الأسد ومشكلة الخبز/ خوسيه سيرو مارتينيز
تجاوز بشار الأسد مرة أخرى “الخط الأحمر” الذي كان النظام السوري قد أعلن أنه من الثوابت في مجال الدعم الحكومي للمواد الغذائية. فقد رفعت الحكومة السورية سعر ربطة الخبز (1.55 كلغ) من 25 ليرة سورية إلى 35 ليرة سورية (0.19 دولار أميركي) في 17 كانون الثاني/يناير الجاري – وهي الزيادة الثانية في سعر ربطة الخبز خلال الأشهر السبعة الماضية. قد يشكّل هذا التغيير في السياسات الذي سبّب صدمة لعدد كبير من السوريين، فصلاً رئيساً في النزاع الذي استخدمت فيه الحكومة سياسة التجويع بالفعالية نفسها التي استعملت فيها البراميل المتفجرة والأسلحة الكيميائية. ففي حين كان الغذاء أداة أساسية لاسترضاء السكان الموالين للنظام ومعاقبة المعارضة، تشير الزيادة في سعر الخبز إلى أن النظام يشعر بالوطأة جراء تراجع موارده. وفيما توشك الحرب على دخول عامها الرابع، ربما يخسر نظام الأسد وأخيراً أحد الأسلحة التي لطالما عوّل عليها.
يمكن أن يشكّل الدعم الحكومي للخبز (وتأمين المواد الغذائية بأسعار رخيصة في شكل عام) محفّزاً قوياً للمدنيين لدفعهم نحو دعم الحكّام أو على الأقل الإذعان لهم. قبل النزاع، كان الخبز يشكّل نحو 40 في المئة من السعرات الحرارية التي تستهلكها الأسر السورية. وقد أدّى النقص في الموارد وارتفاع التضخم في الأعوام الثلاثة الماضية، إلى تفاقم اعتماد الفقراء على المواد الغذائية المدعومة من الحكومة.
نظراً إلى قطع الإمدادات الغذائية عن المناطق الخاضعة لسيطرة الثوار ونقل الجزء الأكبر من المساعدات الإنسانية إلى المناطق التي تحظى بموافقة الحكومة، تحوّل النظام “المصدر الموثوق الوحيد للغذاء الذي يشكّل مورداً أساسياً للبقاء على قيد الحياة”. يعلّق أحد الناشطين في العاصمة دمشق الخاضعة لسيطرة النظام: “من النادر أن نجد فرناً لايصطف الناس أمامه طوابير طويلة، لكن [الخبز] متوافر للجميع على الرغم من صعوبة الحصول عليه”. لقد أصبح توزيع المواد الغذائية أداة يستخدمها النظام لاسترضاء المدنيين المنهوكي القوى، في حين يذكّرهم بأسلوب محنّك بالمنافع التي تترتب عن بسط الدولة سلطتها ونفوذها. لقد كان التناقض الصارخ في توافر المواد الغذائية بين الأراضي الخاضعة لسيطرة المعارضة وتلك الخاضعة لسيطرة النظام، عاملاً أساسياً خلف الكثير من الانتصارات التي حقّقها النظام السوري.
يحتل الخبز المدعوم من الحكومة مكانة أساسية في العقد الاجتماعي السوري منذ ماقبل النزاع الحالي. إنه مكوِّن رئيس في “ميثاق الخبز” الذي شكّل إطاراً للمنظومة السياسية في البلاد منذ ستينيات القرن العشرين. غالباً ماردّد كبار المسؤولين السوريين أن الدعم الحكومي الذي يضمن بيع الخبز بأقل من سعر السوق هو خط أحمر. بيد أن الأزمة الراهنة أحدثت تحولاً في سلسلة التموين في قطاع الخبز السوري. فقد تسبّبت عمليات النهب الواسعة، مقرونةً بالهجمات المنتظمة على المستودعات من قوات النظام والمعارضة على السواء، بانخفاض حاد في قدرات التخزين والإنتاج. وفي هذا الإطار، يُقال إنه لم يتبقَّ سوى 40 مركزاً فقط من أصل 140 مركزاً لتجميع القمح كانت تعمل في البلاد قبل اندلاع الأزمة. كما أن المطاحن والمخابز المنتشرة في مختلف أنحاء البلاد إما أغلقت أبوابها وإما تعمل بأقل من طاقتها بأشواط. وقد تسبّب الهبوط في قيمة الليرة السورية بارتفاع ثمن الواردات، مع الزيادة في كلفة الدعم للخبز. بيد أن المسؤولين دأبوا على نفي الشائعات التي توقّعت حدوث زيادة في الأسعار، مشدّدين على أن الكلفة المتزايدة لبرنامج الدعم الحكومي هي مجرد عبء إضافي يتحمّله النظام بكل نبلٍ.
لكن الوضع تبدّل خلال الأشهر الستة الماضية. فقد صرّح وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، حسان صفية، لوكالة الأنباء الرسمية السورية، سانا، إبان الزيادة الأخيرة في الأسعار: “نعيش في ظروف استثنائية تقتضي اتخاذ تدابير وقرارات استثنائية”. وشدّد على أن الحكومة لاتزال ملتزمة بتأمين المواد الغذائية والضروريات الأخرى لمواطنيها، في كلام شبيه بالتصريحات التي صدرت عن سلفه، سمير كاظم أمين، على إثر الزيادة الأولى في الأسعار في تموز/يوليو الماضي. وقد أعرب كلاهما عن أملهما بأن تنتهي الأزمة قريباً ليتمكّن النظام من العودة عن قراره.
تأمين الإمدادات للمناطق الخاضعة لسيطرة النظام أمرٌ أساسي في الحسابات السياسية للأسد، في مقابل حجبها عن المناطق التي يُنظَر إليها بأنها موالية للقوى المعارضة. فالشحّ المتعمد في المؤن والإمدادات يُلحق الأضرار بالأعداء، أو بالأشخاص السيئي الطالع الذين يسكنون في المناطق الخاضعة لسيطرتهم. في المناطق المحاصَرة، يُحظَر كلياً دخول الخبز والطحين من دون موافقة النظام. عندما تندلع المعارك، يصبح من المستحيل الحصول على الخبز. وفي المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، يتسبّب النقص في الطحين وتعطيل الإمدادات بأزمة خبز شديدة، هذا مع العلم بأن الجهود التي تبذلها الدولة الإسلامية وسواها من الجماعات المعارضة لتوزيع الخبز تُظهر مدى أهمية الطعام في الحفاظ على الدعم الشعبي. في الآونة الأخيرة، ألقى استنفاد الموارد الحكومية بضغوط على النظام أثّرت في قدرته على استخدام الدعم للمواد الغذائية بمثابة أداة سياسية. وهكذا اكتسبت الجهود التي تبذلها المجموعات المعارضة المختلفة لإطعام الأشخاص المقيمين في أراضٍ خاضعة لسيطرتها أهمية متزايدة.
إن إزمة الوقود الحادة التي تشهدها سورية، ومايرافقها من زيادة في كلفة تصنيع الخبز، تتسبّب شيئاً فشيئاً بتراجع قدرة النظام على الحفاظ على الإعانات الحكومية. لقد أدّت الهجمات الجوية الأميركية على مواقع إنتاج النفط الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية في دير الزور، والمعروفة بأنها تؤمّن النفط للنظام، إلى حرمان الحكومة من موارد الطاقة، ويزيد من حدّة المشكلة انهيار البنية التحتية لقطاع الكهرباء، وعدم وصول ناقلات النفط بصورة منتظمة من العراق وإيران. كما أن الطلب المتزايد على التدفئة خلال فصل الشتاء القارس زاد من قساوة الظروف الناجمة عن النقص في الموارد، وتزامَن الارتفاع في سعر ربطة الخبز مع الزيادة في أسعار الديزل والغاز. كان يمكن لمايُحكى عن اعتمادات مالية فتحتها روسيا وإيران لسورية، وتبلغ قيمتها مجتمعةً 6.4 مليارات دولار أميركي، أن تنقذ النظام السوري من اللجوء إلى مزيد من الخفوضات في الإعانات الحكومية. بيد أن الهبوط في أسعار النفط العالمية قد يتسبّب بعرقلة هذه الخطة. ففيما يعجز الأفرقاء المتناحرون عن حسم الحرب، ربما أرغم النقص في الحبوب والمحروقات – والخشية من أن تقوم إيران وروسيا بخفض الدعم المادّي – الحكومة على اتخاذ تدابير جذرية تحسّباً لما قد يحدث في المدى الطويل.
بالنسبة إلى المراقب العادي، قد لايبدو ارتفاع سعر ربطة الخبز 0.06 دولار أميركي مدعاةً للقلق. لكن في سياق الأهمية الغذائية والسياسية والرمزية التي يرتديها الخبز في سورية، هذه الزيادة كبيرة جداً. وانهيار الدعم الحكومي للخبز الذي كان يُعتبَر محورياً جداً في عقد الحكومة الاجتماعي، يؤشّر إلى أن النظام في مأزق شديد. الخط الأحمر لم يعد الخبز، بل مجرد البقاء على قيد الحياة.
خوسيه سيرو مارتينيز طالب دكتوراه في قسم السياسة والدراسات الدولية في جامعة كامبريدج. برنت إنج مراسل في Syria Direct.