صفحات العالم

الأسد والعلوية: ميراث الأب وإرث الابن


عبد الله بن بجاد العتيبي

لم تزل توازنات القوى الدولية تمنع أي تحرك جاد تجاه نظام الأسد في سوريا، ولم تزل المعارضة السورية تنتقل من فشل إلى آخر، ولم تزل المؤتمرات التي تتوالد حول سوريا في فنادق النجوم الخمسة – كما أشار رئيس بعثة المراقبين الدوليين روبرت مود – لا تعبر إلا عن مدى العجز الدولي عن اتخاذ قرار حاسم تجاه سوريا، فلا روسيا بكل تاريخها الدموي واللامبالي مستعدة لتغيير موقفها، ولا أميركا أوباما قادرة على أي تحرك قبل انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني)، وتبدو أوروبا الغارقة في وحل الاقتصاد ومشاكل اليونان وإيطاليا وإسبانيا أكثر عجزا عن المبادرة من أميركا.

حراك دول المنطقة تجاه سوريا تشارك فيه ثلاث دول حسب المعلن حتى الآن هي تركيا والسعودية وقطر، يمكن رصده عبر المواقف السياسية المعلنة، ويتبقى نقص ما يظهر في عدم القدرة على توحيد المعارضة السورية، ويبدو أن ثمة دعما ما يجري على الأرض، ولكن تفاصيله وخطوطه العامة لم تظهر بعد وهذا أمر طبيعي، ولكن المؤشرات تدل عليه.

إن هذا يدفع للتأمل في الحدث السوري الداخلي حيث تزداد شراسة النظام ويتصاعد دور الجيش السوري الحر، وفي مقطع مسرب بشع يظهر تعذيب مواطن سوري على يد عدد من العسكر يكرر العسكري وهو يضرب المواطن القول «بدك حرية؟!»، وهي عبارة لم تزل تتكرر في مقاطع كثيرة منذ إعلان بشار الأسد الحرب على شعبه، ولكن الجديد في هذا المقطع هو قول أحد العسكر مسائلا ومستنكرا «بدكوا تحاربوا العلوية؟!».

كتب كاتب هذه السطور في 18 فبراير (شباط) هنا أنه «وبعد عام من بداية الأزمة يبدو أن النظام كان لديه وعي ما منذ البداية أو بعدها بقليل أنه يريد أخذ البلاد إلى أسوأ الخيارات الأخرى، أي خيار الحرب الأهلية»، وفي 2 يونيو (حزيران) بدأت المؤشرات توحي بسعي بشار الأسد لخلق «حالة من الاحتراب الداخلي يأمل من خلالها أن يستطيع الاحتفاظ ولو بمنطقة صغيرة من سوريا حيث اللاذقية وجبال العلويين».

وما كان بالأمس تحليلا بدأ يظهر ما يؤكده في الواقع، فالعقيدة العسكرية الطائفية العلوية في الجيش بدأت تظهر في تصريحات ضباطه وجنوده وشبيحته بعد أفعالهم، وبالنظر للخريطة يتضح تركيز النظام عملياته التدميرية الكبرى على سفوح جبال العلويين الشرقية والسهول الممتدة حولها من حمص وحماه جنوبا إلى إدلب شمالا والتي يتم إجبار المواطنين على النزوح منها شرقا وشمالا بهدف خلق مناطق خالية تشكل حدودا للدولة العلوية التي يتخيلها النظام مأرزا أخيرا له.

في علاقة الطائفة والسلطة كان الأسد الأب قد انطلق من بيئة طائفية ووعي طائفي أقلوي وقام في حزب البعث كما في الجيش بعملية تجميع واسعة للأقليات في بناء القوة السياسية والعسكرية والاستحواذ عليها ثم ترك الأقليات واعتمد على الطائفة العلوية ثم على العائلة في عملية انتشار وتوسع سياسي استطاع بها السيطرة على جميع عناصر القوة في سوريا، ويبدو الأسد الابن وكأنه يسير على خطى والده في الطائفية العلوية العسكرية ولكن في عملية انكماش سياسي معاكسة من الدولة السورية الكاملة إلى الدولة العلوية التي يحلم بها ويتوهمها.

لقد أنشأ الأسد الأب بنية عسكرية للقوات المسلحة تضمن أن يبقى صاحب القرار المركزي والقوي في جميع تلك القوات بما جمعه من الولاءات السابقة والخبرات المتراكمة والحذر الشديد الذي اتصف به، وقد استمر الابن على نهج أبيه، ومن هنا يمكن قراءة الانشقاقات الواسعة من الجيش وانحيازها للجيش الحر، وكثير من تلك الانشقاقات يقوم بها ضباط كبار في مواقع مؤثرة وحساسة، ولو لم يكن البنيان العسكري صلبا لاستطاع هؤلاء تدبير انقلاب عسكري كامل أو جزئي يشمل بعض المناطق الحدودية لتكون محررة بالكامل ويمكن الدفاع عنها، وقد رصدت وسائل الإعلام انشقاق خمسة عشر جنرالا من جيش الأسد وانضمامهم للجيش الحر في أسبوع واحد فقط، أما الجنود فهم بالعشرات يوميا.

موقفان جديران بالتوقف والقراءة حدثا الأسبوع الماضي، تركي وعراقي: التركي تجاه إسقاط قوات الأسد لطائرة تركية، حيث مرت القضية من دون رد فعل تركي يذكر، وقد كان يمكن دفع هذه القضية باتجاه جعلها منطلقا للتصرف خارج مجلس الأمن بذريعة سياسية ودولية مقبولة تسمح بتدخل عسكري ما إما لضرب مراكز قوات الأسد وإما على الأقل لخلق منطقة عازلة على الحدود، ولن تستطيع روسيا الوقوف بوجهها وكانت ستكتفي بإثارة الشغب عبر إيران، ولكن في ما يبدو أنه لم تتوفر إرادة تركية – غربية لدعم هذا التوجه.

أما الموقف العراقي فقد كان لافتا في القاهرة، حيث تغيرت تصريحات حكومة المالكي التي عبر عنها وزير الخارجية هوشيار زيباري تجاه الوضع السوري، فقد استحضر تاريخ حزب البعث وقارن بين وضع المعارضة العراقية قبل سقوط صدام ووضع المعارضة السورية اليوم، مما يعطي مؤشرا بقرار من طهران إلى ضرورة الابتعاد والنأي عن الأسد، ربما لخشية إيرانية من أن إجبار المالكي على الاستمرار في موقف طائفي ضد الشعب السوري قد يؤدي إلى خسائر كبرى لإيران في العراق حال سقوط النظام السوري.

إن ما ورثه الأسد الابن عن أبيه من انحياز كامل للأقلية العلوية والعائلية والجهوية وهو يحسب أنها منجاته قد تكون هي المعجلة بانتهائه، فسوريا بلد متعدد الطوائف الدينية والمذهبية والإثنيات العرقية والولاءات العشائرية والقبلية، وفي ظل هذا التوجه الطائفي العلوي الصارخ الذي يتبناه فإنه يسعى لتوحيد كل تلك الفئات المتعددة مع الأكثرية السنية ضد النظام.

نظام الأسد في حكم المنتهي، والمسألة مسألة وقت لا أكثر، وحينها ستتهاوى أوهامه على رأسه وربما على رأس طائفته التي جرها لعداوات وإحن طائفية بغيضة، ولئن وجد له ملتجأ في ضواحي طهران أو ريف موسكو فإن طائفته باقية في بلادها وعلى عقلائها واجب اليوم أكثر من أي وقت أن ينحازوا للشعب والوطن ويعلنوا نأيهم الكامل عن سياسات الأسد الطائفية والدموية، وإلا فسيكون إرث الابن عليهم أشد من ميراث الأب على سوريا.

يبدو مستقبل الجمهوريات العربية مليئا بالطائفية والولاءات الاجتماعية المتشرذمة وآيديولوجيات الإسلام السياسي وتنظيماته وفقيرا في التنمية والمدنية كما في الوعي والتقدم.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى