الأطفال وساحات الموت السورية
جورج كدر
في الأساطير العربية القديمة ساد جدل بين علماء الأنثربوجيا للإجابة عن سؤال مفاده: هل قدم العرب القدماء في طقوس عبادتهم لأصنامهم الأطفال كقرابين بشرية، سؤال محير لأن تقديم القرابين البشرية عرف عند كثير من شعوب العالم القديم.
تحدث القرآن الكريم في سورة التكوير عن عادة عربية كان يتم فيها ‘وأد البنات’ في آية تقول: ‘وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ!’ لكن المرويات العربية عددت أسباب الوأد فمنهم من تحدث أن سبب هذه العادة الفاقة والفقر، وأخرى قالت إن سببه العار الذي يمكن للفتاة أن تلحقه بقبيلتها، إذ كانت النساء من أهم غنائم الحروب والغزوات عند العرب.
اختلاف المرويات يقودنا إلى اعتبار الوأد طقس أقدم بكثير من تلك المرويات على تناقضاتها، فالأية تشير إلى طقس قديم حرمه الدين الإسلامي، في هذا الطقس كان الأطـــفال يقدمون قربانا للألهة، ما يعزز وجهة النظر هذه هو العلاقة الجذرية بين كلمة وأد وكلمة ود، وود كان من أشهر معبودات العرب القدماء بوصفه إلها للحب والخصب، واحتفظ اسم هذا المعبود بمعان الحب رغم أن طقوس عبادته كانت قاسية إلى حد المـــوت، أما لماذا كان يقدم الأطفال قرابينا لإله الحب فهذا يحتاج إلى بحث طويل ليس موضوعه هنا.
قصدت من هذه المقدمة الإشارة إلى أن عادة وأد الأطفال وقتلهم عادة عرفها الإنسان القديم على طريق تحضره وتمدنه وكانت مرحلة قاتمة في تاريخ التطور البشري إلى أن حرمتها الأديان السماوية جميعا قبل مئات السنين، لكن إنسان القرن 21 المتوحش يستحضرها بأبشع الصور كما نشاهد يوميا في سورية.
يكفي أن نكتب على اليوتيوب كلمة ‘الطفل الشهيد’ لنرى عشرات الفيديوهات التي توثق مقتل أطفال بعمر الورد، في هذه الفيديوهات نتأكد أن القتل قتلان قتل من مجرم لا يملك أدنى مقوم من مقومات الإنسانية، وقتل آخر هو تدنيس لحرمة الموت، أم تتوجع وهناك من يصور وجعها، ويصور جثة الطفل الغض الغارق في دمه ودمع أحبابه وعويلهم عليه، أسماء الأطفال الذي سقطوا في سورية أكثر من أن نحصيهم، لعل آخرهم حتى ساعة كتابة هذا المقال الطفل ساري ابراهيم ساعود، هذا الطفل الذي قطّع صراخ أمه أوصال السماء، صراخ ربما سمعته روح الطفل ساري وهي تسري إلى جوار ربها، العيون صلبت على الشاشات كالصليب المعلق على رقبة أمه، عرفنا أن الطفل مسيحي.
والدة الطفل قالت للفضائية السورية إن عناصر إرهابية مسلحة قتلته لأن الجيش انسحب من حي البياضة حيث يقطنون، ومواقع الثورة السورية اتهمت الأمن السوري بقتله.
التركيز على الصليب في رقبة أمه كان فجاً، فماذا يهم دين طفل لم يكمل ربيعه العاشر وقد قتل مثله مثل مئات الأطفال السوريين.
كان جسد ساري الغض يتأرجح في حضن أمه، يداها غارقتين بدماء ابنها تهزه بعنف علّه يستيقظ.
هذا المشهد من الصعب تفويته على من يستثمر الموت وجدناه على التلفزيونات الرسمية الرسمية وهي تقول إن الجريمة ارتكبتها عصابات مسلحة وعلى فضائيات أخرى تقول الأمن هو من قتله… ونحن نتفرج على مشهد ‘ندب أمه الثكلى عليه’ وقلوبنا تنفطر.
لتوجيه الوعي الجمعي باتجاه العنف، اعرض مشهدا لطفل قتل لتوه تفنن في عرض جسده الغض ولإكمال مأسوية المشهد اعرض أماً تندبه، سيكون من شأن هذا القربان إيقاظ الأحقاد والكراهية بطريقة تفوق التوقعات.
سأسلم بكل الروايات التي يرتضيها كل أطراف الصراع في سورية وأقول ليكف النظام السوري عن القتل، ولتكف الجماعات الإرهابية المسلحة المجهولة عن القتل، وأطلب من رجال الكاميرات رغم كل المخاطر التي تحيط بهم لتوثيق ما يجري بأن يكفوا عن تصوير جثث أطفالنا احتراما لحرمة موتهم.
هناك من نسي أن زمن القرابين البشرية ولّى. توقفوا عن الزج بالأطفال في المظاهرات أبعدوهم عن ساحات الموت فهم لا يعلمون ما يفعلون، وأنت أيها القناص الخناس الذي قتلت الإنسان بداخلك توقف عن إعمال ألة قتلك الرهيبة في رؤوس أطفالنا، تبت يدك ويد كل من أوعز إليك بالقتل.
أتوسل لكل أصحاب الضمائر أن يخرجوا بمبادرة لوقف قتل الأطفال فهم ليسوا قرابين بشرية لاسترضاء الأصنام، ومن أراد أن يجعل من آجسادهم الغضة المقدسة قرابين بشرية فلن تكون إلا لتغذية أصنام حقدهم وكراهيتهم.
‘ كاتب وإعلامي سوري
القدس العربي