الأشرفية.. في حلب/ عزيز تبسي
هي هضبة خارج مدينة حلب القديمة، كما خارج توسّعها المُطّرد الذي بدأت بواكيره في منتصف القرن التاسع عشر، مما يحيل نشوءها إلى منظومة الضواحي المدينية الطارئة. تقع إلى الجهة الشمالية الغربية للمدينة، حملت ببدايتها اسم “الداوودية”، كإحالة افتراضية إلى اسم الوالي العثماني – الأرمني داوود باشا، الذي حكم لمدة متصرفية جبل لبنان. وكانت من الأماكن التي توطّنت فيها أقسام من قوافل المهجرين الأرمن، الناجين من حرب الإبادة عام 1915. اختار الضباط الألمان، في المرحلة السابقة على الحرب العالمية الأولى موقعاً مرتفعاً إلى غربها، ليشيدوا فوقه ثكنة عسكرية عرفت شعبياً باسم “قشلة الألمان”، وتحوّل اسمها في زمن لاحق إلى ثكنة “طارق بن زياد”.
حملت هذه الضاحية الشعبية لزمن غير قصير، هوية اليسار الأرمني الذي أطلق على الحي اسم “البولشفيك داغ”، أي جبل البلاشفة، وطالما تزيّن بالرايات الحمر، كشكل شعبي عبّر عنه هذا الانتماء السياسي، بالآمال الواسعة التي فتحها أمام الشعوب المضطهَدة، قبل أن يقرر العديد من سكانها في أواخر الخمسينيات وبدايات الستينيات، التهيؤ لهجرة اختيارية جديدة باتجاه أرمينيا السوفياتية، أو الانتقال إلى أحياء مُخدّمة ومنظمة وقريبة من مركز المدينة.. بمرور السنوات زالت آثار حضور
هؤلاء من الشوارع.. كنائس غير باذخة، دور أيتام، مدارس إلخ.. جرى بيعها بالتتابع وشُيّدت مكانهم عمارات، وبقيت بضعة بيوت متقشفة ومعمل كبير لحياكة الأقمشة وصباغتها لصاحبيه برصوميان – كردويان، أُمِّم في الستينيات، وتوقف عن العمل في ما بعد.
دير ومدرسة “الآباء المخيتاريان” بقي رابضاً في مكانه، ومستمراً في أداء وظائفه التعليمية والتربوية، في أول الطريق الصاعد إلى الحي – الهضبة، مسوّراً بحجارة نافرة، منفتحاً على غابة صنوبر داخلية وفسحات للملاعب والحدائق وأنشطة التلاميذ.
كان الوصول إلى هذا الحي مضنياً، وما من طريق إليه سوى ذاك الذي يعبر من تحت جسر بساتين “الشيخ طه” الذي أنشأته القوات الألمانية في أوائل القرن العشرين لمدّ سكة حديد القطار المتّجه نحو الشمال، أو طريق “حول المدينة” الذي أنشأته البلدية في عهد الانتداب الفرنسي في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، قبل أن يُفتح “نفق تشرين” في أواسط الثمانينيات الذي وصل حي “محطة بغداد” بالحي المستحدث في الفراغ العمراني بين هضبة الأشرفية وأحياء المدينة، والذي حمل اسم “السريان الجديدة” تمييزاً عن حي “براكات السريان” الرازح فوق هضبة أخرى أقل ارتفاعاً، حملت اسم المهجّرين السريان من مدينة “أورفة” وبلداتها.
سكنَتْ في هذا الخلاء بين الأحياء لعقود عدة جماعات من القرباط، متنقلة بخيامها متبوعة بكلابها قبل أن يستردّ أرضها ملاك العقارات في حي السريان الجديد، ويُدفع بها إلى حي توسع طرفي آخر.. يمكن اعتبار هذه الأحياء الجديدة التي امتدت على أطراف مدينة حلب من ثمار الشرق العربي ما بعد الحرب العالمية الأولى، بإباداتها الجماعية وتهجيرها القسري وانهيار الإمبراطورية العثمانية واقتسامها والوعود الكاذبة للإمبريالية البريطانية قبل الإعداد للثورة العربية، ومن ثم اقتطاعاتها للجغرافيا وإعادة ترسيمها واقتسامها مع الإمبريالية الفرنسية والجمهورية التركية، واقتلاعهم جميعاً للشعوب.
استقطب الحي في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين، بدايات الهجرات من قرى الريف الشمالي، العربية والكردية، ومن أحياء حلب القديمة، حيث وجد البعض أعمالاً لهم في مصانع الغزل والنسيج ومحالج القطن ومصابغ الأقمشة ومقاشر الأرز التي بدأت تنتشر في منطقة “الليرمون” الصناعية القريبة منه.
***
“كان ماركو بولو يصفُ أحد الجسور، حجراً حجراً، فسأله قبلاي خان:
– ولكن، إلى أي من هذه الحجارة يستند الجسر؟
– الجسر لا يستند إلى هذا الحجر أو ذاك، بل إلى القوس الذي تصنعه الحجارة.
بقي قبلاي خان صامتاً، مفكراً، ثم أضاف:
– لماذا تحدثني عن الحجارة؟ القوس هو ما يهمّني.
– دون الحجارة لا وجود للقوس”. (“المدن المتخيّلة”، ايتالو كالفينو).
لا يستغرق الوصول إلى الأشرفية في هذه الأيام زمناً طويلاً. الشوارع غير مزدحمة، لكن تبقى الحواجز العسكرية التي يتوجب التمهل قبل الوصول إليها والتوقف عندها، كما الالتزام بما تطلبه، من تقديم البطاقات الشخصية وفتح مخزن السيارة، كما الالتزام بجهة السير التي تحدّدها.
الأعلام التي ترفرف في الأمكنة العالية، تشير إلى القوّة المسيطرة تحتها: علم الجمهورية العربية السورية في الدوار الأول والدوار الثاني بمحاذاة جامع السيد أحمد البدوي وكراج عفرين والمنحدر المؤدي إلى مشفى شيحان وثكنة المهلب بن صفرة، بينما يبدأ حضور علم حزب العمال الكردستاني بمحاذاة جامع صلاح الدين الأيوبي بالاتجاه المؤدي إلى عمق العشوائيات والسكن الشبابي. تعود بعض العائلات إلى بيوتها، تعمل على تنظيفها بإقرارها الضمني لقبول حالة السكن الواقعي، كأن تعيش في البيت الذي خسر إحدى غرفه، أو شرفته وعموم أثاثه.. لا بأس، هو خير من السكن في الأقبية، ومن دفع إيجارات تتصاعد مع صعود صرف الدولار ولا تنخفض بانخفاضه.
لا يمكن رصد التحولات في “المزاج الأيديولوجي”، لأن هذا يتطلب حواراً من الصعوبة الخوض فيه، والجميع يقولون كلاماً ويخفون كلاماً بمقداره، ربما لأنهم يفتقدون للحسّ المشترك الذي تدعمه الطمأنينة والثقة المتبادلة، وحرية الكلام التي لا تستوجب عقوبة مؤجلة.. أو عاجلة.
– هل من قنص؟
– لا.. يمكن السير بأمان، أمسى القناصة على مسافات بعيدة من هنا، لكن انتبهوا للألغام وللقذائف التي لم تنفجر.. ولا تتجاهلوا العبور من أمام الحواجز لتحيّتها وطلب الإذن وطرح الاستفسارات عن المحظورات والطرقات الآمنة.
المتاريس عالية، تحتاج جهداً لصعودها، صنعتها الجرافات الآلية بتدبير هندسي لتقطيع الشوارع العريضة، وإغلاق كلي للأزقة الفرعية، استخدمت لذلك تلالاً من أتربة ردميات العمارات المنهارة.
– انتبهوا، التصوير ممنوع! أتى الصوت من داخل دكّان مغلق. رآهم من أطلقه من ثقوب “درابية” الحديد، في حين أصوات المطارق، صاعدة هابطة من جوف الدكان.
– لا أحد يصوّر، ردّ الرجل المرافق على الصوت بصوت عالٍ، وتابع بصوت خفيض: هؤلاء شبيحة يكملون سرقاتهم للدكاكين.. لا بد من عبور”الطلّاقات” للانتقال من شارع إلى شارع. و “الطلاقات” فتحات بين الدكاكين، عبر منها المقاتلون وسيارتهم دون أن يراهم مقاتلو الطرف الآخر، أو الطيران. مئات القذائف المصنوعة من أسطوانات الغاز والأوكسجين التي لم تنفجر بتمام قوتها، مجمّعة في الدكاكين.. أرتال من “مدافع جهنم” وهي من الإضافات العقابية المستحدثة التي فات ذكرها في “آداب الجحيم” الذي أنتجه الخيال القيامي – العقابي في العصور الوسطى. الأبنية المائلة على بعضها، الشرفات المتلاصقة بأرضها، آثار الحرائق في الشوارع.. كلها بعد الدوار الثاني. خراب أفران الكعك والحلويات، ومحال من كل صنف. عيادات الأطباء، مكاتب المحامين، المستوصف الحكومي، المدارس، المساكن..
– هل سيُعاد ترميم الحي؟ سؤال يضمر آمالاً معقودة على استرداد البيوت، بما حملته من سنوات التعب والحرمان لادخار النقود، ومجازفات تضع حداً للعلاقة بقرى وبلدات مسقط الرأس، تبدأ ببيع بضعة أشجار زيتون واقتطاعات من الأراضي الزراعية، وتنتهي ببيع ما تبقى، وإنجاز القطيعة التامة مع الريف.
– هدمه وإعادة إنشائه أقل كلفة من ترميمه.. لا يمكن تقديم الإجابة الحقيقية، لما سيسبّبه هذا الجواب من إحباط نفسي ووجداني لمن قرّروا العيش على الوعود والآمال.. سيرمّم ببطء، وقد يطول زمن الترميم، لأن في المدنية أحياء كثيرة حملت مصائر هذا الحي.
يتكاثر ذكر البلاد الأوروبية حين الاستفسار عن عائلة ما.. هذه في ألمانيا وتلك في السويد… وهؤلاء غادروا من العام الأول إلى بلجيكا.. وآخرون استقروا في الضيعة ولن يعودوا إلى هنا بعد أن شيّدوا أبنية وأعادوا إحياء أراضيهم.
***
أوجدت الانتفاضة الشعبية الكردية 2004، ندوباً في العلاقات بين سكان الحي (العرب والأكراد)، اندرجت بين التوجس الحذر وعدم الموثوقية المتبادلة، وهي أخفض من مسلكيّات أخرى أكثر حدّة وعنف برزت في حي “الشيخ مقصود” ذي الملامح الكردية أيضاً، وهذه آثار كان يمكن تجاوزها بحلول سياسية تقف على فهم قضية الشعب الكردي، وبالحوار مع الجماعات السياسية التي تحملها.
توسّعت مشاريع خدمية كبرى ومتوسطة كاستثمار للرأسمال الخاص، في رغبة لخدمة الوافدين من الأرياف الكردية في حي تتكامل خدماته: مشافٍ، محال بيع المصوغات الذهبية والألبسة و “جهازات” العرائس والأدوات المنزلية والكهربائية والمطاعم، كراج حافلات خاص بقرى المناطق الكردية (عفرين وعين العرب)، إطلاق أسماء الشوارع التجارية المعروفة في المدينة على شوارع في الأشرفية: شارع التلل وشارع العزيزية كناية عن أنه بات عندنا “التلل” و “العزيزية” خاصتنا.. ترافق ذلك مع التأكيد على الهوية القومية بإطلاق الأسماء الكردية على الأماكن الاستثمارية التي تعود للأكراد.
برزت مظاهر ملموسة للنمو الاقتصادي بعد الاحتلال الأميركي للعراق. وبحيّ الأشرفية ظهرت حالة غريبة عن العمل السياسي السوري بالمطلق: رفع العلم الأميركي في تظاهرة متواضعة ومحدودة الأثر، (في 2003). تدفق التجار من إقليم كردستان الذي حافظ على استقراره، ووفرت قيادته الأمان وشروط الاستثمار وشركات نقل البضائع وتأمينات التخزين والمصارف وشركات تحويل الأموال، حيث باتت البضائع ترسل إلى العراق عن طريق وسطاء الإقليم الكردستاني.. مما قوّى الورشات الصغيرة والمتوسطة العائدة لأصحابها من الأكراد، وانعكس على أسعار العقارات بشكل ملموس، فلم يعد القطاع من الحي الممتد من دواره الأول حتى دواره الثاني، مكاناً مناسباً لسكن فئات شعبية جديدة، فأسعار البيوت والمحال التجارية، تماثل أسعار البيوت في الأحياء الفخمة.
تحوّلات تشير إلى تنامي بورجوازية بهويّة كردية، تعي مصالحها لمقاربتها في الممكنات السياسية واحتمالاتها وحدودها المرسومة في المنطقة، الرازحة أمام تجاذبين قطبيين: الخيار الكردستاني – العراقي في أفقه التكيّفي مع المشروع الأميركي، والخيار الكردستاني – التركي الشعبي الراديكالي المحمول على برامج وممارسات حزب العمال الكردستاني.. فضلاً عن المشروع البورجوازي الكردي المتّجه إلى الاندماج مع المتحد الطبقي البورجوازي السوري.
– هل يمكن العبور نحو “بني زيد”؟
– مستحيل.
ينتمي حي “بني زيد” الذي يشكل امتداداً عشوائياً إلى الجهة الشمالية الغربية للمناطق الطرَفية في حي الأشرفية، إلى أحياء هامش هوامش الضواحي. يمكن اعتباره بعمومه منطقة مخالفات سكنية، وتعدٍّ على الملكيات العامة والخاصة. حاز على اسمه من الجماعة الوافدة من قرى منطقة “السفيرة” الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة حلب، مدعمين بسلالات القرباط، وكل المطرودين من اختناقات التنمية الريفية ومآزقها المتجددة. ولا يمكن فهم التوسع التضخّمي في هذه الأحياء الطرفية من الضواحي، إلا بفهم المسألة الزراعية في مقاربتها الرأسمالية – الكومبرادورية واتجاهها الحتمي نحو طفيلية مدمّرة للقوى الاجتماعية الحية، مغلقة على نموها وتطورها التي تهاوت من علياء غنائية رومانسية ووعود الأبوة الناصرية – البعثية إلى هاويات تراجيديا أحفاد السلالة ذاتها: النمو السكاني، انخفاض التعليم، غياب فرص العمل، ضعف مردودية العمل الزراعي..
– أتسمحون لنا بالعبور إلى “السكن الشبابي”؟ سألوا حاجز “وحدات حماية الشعب” التابعة للاتحاد الديمقراطي الكردستاني.
– لا..
وهذا مجموعة أبنية حديثة قامت بإنشائها مؤسسة الإسكان العسكرية، وجرى تملّك بيوتها وفق أنظمة الجمعيات التعاونية، حيث الدفع على أقساط شهرية، لعشرة أعوام أو خمسة عشر.. جزيرة عمرانية اعتمدت الأنظمة الطابقية الحديثة، مع حدائق وشوارع عريضة.. في محيط من العشوائيات. فوجد ليكون، رغم إرادة المخططين له، بؤرة حضرية استفزازية. لكن كل ما بعد الدوار الثاني خراب.. ما من بناء صالح للسكن في “السكن الشبابي”، كما أنه لا يمكن الوصول إلى الكثير من الأزقة المحاذية.
– “أعلم جيداً أن إمبراطوريتي تتعفن كجثة في مستنقع، وينشر تعفنها الوباء في الغربان التي تأكل منها، وفي أعواد الخيزران التي تمتص سائلها. لماذا لا تحدثني عن هذا؟ لماذا تكذب على امبراطور التتار، أيها الغريب؟
– نعم، الإمبراطورية مريضة. والأسوأ من ذلك أنها تحاول التعود على جراحها”. (“المدن المتخيلة”، ايتالو كالفينو).
* كاتب من سوريا
السفير العربي