الأغنية السورية الموالية: قفزة ما بعد الثورة/ نبيل سليمان
قبل أن تزلزل سورية زلزالها سنة 2011 كان للأغنية المعارضة حضور خجول. وقبل ذلك، منذ أحكمت البعثية فالأسدية قبضتها في عام 1963 فعام 1970، كانت الأغنية المصرية المعارضة مرموزاً لها بظاهرة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، هي في الآن نفسه الأغنية السورية المعارضة. ومثلها الأغنية اللبنانية المعارضة مرموزاً لها بظاهرة مرسيل خليفة. وبالتالي لم يكن للأغنية المعارضة مثل القوام السوري الذي بات لها بعد 2011، بعجره وبجره. والأمر نفسه بصدد الأغنية الموالية. و”ربما تحسن العودة هنا إلى مقالتي (الأغنية السورية المعارضة) في ضفة ثالثة 1/2/2017″.
الشقاق الأسري بين الموالاة والمعارضة:
ربما كانت حالة (فنان الشعب) أبو صياح رفيق سبيعي (1930 -2017) أحدث وأكبر تمثيل لإشكالية الأغنية الموالية السورية في سنوات الزلزال. فالرجل مثل سائر النجوم وغير النجوم، غنّى طويلاً للنظام. ومثل كثيرين من النجوم ومن غيرهم ظل يغني بعد الزلزال. ولكن ابنه الفنان بشار وابنه الراحل الفنان عامر، هما من المعارضة. وقد عزّى برفيق سبيعي من المعارضة خطيب بدلة ورياض نعسان آغا وآخرون، بينما صبّ معارضون آخرون جام شتائمهم وشماتتهم على المرحوم أبو صياح. وليس هذا بالشقاق الأسري الوحيد بين موالٍ ومعارض في المشهد الفني السوري، فهذا هو الممثل محمد آل رشي وقف معارضاً، وأشيع أن والده الممثل الاستثنائي عبد الرحمن آل رشي (1934-2014) قد تبرأ منه، لكن الأب نفى. ومثال أصالة نصري وأسرتها أكبر حرارة. فالفنانة التي غنت منذ ربع قرن “حماك الله يا أسد” عرفاناً ربما بالجميل، إذ أنفقت الرئاسة على علاجها من شلل القدم في الطفولة، انتقلت إلى المعارضة، وصدحت بأغنيتها الشهيرة “آه لو هالكرسي بيحكي”. وقد أعادت أداء الأغنية (حماك الله يا أسد) الفنانة الموالية حنين القصير بعد تعديل طفيف كي تناسب المرحلة الراهنة. والأهم أن ريم نصري قد ردت على أغنية شقيقتها أصالة متحدية بأغنية “يا سيد الأباة”، وكانت قد غنت من قبل “سوريا ع جبين الكون”.
لم يقتصر الرد على أصالة على أسرتها، فقد هاجمتها سلاف فواخرجي وشتمها جورج وسوف. أما رفيق سبيعي، فقد كان جزاؤه أهون، وإن يكن فنان كبير معارض مثل فارس الحلو قد نال منه جزاء على موالاته. وكان النظام قد منع أغنية رفيق سبيعي (فيفتي فيفتي) التي لحنها له سميح شقير، ومنها: “فيفتي فيفتي/ نص بنص/ شغلو ماشي/ إكسبريس، بياكل نص/ بيطعمي نص/ متعلم؟/ إي متعلم/ لغة التنبيح/ ريَّشْ؟/ طبعاً ريّشْ/ صفّا فوق الريح”. لكن هذه الأغنية الناقدة للفساد كانت قبل الزلزال، حين أسرع رفيق سبيعي إلى أغنية (أنت المنار) وظهر بالبزّة العسكرية المرقطة في كليب الأغنية يصدح: “نحنا جنودك نحنا رجالك”. وفي السنة التالية (2012) أطلق أغنية (أنا سوري جديد) ومنها “أنا سوري من أرض الشام/ وعطر الياسمين الفواح/ مهما درت وشفت بلاد/ غير بحضنا ما برتاح”.
وقد شارك أبو صياح في أغانٍ جماعية موالية، منها ما كان مع النجوم السوريين: حسام تحسين بك – فاديا خطاب – سلمى المصري.. ومن هذه الأغنية: “سورية الله/ الله حاميها/ شعبنا بالروح والله/ والله بيفديها، والهامة دايماً مرفوعة/ لغير الخالق ما منحنيها/ سورية ألله حاميها”.
المماهاة بين الوطن والنظام:
إذا كانت الأغنية الموالية كالأغنية المعارضة في التعلق بسورية – الشام/ الوطن، فهي تتميز غالباً بالمماهاة بين سورية والنظام. وقد تكتفي بالـ (سوري) بدلاً من سورية، ومن أفضل ذلك ما غناه قبل 2011 عبد الرحمن آل رشي الكردي الأصل، وصاحب الصوت الفريد والأغنية الشهيرة: “لالي لالي لالي/ ياعلمنا لالي بالعالي/ غالي غالي غالي/ اسمك يا وطنا يا غالي/ تحت جناحو أنا بتفيا/ أنا سوري آه يا نيالي”. وقد تعرضت هذه الأغنية إلى التحوير الساخر بعد 2011. وبدرجة أدنى فأدنى تفجرت الأغنية الموالية، سواء ما ينضوي منها في هذه الفقرة، أو فيما سيلي.
في هذا السياق تميزت أغنية الممثل مصطفى الخاني (النمس): “لعيونك والله يا شام/ لعيونك يرخص الغالي/ لعيونك يا وطن يا كبير/ هالرقبة سدّادة/ والعين بالدمع للغالي مدّاده” وفي الأغنية مزج مع أغنية (لالي لالي..) وأغان متوارثة منذ الاستقلال. كما تميزت أغنية شادي أسود التي أفادت من اللحن الشعبي (سكابا يا دموع العين)، ومنها ما يخاطب المعارض المسلّح: “لما بتقتلْ/ تذكّر عم تقتلْ خيّكْ/ لما بتهدم/ تذكر عم تهدم بيتك/ سورية موجوعة/ وعم تنزف دموعا/ ع ولادا اللي كانوا شموعا/ ع أهلا اللي صاروا غرابا/ سكابا يا دموع العين سكابا/ بالدم تعطّر ترابا”. ومن الجليّ قدرة مثل هذه الأغنية على التعبير عن الموالاة والمعارضة، وعلى مخاطبتهما. وثمة من غنى على وزن اللحن الشعبي (على دلعونا) مبدلاً بالكلمات: “على دلعونا على دلعونا/ ترابك سورية أغلى من عيونا”. وعلى وزن اللحن الشعبي “رْوَاحْ يمّا رْواحْ يما رواحي/ والعشق من الله والهوى سوساحي” موحداً بين سورية وبين الدعوة إلى الانخراط في الجيش بينما يتفاقم التهرّب من الخدمة الإلزامية والاحتياطية: “رواحْ يابني على الجيش رواحي/ سورية قلعة ما تهدّا رياحي/ رواحْ يابني على الجيش رواحي/ راية سورية تنفدى برواحي/ ياحيف يابني تنجرح سورية/ شوية أعادي يتآمروا عليّا/ مادام فيّا اللي متلكْ والله فيّا/ نجما بالسما للأبد رمّاحي”.
أما اللحن الشعبي السوري اللبناني (الهوّارا) فقد تعددت على وزنه الأغاني الموالية، كهذه التي خصّت بقدحها قنوات فضائية (الجزيرة – العربية – بردى – بي بي سي – وصال) بينما خصّت بمدحها قنوات النظام الفضائية: “هوّرْ يابو الهوّارا/ عن سورية وأخبارا/ الجزيرة والعربية/ هالأخبارنْ كذابه/ والبردى التحريضية/ بالهستيريا منصابه/ شو فقدوا المصداقية/ عليهم سكرت بوابي/ والوصال السلفية/ والعرعور الإرهابي/ البي بي سي اليهوديه/ قديش سبوها اصحابي/ والصفا تكفيرية/ بمشايخها النصابة/ الفضائية السوريه/ فيها زايد إعجابي/ وبحب الإخبارية/ وقديش حلوة أخبارا/ وهوّرْ يابو الهوارا”.
ومن الأجيال الصاعدة المطربين الموالين، لأذينة العلي هذه الأغنية: “يا سورية إنت الروح/ شعبك م ينادي/ ومن طهر ترابك بينوح/ عطر الشهادي (ة)/ سورية إنت أمّي/ ما بيغلى عليك دمي/ والله لو بدك هالروحْ/ روحي سدّادي”. وكذلك أغنية (بعشق أرضك سورية) لسامر كابرو، ومنها: ارفعوا إيديكن بالعالي/ حيوا شعبا وأهاليّا/ اسما على قلبي غالي/ بروحي وعمري بفديّا/ سورية اسما عالي/ بعشق أرضك سورية”. وبالطبع، في حشد المطربين والمطربات نجم ونُجَيم ونُجَيّم، ولكن من النادر أن اقترنت النجومية بمستوى فني أفضل للأغنية، فلا فرق بين أي من الأغاني السابقة وأغنية نجم مثل علي الديك (الله محييّ سورية) أو أغنية نجم مثل وفيق حبيب (حيوا سورية بلدنا) ومنها: “حيوا سورية وأبطالا/ حيّوا جيشا حيّوا رجالا/ الدم بيرخص كرمالا/ هيدي سورية”، أو جميع الأغاني الموالية لنجم مثل جورج وسوف والتي تردت في دَرَكٍ فني فدَرَك..
الشخصنة والطائفية:
تتمحور الأغنية الموالية حول الشخصنة، وبخاصة في مناسبات بعينها، كما كان في الاستفتاء الرئاسي. وتخترق الشخصنة الكثير من الأغاني التي تمحورت حول سورية، أو الجيش أو الشهادة أو الطائفية. فهذا جورج وسّوف في أغنية (حبيب الملايين) يعارض أغنية عبد الحليم حافظ الشهيرة في عهد جمال عبد الناصر (يا جمال يا حبيب الملايين). ومن ذلك أغنية جورج وسوف: “يا غالي يابن الغالي/ يا حبيب الملايين/ يلّي جبينك عالي/ ما بيعلى فوقه جبين”. وفي أغنية المطربة الصاعدة شهد برمدا (منحبك): “منحبك يا كبير/ يا رمز الوطن/ يابو قلب كبير/ نحنا أهلك/ نحنا شعبك/ ع الحلوة والمرّة جنبك”. ومثل ذلك كنان حمود في أغنية “يريدون رحيلك/ مانرضى بديلك”، وما لا يحصى من الأمثلة.
أما ما جهر أو استبطن من الطائفية في الأغنية الموالية فمن الأسماء والألقاب الشيعية التي تترجّع فيها: الإمام علي بن أبي طالب/ أبو الحسنين/ حيدر/ ذو الفقار/ داحي البواب/ شيعة علي… ويأتي ذلك بخاصة في مواويل العتابا، وفي إهاب التقديس، مما اشتهر به بهاء اليوسف، مثلاً. ولحزب الله وحسن نصرالله هنا نصيب، كما في هذه الأغنية التي تحضر فيها حلب قبل معركتها الأخيرة 2016 بسنتين: “يا نصر الله لا تهتم/ أبطالك بالساحة أسود/ حلب بنفديها بالدم/ وبراية نصرك بنعودْ”. ولا تنسى هذه الأغنية جبهة النصرة: “جايي عسكرنا يا نصره/ رح بنخلّي جنودك عبره/ حلب الحرة بترجع حرة/ قبلا رنكوسْ ويبرود”. أما الأغنية التالية فهي أكبر صراحة بالطائفية بينما تردد اسم حسن نصر الله وحزب الله: “نحنا رجال الحزب الغالي/ نتحدى الموت وما بنهاب/ لنصر الله أدوا الواجب/ بهمة حيدر داحي الباب”.
الشهادة والجيش والوحدة الوطنية:
إلى ذلك، للشهيد وللشهادة، وللجيش، وللوحدة الوطنية، أغان مفردة، أو قد يشتبك بعضها مع بعض في أغنية، كما في التنويع على لحن (سكابا): “سكابا يا دموع العين سكابا/ عاللي راحوا وابكوا يالحبابا” و”ياعيني ضلّي ابكي ونوحي/ على الغالي يازين الشبابا”، وكذلك في أغنية شادي أسود (زغردي بفرحة يا أمي للشهيد)، وأغنية (أنا الشهيد) لثائر العلي، وأغنية أذينة العلي (يا أمي يا سورية). وليس يخفى القصد في اختيار (سكابا) لمواءمة الحزن فيها للمقام. أما للوحدة الوطنية، وحيث يقع الاشتباك مع الطائفية، وعلى وزن اللحن الشعبي (الهوّارا) أيضاً، فتتبدل الكلمات لتصبح: “هوّرْ يابو الهوّارا/ وانتصرنا بجدارا/ بوحدة الشعب السوري/ وحكمة أبو حيدرا/ على الفتنة انتصرنا/ وهزمنا الطائفية/ أكبر قلعة عمّرنا/ بوحدتنا الوطنية/ وبالمحبة تزنّرنا/ إسلام ومسيحية/ مع قائدنا سطرنا/ أحلى حكاية سورية/ وبالشهادة تطهرنا/ وبلادي أرض الطهارة”.
الراب:
وكما كان للمعارضة من (الراب) السوري نصيب كان للموالاة. ومن الراب الموالي أضرب مثلاً بالأغنية/ الفيديو كليب الذي يحوّر ساخراً من (شاهد عيان) إلى (شاهد عميان)، ويندفع بحد أدنى من الاصطفاف ومن الإلحاح على الوحدة الوطنية: “الله يرحم اللي مات من الطرفين/ كلهم إخوة ضحية الغدر/ بس أكيد بيضلوا إخوة”.
لكن الراب في مقام آخر يندفع متصدياً ومهدداً: “قبل ما تنادي بالتغيير/ غيّر يلّلي عندك (…) بدك بالإصلاح/ احكي/ ما حدا رح يمنعك/ بس تأدبْ وصونْ لسانك/ لحتى الكل يسمعك/ بالتغيير عم تفضح هدفك/ يللي مارح ينفعك”. وفي حدود متابعتي المحدودة للراب الموالي والمعارض، أشير إلى فولينكو في (جرعة) وفي (سلّم بالعرض) وفي (سيفون البلد) حيث يعلو الصوت ضد الحرب والتطرف والمليشيات والعنف أياً يكن مصدره.
معركة غنائية:
وتبقى الإشارة إلى معارضة (أي تصدي) الأغنية الموالية للأغنية المعارضة، فيما يبدو معركة غنائية. فعلى لحن ووزن أغنية سميح شقير المعارضة الشهيرة (ياحيف) نسج موالون، مثل سام حسيكو الذي غنى “يا حيف ع اللي يحرق علمْ يا حيف/ يا حيف ع اللي يجرح وطن يا حيف/ يا حيف ع اللي يغدر بجيش/ وهوّي عماد الوطن/ يا حيف”، ومثل نوار حيدر الذي قلّد أداء سميح شقير حرفياً: “يا حيف يا حيفن وياحيف/ أخ ويا حيف/ حكام باسم العرب تحكم كيف/ سورية صارت عدو وإسرائيل ضيف”. والأمر يتجاوز هنا ما مر ذكره من النسج على منوال أغنية فولكلورية ما، إلى ما هو سطو صريح على اللحن. أما وفرة التصدي لأغنية سميح شقير، فهي دليل كاف على إبداعها الاستثنائي، وبالتالي على أهميتها وتأثيرها.
***
من المؤمل أن يثير ما تقدم عن الأغنية السورية الموالية، وما سبق أن كتبت عن الأغنية السورية المعارضة، وعن الأغنية العربية الموالية، اهتمام من هم أهل لدراسة مثل هذا الفن، أكثر مني.
لقد كان جمع (المادة – الأغاني) في أغلب الأحيان عقاباً لنفسي، ففي ما جمعت، كما في أغلب ما هو رائج من الغناء والأصوات الرديئة المتوالدة كالفطر، ما يصح فيه ما كتب سلامة موسى في مجلة الأديب اللبنانية المحتجبة (آب / أغسطس 1948) معبراً عن إحساسه بالمهانة والصغار والاشمئزاز جراء ألحان وأغان. وبعد (نفثة) سلامة موسى ينبغي أن يشار بقوة إلى سذاجة الكلمات وهبوط الألحان وتشابهها، ورداءة الأصوات. وهنا أستعير للأغنية الموالية ما سبق أن استعرت للأغنية المعارضة من وصف ممدوح عدوان قبل أربعين سنة لأغنيات الشيخ إمام بالسطحية، والمباشرة، والاستعجال، والصدى المباشر للحدث السياسي، وكذلك بالأسلوب الخطابي، وبأسلوب الردح، إلا ما ندر. وبالتالي، يذهب الفن بدداً حين تتسيّد عليه السياسة، وتستوي أغنية (المعركة) مع أغنية المطعم أو العرس بعد أن تكون الكؤوس قد فعلت فعلها، كما تفعل العصبوية والأيديولوجية.
ضفة ثالثة