنِ سوى تخفيف وطأة المجازر المرتكبة، طالما أنه لم يصل إلى إنشاء محاكم دولية تنظر في جميع الجرائم المرتكبة، ومن أية جهة أتت، على غرار ما حصل في مجازر يوغسلافيا السابقة مثلاً. إذاً، يحق للنظام وفق السلوك الدولي تجاهه الادعاء بأنه أفضل من داعش، ويحق له حتى القول: ما دمتم لم تروا في أطياف المعارضة، التي تصفونها معتدلة، بديلاً مناسباً لي، فكيف الحال مقارنة بداعش؟
لكن الطامة الكبرى ليست فيما يدعيه النظام، وفيما قد يلقى قبولاً في أوساط السياسة الدولية؛ الطامة الكبرى هي في انزلاقنا نحن إلى نسبوية بائسة تنص على أن داعش أسوأ من النظام. وحيث يتموضع داعش في مكان الشر المطلق اليوم لا بد من التوصل إلى النتيجة إياها، فضمن هذه النسبوية القائمة على تفاضل سيء بطبيعته لا وجود للأفضل. هي الواقعية المنحطة، في المقابل من الرغبوية المطلقة التي لا تلحظ الواقع. هي واقعية تجاري الأحداث من دون أي حس أخلاقي، ومن دون أية حساسية إنسانية؛ واقعية لا تملك أي حس تجاه التاريخ لأنها تتجاهل المقدمات ولا ترى سوى النتائج. واقعية لا تملك ذاكرة، ولا تستطيع أو لا تريد استنتاج القرابة الوثيقة، قرابة الدم، بين مذيعة مجزرة داريا ومغني الراب الداعشي الذي ذبح جيمس فولي.
في القول الذي بات شائعاً «داعش أسوأ من النظام»، قد يتلاقى المختلفون سياسياً، فمنهم من يريد استثماره لتأكيد أحقية النظام في البقاء، ومنهم من يريد فقط توصيف داعش بالسوء المطلق، ومنهم أيضاً من راح يستخدمه على سبيل اللغو. غير أن ترويج المقارنة، بمعزل عن تعدد الغايات، يحصر الواقع بين خيارين متنافسين في الانحطاط القيمي والأخلاقي، والأهم أنه يحصر شعوب المنطقة بينهما فلا يبدو أن لديها فرصة لخيار أفضل. حيث يتنافس النظام وداعش، ويكون كل منهما مرجعية الآخر في السوء، تغيب مرجعيات أخرى كالقانون الدولي والقوانين المحلية التي تجرّم الانتهاكات مهما صغر شأنها، ولا تقيم تفاضلاً بين المجرمين حتى عندما تمنحهم أعذاراً مخفِّفة. عندما نقيم تلك المقارنة، يحق لنظام الأسد أن يستمد شرعيته منها، ولا غرابة في أن يطالب باعتذار الثائرين عليه على ما اقترفوه، عندما نادوا بإصلاحه ومن ثم بإسقاطه. نعم، اللغة في السياسة كما في كل الميادين، ليست لغواً.
لكننا، بالعودة إلى السياسة، لا نستطيع لوم العالم على محاربته إجرام داعش ما دام قد ترك إجرام النظام بلا عقاب، ولا نستطيع فعل ذلك من منطلق حقوقي أيضاً. قد نتحدث عن انتقائية العدالة، وعن الكيل بمكاييل مختلفة، إنما لا يجوز لنا الدفاع عن وحشية داعش لأن وحشية النظام بقيت طليقة حتى الآن. المصيبة التي لا ينبغي لنا قبولها أن يشارك نظام مجرم في الحرب العالمية على تنظيم إجرامي، فيحوز نتيجة ذلك على شرعية لمجازره. لعل أفضل ما نطلبه من العالم الآن، في حربه على داعش، هو تجاهل النظام تماماً، تجاهله على النحو الذي جرى فيه تجاهل مجازره. لم يسمع العالم أنات أمهات وأسر حوالى مئتي ألف قتيل سوري على أيدي قوات النظام، ولا مناشدات أسر المعتقلات والمعتقلين، أو مناشدات المحاصرين الممنوعين من الحصول على الغذاء والدواء، ولم يعد السوريون يتوسمون خيراً فيه، يتجاوز عدم سماعه في المقابل توسل النظام وهو يحاول حشر نفسه في الحرب على داعش. سيكون العالم في منتهى السوء إن رأى مهمته في الانتصار لمذيعة الجثث على حساب شقيقها مغني الراب.
المستقبل