الأغاني الفارسية
رستم محمود
كان ميلاد جيلنا – في أوائل الثمانينات من القرن المنصرم- قد ترافق مع تحول العلاقة السياسية بين النظام الحاكم لبلدنا سوريا، والنظام الحاكم للجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلى شكل من التحالف الاستراتجي بالغ المتانة. ثم وبالتقادم، تداخلت شبكات العلاقات بين النظامين، تقارب في الخطاب الإيديولوجي، تعاون متين مع المؤسسة الإستخباراتية، تنسيق عال في كافة الألعاب الإقليمية ومعادلاتها، إسناد متبادل لبعض الأجهزة الاقتصادية، زيارات دون توقف معلنة وسرية للمسؤولين في البلدين، إيمان راسخ بوحدة المصير بين الطرفين… الخ.
الغريب، أنه طوال تلك الفترة، ورغم أشكال العلاقة الاستراتيجية المتينة تلك، فإن إيران والإيرانيين كانوا كائنات غريبة عنا للغاية. لا نكاد نعرف أي شيء عن ذلك البلد، تاريخاً وحاضراً. إذ لم نسمع يوماً، على أي من المحطات الإذاعية الرسمية الثلاث –الوحيدة- في بلدنا، أياً من الأغاني الفارسية، لم نعرف حسين عليزاده وسيما بينا وفارامارز بيفار ومحمّد رضا شجريان وشهرام ناظري وآزام علي… الخ، ولم نتابع يوما على شاشات التلفزيون أياً من أفلام السينما الإيرانية المبهرة، لم نعرف المخرج جعفر بناهي ولا أبوالفضل جلیلي ولا عباس کیروستامي ولا أمیر نادري وبهمن قوبادي. لم نكن نعرف شيئا عن التاريخ الإيراني، لم يكن من شيء في المؤسسات التربوية والإعلامية والدعائية لنظام بلدنا عن جل الرموز الجمعية الإيرانية، لا فردوسي الشاه نامة ولا رباعيات عمر الخيام أو صوفية صدر الدين الشيرازي، لم نكن قد سمعنا عن الثورة المشروطية في بدايات القرن ولا عن حركة محمد مصدق، حتى ولا عن ثورة الخميني التي كانت تمثل الرمزية السياسية الأعلى للنظام الإيراني. لم يكن لها من شيء في مشاهد ذاكرتنا. لم يصدف أن عرفنا شيئا عن عمارة أصفهان أو عن مدارس ومجتهدي مدينة قّم، لا بحيرة أورمية أو زهور تبريز أو سواحل بندر عباس. كان ثمة جمل قصيرة فقط وغامضة عن مناطق عربستان المحتلة، في تماش خجول مع إيديولوجية نظام سوريا القومية.
كان انفصام ما هو ثقافي وحياتي عن ما هو سياسي، في شكل التحالف بين “الدولتين”، دلالة على عمق تحول نظاميهما السياسيين إلى مجرد مؤسسة جهازية محضة، تتكفل بضبط مصالح النظام، عبر المزيد من التشابك الإقليمي والكثير من التجويف الداخلي.
لكن كان لذلك ارتدادان بالغا الدلالة على ما يمكن أن تحدثه الأنظمة الجهازية في أعماق مواطنيها. فبعد شهور قليلة من اندلاع الثورة السورية، اُستُسهل استخدام لغة شبه فاشية مناهضة للفرس في كثير من “الأدبيات” القريبة من مناخات الثورة السورية، الصفويون – عبدة النار – أحفاد الكفار… الخ. فعمق الاغتراب عن البيئة الثقافية والاجتماعية الإيرانية، ساهم للغاية بالخلط بينها وبين ممارسات نظامها الحاكم. على وتيرة موازية، فإن مدى صمت تلك البيئة الثقافية الإيرانية عن ممارسات النظام الإيراني في المسألة السورية، يبدو شيئا مثيرا للاستغراب. فغير حالتهم التأسيسية ككائنات غير معنية بسلوكيات نظامهم الحاكم، لحجم التهميش والاستبعاد عن الشأن العام الذي يلاقونه من قبل نظامهم، فإن البعد الإنساني والحقوقي في المسألة السورية لا يبدو شاغلاً لعموم المثقفين والفنانين والمعرفيين الإيرانيين. فكأن المجريات السورية تحدث في جغرافيا بعيدة عن مشاغلهم، وفي ذلك دلالة على جهل مقابل يصبيهم بكل التفاصيل السورية.
في فيلمه الشهير “أين بيت الصديق؟” يسرد المخرج عباس كيروستامي حكاية يافع يريد إعادة كتاب نسيه صديقه في حقيبته هو. طوال رحلة البحث المضنية، يُبهر اليافع بالعمق الثقافي والجمالي للمكان الذي يفصل بين بيته وبيت الصديق، تلك الجماليات التي كانت غائبة عن وعيه وذاكرته، بسبب مدى كراهيته لصديقه.
ربما هي حكاية تاريخية شبيهة بسردية كيروستامي، فذهن آخر وشكل آخر لأنظمة الحكم، يمكن أن تنهي أزمنة “الحب اللدود”.
على كتاب التربية الوطنية الجديد في بلادنا، أن تحوي الكثير من الأغاني الفارسية والتركية والكردية والأرمنية والسريانية…
المدن