الأسد الابن كما الأب يطبع الليرة بلا غطاء
محمد كركوتي
”طريق الخراب يكون دائماً جيدا في تشييده، والعابرون يدفعون تكاليف التشييد”
جوش بيلينج كاتب فكاهي أمريكي
حسناً يقول من تبقى من أعوان سفاح سورية بشار الأسد، إن العقوبات الأمريكية والأوروبية لن تؤثر في تماسك سلطة هذا الأخير، وإن الموجة الأوروبية الجديدة من هذه العقوبات، لن تضر الأسد، حتى ولو طُبق القرار القاضي بمنع الشركات الأوروبية من القيام باستثمارات جديدة في مجالات التنقيب عن النفط وإنتاجه وتكريره، الذي يتضمن أيضاً، منع إنشاء مشروعات مشتركة جديدة مع مؤسسات في قطاع الطاقة السوري، ومنحها قروضاً، وكذلك شراء حصص في الشركات السورية أو زيادة هذه الحصص. الأمر لا يحتاج إلى خبراء في الاقتصاد، لمعرفة أن هذه العقوبات ستضرب قدرة الأسد في الحصول على أموال في الأجل الطويل. بوضوح شديد، يسعى الأوروبيون لاستكمال خنق بشار الأسد مالياً، بالتعاون مع الأمريكيين، لأن ”الخنق المالي”، هو المعول الوحيد المتاح حالياً، لمواجهة الأعمال الوحشية المتصاعدة، التي تقوم بها السلطة غير الشرعية في سورية، ضد السوريين العزل، بما في ذلك استئجار قُطاع الطرق من الخارج والداخل، ناهيك عن استخدامها كل أنواع الأسلحة، من بينها الطائرات والمروحيات المقاتلة والبوارج الحربية، إضافة طبعاً إلى الدبابات والمدرعات وغيرها من آلة القتل.
لا يعترف الأسد ومن تبقى من أعوانه، بأنهم يتعرضون لـ ”الخنق المالي”، رغم أن آثار هذا الخنق بدأت تظهر على الساحة، وكان آخرها، تهديدات قُطاع الطرق بإلغاء ”عقود الهلاك” التي أبرموها مع السلطة، لأن ”مستحقاتهم” بدأت تتأخر. وسواء اعترف رئيس السلطة أم لم يعترف بأن حبل الاقتصاد يضيق حول رقبته، في خضم تجفيف موارده المالية، فإن الآتي من الأوروبيين أعظم. فقد وضع الاتحاد الأوروبي خطة متسلسلة ومتدرجة من العقوبات، بحيث يخنق السلطة وأعوانها، مع الحد الأدنى من الأضرار التي قد تصيب الشعب السوري. ولذلك يسعى الأوروبيون إلى عقوبات ذكية، لا تشبه العقوبات التي فُرضت في السابق على عدد من البلدان (من بينها العراق)، التي نالت من الشعوب أكثر من نيلها من الحكام المستبدين. ولعل هذا يعطي الاتحاد الأوروبي تبريراً يراه البعض واقعياً لتأخره في فرض عقوبات قوية وحاسمة وسريعة، علماً بأن العزل السياسي الكامل، يبقى هو العامل الأهم والأكثر نجاعة وسرعة لزوال الأسد إلى الأبد، وأن ترويض روسيا ومعها الصين (إن أمكن)، سيكون أثره أكبر بكثير من كل العقوبات سواء كانت ذكية أم غير ذلك.
الخطوة الأوروبية التالية، التي تمثل تحولاً جديداً على صعيد العقوبات، هي حظر طباعة وتصدير أوراق النقد السورية والعملات المعدنية، التي تطبع وتصك في بلدان أوروبية، إلى جانب فرض عقوبات على مصارف سورية جديدة، وحظر على شركة ”سيرياتيل”، الممول الرئيس للأسد وجماعته، التي يملكها ابن خاله رامي مخلوف، الذي يسيطر (بالمناسبة) على 60 في المائة من الاقتصاد الوطني السوري. المثير هنا، أن قرار حظر طباعة الأوراق النقدية، سيعجل وتيرة طباعة الأوراق النقدية السورية داخل سورية، التي بدأت بالفعل منذ أكثر من شهرين، في أعقاب تآكل الاحتياطي من العملات الصعبة في البلاد. ففي آب (أغسطس) الماضي، أقدم المصرف المركزي السوري، من تلقاء نفسه (وليس بفعل أية عقوبات)، على الاستعاضة عن خدمات المصرف النمساوي المتخصص بطبع الأوراق النقدية، وقام بطباعة هذه الأوراق في دمشق. وبالغ في الطباعة، ليتجاوز التغطية الذهبية، أو حجم الاقتصاد السوري، الذي يجب أن يكون موازياً، لحجم الكتلة النقدية التي يتم تداولها. سيظهر أحد ممن تبقوا من أعوان الأسد ليقول ما الدليل؟ والحقيقة أن الدليل المطلوب، لا يأتي من ضبط آلات الطباعة والطابعين معها، لأن ذلك هو المستحيل نفسه، لكنه أتى من الهيئات الاقتصادية الأجنبية المختلفة، والمؤسسات الحكومية خارج سورية، عندما رفضت التعامل والتعاطي وقبول الأوراق النقدية من فئة الألف ليرة سورية المطبوعة في دمشق. ولمن لا يعرف أشكال الأوراق النقدية السورية، تتصدر ورقة الألف ليرة صورة الأسد الأب، الذي ربما جلب لها النحس، كما جلب للبلاد على مدى أكثر من ثلاثة عقود الخراب.
لم تكن سورية في عهد الأسد الأب بعيدة عن طباعة الأوراق النقدية دون سند، بل قام هذا الأخير في مراحل عدة بطباعة هذه الأوراق التي لم تكن ذات قيمة فعلية. ففي بلد لا تطبع فيه المطابع بطاقات الدعوة إلى الأعراس (بالمناسبة أي حفلة عرس في سورية تحتاج إلى موافقة أمنية)، إلا بموافقة خمس جهات حكومية، وعدد مماثل من الأجهزة ”الأمنية”، طبعت في السابق (وتطبع الآن)، كميات هائلة ومرعبة من الأوراق المالية غير المغطاة، مما جعل الليرة لا تحمل قيمة، إلا ثمن الورقة التي طبعت عليها. ولمن نسي.. في منتصف ثمانينيات القرن الماضي اتفق الأسد الأب مع الأسد الأخ (رفعت)، أن يكون هذا الأخير حراً في التصرف بمصير الاقتصاد السوري، ضمن تفاهم بينهما على أن يوقف هذا الأخ خطته للانقضاض على حكم أخيه. ماذا فعل سفاح مدينتي حماه وحلب؟ قام بسحب عدة مليارات من الدولارات الأمريكية من المصرف المركزي، بعد أن ضخ قيمتها عن طريق طباعة الليرات السورية غير المغطاة. ولم يكتف الأسد الأخ بذلك، فقد طلب من شقيقه الخائف، مزيداً من المليارات التي سددها وقتها سفاح ليبيا معمر القذافي، بعد أن وجد حافظ الأسد، أن خزائن المصرف المركزي باتت خاوية تماماً. السرقة التاريخية الكبرى هذه، أدت إلى شل الاقتصاد الوطني، وتركت آثاراً لا تزال باقية على الساحة المحلية حتى اليوم. ففي عام 1986 كان الدولار الأمريكي يساوي 12 ليرة، وبعدها بأربع سنوات بلغ 48 ليرة، ليصبح في عام 1995 أكثر من 52 ليرة! في حين كان الدولار في عام 1970 (عندما وصل الأسد الأب إلى السلطة) يساوي 3,90 ليرة سورية.
بدأت إذن.. المطابع المشينة في سورية بطباعة الأوراق النقدية، وبدأ معها عهداً جديداً مظلماً للاقتصاد السوري، الذي مر بمجموعة من العهود المريعة بفضل الأسد الأب والأخ والابن، من اقتصاد التفقير، إلى اقتصاد الفقر وما دونه، إلى اقتصاد ”التشبيح”. وبينما لا تزال سرقات الأسد الأخ (رفعت) تضرب الاقتصاد السوري حتى الآن، ظهرت سرقات أخرى منذ الأيام الأول للأسد الابن في الحكم. سرقات من نوع ”ذكي” لكنه سافر. غير أن هذه السرقات لم تعد ”ذكية” في ظل الثورة الشعبية السلمية العارمة التي تجتاح البلاد، لأن ناتجها مع الناتج المخيف عن طباعة الأوراق النقدية بلا رصيد أو سند أو تغطية، سيسرع من اقتراب المرحلة الأخرى من هذه الثورة، وهي العصيان المدني، ولا سيما عندما يجد السوريون، أن ما يحملونه من أوراق مالية في جيوبهم (رغم قلتها)، ليست سوى أوراق فقط، لا مالية ولا نقدية. وهذا آخر ما يريده الأسد الذي أقسم بأنه لن ينتهي، قبل أن يُنهي سورية.
*نقلا عن صحيفة الاقتصادية السعودية.