الأقليات في سوريا.. من الأسد إلى الثورة
ميشيل كيلو
يشرف معهد العربية للدراسات والتدريب – قناة العربية – أن يقدم هذه الدراسة المتميزة للمفكر والمعارض السوري المعروف الدكتور ميشيل كيلو حول مخاوف الأقليات والطوائف في سوريا تلك الفزاعة التي سعى نظام الأسد وحلفاؤه لترويجها واستثمارها ضد الثورة السورية، التي يطالبها الكاتب هي الأخرى بتقديم برامج عملية لتأكيد المواطنة والانتماء الوطني لكل الأقليات والطوائف ليس الاكتفاء بمقولات التطمين الساكنة فقط خاصة مع ما كرسته سياسات النظام الأسدي من أقلوية وطائفيات مغلقة تخدم طائفة سلطته فقط، وتمارس الإقصاء ضد الجميع.
في هذه الدراسة يسبح بنا المفكر ميشيل كيلو في حفريات التاريخ المضيئة حين رفضت الطوائف السورية بما فيها الطائفة العلوية فكرة التقسيم التي روج لها الاستعمار، بينما سعت سياسات النظام الأسدي- سلفا وخلفا- منذ انفراده بالسلطة، لتنشيطها مخاوف مصطنعة وإن أبقت أثرا، والانقلاب على لحظات سوريا المتنورة والتقدمية التي حاول مجتمعها النشط ونخبتها الرائدة تصدير وحدتها الداخلية للعالم العربي أجمع، قبل الأسد! الذي جفف من روافد الحداثة والليبرالية والمواطنة الجامعة والواحدة لطوائف متفرقات ومزقات من كل منها تابعة له.
يدافع كيلو عن مواقف الأقليات في الثورة السورية، فليس صحيحا- برأيه- ما روجه النظام من معاداة العلويين والأقليات للثورة وموالاتهم للنظام، وليس صحيحا أن زخم الثورة الذي بدأ يدعو للحرية والمساواة والمواطنة كان زخما طائفيا، بل يكشف ما حاوله النظام في هذا الصدد، ويقدم توصياته في نزع ما تبقى من مخاوف أو تصحيح ما اعوج من ممارسات البعض من المنتسبين للثورة أو اللطوائف على السواء.
هذه الدراسة تمثل حفرا معرفيا وتاريخيا في الاجتماع الثقافي والسياسي لسوريا قبل الثورة ولحظتها، كما تمثل استشرافا يرسم سيناريوهات عقلانية لمستقبلها بعيدا عن فزاعات المخاوف والتفكير الملي والطائفي الذي يصنعه النظام ويصدقه بعض الطائفيين.
بين الطائفة والطائفي
بداية، لا يكون المواطن طائفيا لمجرد انتمائه إلى طائفة، بل يكون كذلك- فقط- متى رأى الشأن العام ومصالح الدولة، وبقية مكونات المجتمع بدلالات يمليها عليه انتماؤه إلى الطائفة، يعتبرها في هذه الحال مرجعية تلزمه بمواقف ونظرات ومصالح، تصير معها القضايا الجامعة والمشتركة، وطنية كانت أم إنسانية أم مجتمعية ، ثانوية المكانة والدور، وتنقلب من مشتركات عليا وجامعة إلى ولاءات ثانوية ودنيا، لا تخصه ولا تعني له الشيء الكثير.
إلى هذا، لا ترتبط الطائفية ارتباطا سببيا بانتماء مذهبي أو ديني، وإنما يمكن أن تكون سياسية أو حزبية او ايديولوجية أيضا، في حال توفرت في جماعة سياسية ، أو سلطة أو حزب صفات محددة، يرى المنتسبون إليها الشأن العام بدلالتها الخاصة والمغلقة وانطلاقا منها، فيملكون، لهذا السبب وفي هذه الحاضنة، الوعي باختلافهم وتميزهم عن الجماعات الاخرى، والشعور بانفصالهم عن النواظم والمعايير التي تحدد سلوك ومصالح من لا ينتمون إليهم، مع ما يترتب على ذلك، بالمقابل، من انتمائهم إلى نظم ومعايير قيمية خاصة بهم، يجب أن تمنحهم وضعا خاصا وتعطيهم حقوقا تتناسب مع مكانتهم واختلافهم عن غيرهم، لما لذلك من نتائج في تعزيز الطائفة ومكانتها من النظام العام وتوازنات المجتمع، وتوطيدها كجماعة هي أقرب في روابطها وبنيتها إلى أخوية مغلقة، يمكن أن تحمل هوية سياسية او اجتماعية أو مذهبية متفردة، لا تشبه غيرها ولا يشبهها، تسيرها آليات ومدونات تدمج افرادها وتقصي من هم خارجها، فلا بد أن تكون سرية في أقسامها المفصلية، وأن تبقى مفاتيحها صعبة الاختراق من قبل ” الغرباء “، وتكون بعض سردياتها مقتصرة عليها ، بمنأى عن الآخرين وفهمهم، بما أن وحدة الطائفة كجماعة ترتكز على اتكائها على انماط من التفكير والسلوك والعيش ليست، ولا يجوز أن تكون متاحة لغيرها.
يؤمن هذا النص بوجود طوائف غير مذهبية وغير تقليدية، طوائف سياسية واقتصادية وثقافية ، تمثل زمرا مغلقة أو فئات خاصة تتوفر على وضع طائفي خاص، لكونها ترى كل من وما لا ينتمي إليها بدلالتها الذاتية ، وتؤدلج حالتها الخاصة وأدوارها ومصالحها، وتضفي طابعا خاصا، تمييزيا وتفريقيا، وتقديسيا في كثير من الحالات المذهبية، على ذاتها وبعض من ينتمون إليها.
من الملل إلى المجتمع
مرت سوريا في حقبة عثمانية انقسم “مجتمعها “خلالها إلى ملل” أي إلى وحدات دينية أو مذهبية متجاورة ومغلقة ، تمت إدراتها من قبل مؤسساتها الدينية المعترف رسميا بها من السلطنة، والتي اعتبرت مسؤولة عن مللها أمام السلطات المحلية والمركزية في اسطنبول، بشيء من التعميم يمكن القول إن من نستطيع تسميتهم تجاوزا ” السوريين ” لم يشكلوا آنذاك مجتمعا بمعنى الكلمة ، بل كانوا مجموع “جماعات أو جمعات” تعيش إلى جانب بعضها البعض، يتم القسم الأكبر من تفاعل وتواصل أبنائها داخلها كوحدات متكاملة ومغلقة، وليس مع من ينتمون إلى بقية الملل، التي تمتعت جميعها باستقلال ذاتي إداري، ومثلت نوعا من بنية تحتية للنظام السياسي والإداري الحكومي.
بدأ نظام الملل ينحل مع إصلاحات القرن التاسع عشر، التي كسرت قشرة البيضة التي كانت تحتجز كل ملة، وفتحت الملل بعضها على بعض، وأتاحت لها تفاعلا برانيا او خارجيا مع غيرها، كان ضروريا لتشكل المجتمع من جهة، ولتخلق تعبيرات سياسية تتخطى الانغلاق المللي- أو الملي- من جهة أخرى.
هكذا ، عنى انفراط عقد الملل تكون حواضن وطنية ومجتمعية مؤهلة لحمل التقدم والحداثة، لم تكن موجودة من قبل، وتخلق المجتمع في إطار معياريات وقيم غير دينية أو مذهبية أو فئوية أو جزئية، تشكلت معها الانقسامات العمودية، التي كانت ضعيفة ومحدودة في نظام الملل، وانفتحت بالتالي الدروب أمام السياسة بمعناها المجتمعي والأيديولوجي الحديث، واتسعت لمقومات لم تكن فيها خلال قرون كثيرة، عندما كانت سلطانية، وشأنا يخص حاكما فردا مطلقا ومستبدا ينتج كل شيء من موقعه على قمة- وفي مركز- دائرة سلطانية بالطريقة التي تناسب مصالحه وتلبي رغباته ومطالب أسرته وحاشيته والمقربين منه.
وقد لعب النضال في سبيل استقلال سوريا وإنهاء الانتداب الفرنسي دورا عظيم الأهمية في تشكل الوطنية السورية ضمن حاضنة مجتمع بدأ يتعرض لمفاعيل التحديث والتقدم ويتبناها.
وكما يحدث في كل تطور نوعي يؤسس لأبنية جديدة في واقع متقادم، برزت مشكلة الأقليات باعتبارها مشكلة طوائف، عندما قسم الفرنسيون سوريا إلى دول أساسها طائفي، في سعيهم لكبح الوطنية الوليدة والحيلولة دون تخلقها على أسس غير مذهبية أو دينية أو أقلوية، وبالتالي رغبتهم في إبطاء النضال المتصاعد ضدهم وإطالة أمد بقائهم في سوريا، التي كلفوا بتمدينها كي تتمكن من حكم نفسها بنفسها، فعملوا على تمزيقها وتفتيتها، لاعتقادهم أن بلدا تمزق إلى وحدات صغيرة، هي ضرب من ملل موسعة ومحروسة بمؤسسات محدثه شبه دولتية، لن يتمكن من تحقيق استقلاله وامتلاك شروط تحرره.
كان استقلال سوريا ثمرة وطنية نمت في سيرورة نضالية وحدت الشعب في مختلف مناطقه ضد عدو براني خارجي احتل حيزا مهما من مكان صار وطنيا، أي خاصا بشعب مبنين عموديا وأفقيا، دخلته علاقات ومصالح السوق، وبلغ مستوى مقبولا من العلم، ونجح خلال حقبة قصيرة في إحباط المسعى التقسيمي واستعاد وحدة دولته الاستقلالية، التي اعتبرت نفسها مرحلة على طريق وحدة العرب، الأمل الذي راود الناس ولعب دوره في تنمية روحهم النضالية ووعيهم الوطني على مدار عقود.
قبل الاستقلال بفترة قصيرة، دعمت فرنسا ثورة قام بها بعض أبناء الساحل السوري، في مناطق معينة من جبال العلويين، كما كانت تسمى رسميا يومذاك. في الأصل، تحدث سايكس بيكو عن دولة سورية تقوم على خط دمشق / حمص/ حماه/ حلب . مع وعد بلفور الذي صدر عام 1917 ومنح فلسطين الى الصهاينة، وضم الأقضية السورية الثلاثة إلى لبنان عام 1920 ، لتشكيل ما عرف بدولة ” لبنان الكبير” ، وضم لواء اسكندرون إلى تركيا عام 1938، فصلت الدولة السورية عن القسم الأكبر من شواطئها البحرية، بثورة الساحل، أريد فصل آخر ما بقي لسوريا من منافذ إلى البحر، تطبييقا لاتفاقية سايكس / بيكو، إلا أن هذا المشروع فشل.
ربما كانت هذه الوقائع تفسر التحذير المتكرر من خطر أو خطط فصل الساحل السوري عن بقية البلاد وإقامة دولة علوية فيه، علما بأن نضال العلويين أنفسهم هو الذي افشل قيام دولة كهذه في فترة الانتداب الفرنسي، بالنضال في سبيل الاستقلال وتشكيل دولة مستقلة وذات سيادة، تحولت الملل الى اقليات تنضوي في نظام سياسي تعددي تمثيلي أتاح للمنتسبين إليها أن يحتلوا كأفراد يتساوون مع غيرهم في الحقوق والواجبات، مراكز سياسية ومهنية وادارية، مقررة ضمن الجهاز المدني بالنسبة إلى المواطنين المسيحيين، والعسكري بالنسبة إلى المواطنين العلويين، ما أسهم في استمرار عملية الاندماج الوطني التي قطعت خطوات مهمة خلال فترة قصيرة نسبيا ، ونشوء أحزاب وهيئات مجتمعية وعلاقات مدنية تتخطى أية اواصر او ارتباطات طائفية أو أقلوية ، وتعزز، وسط التعثر في إدارة مجال سياسي مستقر، التطور الحديث مع ما ترتب عليه من تعاقدات ومصالح عابرة للمجتمع، ما بعد أقلوية وطائفية.
من المجتمع إلى الطوائف
وصل البعث إلى السلطة بانقلاب نظمته قوى عسكرية مختلفة معظمها غير بعثي أو معاد للبعث، اطاحت بالنظام القائم يوم 8 آذار 1963، لكن ضباط البعث نجحوا في إزاحتها حسب خطة محكمة كانوا قد وضعوها لهذا الغرض ، افادت من تشتت وتناقض ضباط وقادة القوى الاخرى، التي كانت في معظمها ناصرية أو غير حزبية من ذوي “التوجهات الليبرالية”.
استأثر البعثيون بالسلطة بعد سلسلة عمليات تصفية منظمة ومدروسة، ليبدؤوا صراعا داخليا ضاريا بين أجنحتهم المختلفة، التي جعلت كثيرين منهم يفتحون أعينهم على ما كان يحجبه عن أعينهم انتماؤهم الحزبي، ألا وهو طائفية كثير من الضباط العلويين، الذين تشكلت منهم أغلبية “اللجنة العسكرية”: تنظيم الحزب الذي تولى إدارة اعضائه العسكريين بعد موافقة القيادة على حله، واشرف عن كثب على الانقلاب الداخلي الذي عرفته حركة الثامن من آذار، وأدى إلى إبعاد التيارين الناصري و”الانفصالي” عن الجيش واستيلائه باسم الحزب على السلطة.
خلال صراع البعثيين العسكريين بين عامي 1966 ( انقلاب الثاني والعشرين من شباط الذي أطاح بأمين الحافظ ) و1970 ( الذي أوصل حافظ الاسد إلى السلطة بمفرده واطاح بصلاح جديد)، برزت تيارات ثلاثة بين رفاق الأمس:
الأول: تزعمه المقدم محمد عمران، قال باستعادة الوحدة مع مصر، لأن البعث منقسم على نفسه وأضعف من أن يقود البلاد ويحقق وعوده في “الوحدة والحرية والاشتراكية”.
والثاني: تزعمه صلاح جديد قال بإجراء تحول هيكلي في بنية وبرنامج البعث يجعل منه حزبا ثوريا يقوم على أكتاف الكادحين والجماهير الشعبية، ويكون في خدمة هؤلاء في توجهه وغاياته.
والثالث: تزعمه حافظ الأسد، الذي كان قد قال في مؤتمر عقده البعث في حمص عام 1961: ” إن على الجيش إعادة تنظيم وهيكلة الحزب وتحويله الى حزب تابع للجيش، بما أن قيادة الحزب المدنية فرطت به، وحلته قبل ان تنقسم على نفسها وتبدو مفتقرة إلى مؤهلات قيادية حقيقية”.
بنى الأسد الأب عام 1970 فكرة إقامة نظام سلطوي، يعيد إنتاج المجتمع وفق حاجات السلطة ومصالحها ورؤيتها، يقوم على قدر أعلى من وحدتها وتعبئتها وتقويتها، وعلى استقلاليتها عن المجتمع وقدرتها على توجيهه والتحكم فيه وأخذه إلى حيث تريد.
هذا التيار هو الذي أرسى السلطة الجديدة على قواعد ما قبل مجتمعية تمثلت في أقليات كانت تمر في طور تلاش، فحولها بقوة وسياسة وأموال السلطة إلى طوائف مغلقة، جندها وعسكرها وحدثها أمنيا، ووضع كل واحدة منها في مواجهة بقية المجتمع، وكون منها جبهة أراد لها أن تشكل مجتمعة 35 % من الشعب، ثم استعاض عن وجودها، الذي بقي ضعيفا وهامشيا وغير جلي في الحياة العامة، بسياسة قامت على ضبط الأغلبية خصوصا، والفئات المتمردة على السلطة عموما، عبر إخضاعها لقمع منهجي ومستدام، أخرج السياسة من المجال العام وحصرها بالسلطة ممثلة بالاسد شخصيا. وطبق أخيرا خطوات متتابعة قامت على زحف طائفي متواصل على أجهزة الدولة ومفاصلها الحساسة كالإعلام والتربية والتعليم، عزز قبضة المؤسستين العسكرية والأمنية على المجتمع، الأمر الذي أثار مخاوف عامة لم توفر مواطنا، وحرك شك وريبة الأقليات في الأغلبية، وهواجس الأغلبية في الأقليات، التي ركز النظام الأسدي على قلبها إلى طوائف معادية للمجتمع، ومتعادية فيما بينها، مثلما ظهر بجلاء خلال أزمة 1978-1982 ، التي عرفت ب”أحداث حماه “، وتحولت خلالها مطالب شعبية بالحرية إلى فتنة طائفية أسهم فيها النظام من جانب والأخوان المسلمون من جانب آخر، وبينت كم هي سحيقة الهوة التي تفصل السلطة عن الشعب، والطوائف بعضها عن بعضها، وكم تقدم تطييف بنية السلطة.
… واليوم
ليست مخاوف الأقليات السورية من نتائج الثورة السورية الراهنة غير نتاج لهذه السياسة السلطوية التي استمرت طيلة أربعين عاما، منع خلالها السوريون من طرح أي موضوع يتصل ببنية مجتمعهم وعلاقاته وتشوهاته، كان مجرد ذكر الطوائف أو الطائفية أثناءها جريمة لا تغتفر ومسا خيانيا بوحدة الشعب والوطن، التي لم تتصل بوحدة المجتمع نفسه، بل بوحدة السوريين حول سلطة شخصية قيل إنها تمثل أعلى أشكال الوطنية، فليس ولا يمكن ان يكون غير خائن كل من يلمح ولو من بعيد إلى وجود مشكلة طائفية نشأت في ظلها أو بسبب سياساتها.
واليوم، يخاف أبناء أقليات كثر نتائج الثورة السورية . هذا ما علينا الإقرار به دون مواربة أو تدليس، أما اسبابه فترجع إلى عوامل أهمها:
– سياسات رسمية اعتمدت بعد انقلاب عام 1970، لتعزيز نظام الحكم داخليا عقب هزيمته الخارجية السريعة، أمام إسرائيل في حزيران من عام 1967، التي أظهرت كم هو ضعيف وكم تحتاج مفاصله إلى شد وإعادة هيكلة على الطريقة السوفيتية، وإلى إضفاء طابع شمولي عليه يجرده من زوائده القومية والاشتراكية وما بقي فيه من جوانب ليبرالية، كانت تعد بنظام تمثيلي وتعددية سياسية وحرية حزبية وسلطة دستورية.
من ذلك الحين فصاعدا، تركز العمل على اعادة إنتاج المجتمع بما يناسب حاجات وتوازنات واستقرار سلطة لم تتخل في الاقوال عن شعارات الوحدة واالحرية والاشتراكية، وتخلت في الافعال عن كل ما من شأنه تحقيق أي منها.
في الموضوع الذي يهمنا هنا، انصرف هذا الجهد الى توحيد وتوطيد السلطة وتذرير وإضعاف المجتمع باضعاف وحذف المشتركات الوطنية الجامعة، الليبرالية المنشأ، التي كانت تمحو على صعيدي الوعي والواقع الفوارق التمييزية بين مكونات المجتمع، وتعيد تحويل الأقليات القائمة منذ تاريخ بعيد إلى طوائف سلطة متلاحمة داخليا، عبر تزوير وتشويه وعيها ودمجها كجماعات قائمة بذاتها ومتماسكة داخليا وكبح ميلها إلى وقدرتها على الاندماج في مجتمعها، وقلبها من أقلية تتفاعل بإيجابية معه إلى كيانية مغلقة وخائفة تشعر انها لا تشبهه وتتعايش معه بالقسر، ولو كانت تستطيع لانفكت عنه أو لأعادت ترتيب علاقاتها به، لكونها مختلفة عنه في طبيعتها ومعتقداتها ولن تتمكن من نيل حقوقها فيه، مع أن مشكلتها كمنت دوما في افتقارها إلى الحرية اللازمة للتعبير عن نفسها، ناهيك عن القدرة عللى تحقيق رغبتها في الخروج منه، بكلام آخر : قبل عام 1970، لم تكن الأقليات تعتبر نفسها طوائف أو تكوينات قليلة الاندماج في مجتمعها، بعد هذا العام، بدأ تنظيمها وحقنها حقنا منهجيا ومركزا بوعي ذاتي أوهمها أنها تمثل جسما مختلفا ضمن جسدية عامة تتنكر لحقوقها وهويتها، وتحول بينها وبين ما تريد أن تكونه … الخ ، فهي مضطهدة ومهددة بمزيد من الاضطهاد ما دامت الاغلبية تهمشها، وتظلمها ، وترفض الإقرار بوجودها، دون ان يكون ثمة أمل في تغير وضعها او تحسنه. هكذا، تحول النزوع الطبيعي، الذي ينحو إلى دمج مكونات المجتمع في كل متجانس أو متشابه السمات والوظائف، إلى نزعة اسلامية طائفية تعادي الاقليات وتهمشها وتقصيها، وبدل أن يكون عملية تاريخية صحية، لعب النضال من اجل إقامة الدولة الوطنية الجامعة والمستقلة دورا مهما في تسريعها وتأصيلها، صار يصور رسميا باعتباره نزوعا الى اضطهاد الاقليات، وصار من الوطنية جعل المجتمع القائم ساحة لا بأس إن تفتّت مكوناتها واعدت نفسها لساعة الصدام.
ركز النظام على تحويل الأقليات إلى طوائف . وجعل منها كيانات سياسية وظفها ك” قاعدة ” وكحامل امني ومجتمعي خاص به ، وربطها بطرق سياسية ومصلحية مختلفة به، وفتح أمامها سبل الارتقاء في معارجه الداخلية والسيطرة على المجتمع ، وأطلق يدها في الفساد والخروج على القانون ، وطور تبايناتها الجزئية والمحلية وجعل منها تناقضات مجتمعية عقدها وفاقمها باضطراد ، بحيث شرعت تنتج هي نفسها المزيد من التناقضات وتبثها في قاع المجتمع، بينما أضفى طابعا سياسيا / سلطويا / طبقيا على مكونات تنتمي إليها، وضع مقدرات البلاد والعباد بين يديها، وعزز طابع طائفة السلطة المذهبية بما هي تكوين ما قبل مجتمعي، كبح ما استطاع بواسطته أي تطور اجتماعي وسياسي وثقافي جامع، وأعاق ما كان يتخلق من جوامع وميادين تفاعلية بينه وبين بقية مجتمعه، ومن مشتركات وطنية وفكرية وثقافية ومصالحية تواصلية وتكاملية.
بهذه السياسة الرسمية، التي أحلت الانتماءات والولاءات الدنيا محل الانتماءات الوطنية والولاءات الجامعة النابعة منها، وعملت بعد 1970 على جعل الأقليات طوائف، نجحت في فرض رؤيتها، فصارت الأغلبية الشعبية السنية تعتبر نفسها طائفة وتفكر في نفسها ودورها كما تفكر أقلية طائفية، وصار عقلها أقلوي، وتبنت قيما وطرق فهم لا تمت بصلة إلى ما تدأب نظم المواطنة والأغلبيات على تبنيه ونشره من قيم يغلب عليها الطابع أو الملمح الديموقراطي، واستندت مواقفها ونظراتها إلى أولوية جماعتها الخاصة في كل قول وفعل، وليس إلى أولوية الإنسان الفرد كمواطن دولة حر، لذلك لم تطالب، عندما كانت تعبر عن نفسها، بالمساواة بين المواطنين دون النظر إلى انتماءاتهم المذهبية والدينية، وفكرت بطريقة رأت في المجتمع طوائف متلاصقة، متنابذة، تقتضي العدالة أن تكون السلطة فيه لمن تتمتع بالعدد الأكبر بينها.
تطييف الأقليات وإشاعة الفكر الفئوي / المستند إلى معايير وقيم ووقائع متباينة الطابع، تؤدي غرضا رئيسا هو تقويض وحدة المجتمع ومشتركاته الجامعة والعليا، وإحلال انتماءات دنيا محلها لها دائما فعل تفريقي يمكن أن يتحول عند الضرورة إلى ممارسات تمزيقية، هذا ما فعلته سياسات السلطة السورية، التي عززت طابع الطوائف كتكوينات ما قبل مجتمعية صارت أسافين تخترق وتنهك جسد المجتمع، تؤدي وظائف معادية له.
في هذا السياق ايضا، أوجدت السلطة طائفة عابرة للطوائف، تحمل طابعا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وايديولوجيا، وحدثتها أمنيا، فأخضعت ،بعد عام 2000 ووصول الرئيس بشار الاسد إلى السلطة، جميع طوائف المجتمع لخططها ومآربها، بعد أن اختارت من بين منتسبيها العناصر والمكونات الضرورية لإعادة إنتاج وتقوية الحكم، الذي اطل من عل على كافة قطاعات المجتمع، وتلاعب بها، هذه السياسات، التي قامت في جوهرها على التمييز الشديد بين المواطنين، واعتمدت في تصنيفهم على العرق والمذهب، بدا أنها نجحت في فرض أمر واقع مستقر وآمن لحمته وسداه ما يلي:
– مجتمع سلطة متكامل ومكور في مواجهة مجتمع الناس، مجتمع الشعب، المفتت والتابع والمحروم من أبسط حقوقه والذي يفتقر إلى اي تعبير سياسي يمثله أو يستطيع مساعدته على الخروج من احتجازه القاتل، هذا المجتمع السلطوي لديه كل ما هو ضروري للتصرف باستقلالية عن الثاني، المقموع والمجبر على التسليم باستيلاء الاول على كل ما هو بحاجة إليه من عوائد عمله وثرواته.
– منع الطبقة الوسطى وشرائحها المتنوعة من ممارسة أي نشاط سياسي مستقل، ومن الاهتمام بالشأن العام بما هي شرائح منتجة للفكر وتاليا للتواصل المجتمعي، وحصر هذا النشاط في قيادة مجتمع السلطة، الذي تهدد الحرية توازنات القوى القائمة فيه وبينه وبين مجتمع الشعب، لذلك ألغاها وأحل محلها سياسات قمع وكبت وضبط أمني وغلبة عسكرية.
– طبيعة التفكير الأغلبي وما وصل إليه من تطرف مذهبي وديني جعله طائفيا، ومن نمط مغلق وعدواني مماثل لما اراد االنظام إنتاجه، فهو معاد بدوره لبقية أطراف المجتمع ويقوم على مسبقات ما تحت دينية أو إيمانية، بل ونافية للدين والإيمان، أحدثت بالفعل خوفا عميقا لدى مختلف أبناء المجتمع السوري، التي أوهم النظام قطاعات منها أن عليها خوض المعركة عينها التي يخوضها هو ، وأنه يدافع عنها من إبادة تهددها على الطريقة العراقية، فلا بد من أن تتحالف معه لأن ذلك أهون الشرور، وزاد من خوف الأقليات أن الأغلبية تتحدث عنها كطوائف، فالمسيحيون والعلويون طوائف وليسوا جزءا تكوينيا من الشعب، وهم ليسوا تماما من الأمة.
هذه القوى – التي تمثل التفكير الأغلبي – نجحت بعض الشيء في حرف الثورة عن المباديء الأولى التي نادت بها، كالمواطنة والحرية والدولة الديموقراطية وحكم القانون والنظام التمثيلي والمساواة والعدالة، وهي تخوض معركتها بصفتها طائفة غالبة تحارب طوائف وأقليات لا تستحق الرحمة، تحالفت مع حاكم ظالم وقاتل افرط في اضطهادها، دون أن تحتج هي عليه أو تتعاطف مع المظلومين، في علامة تؤكد أنها مثله ويجب أن تلقى مصيره. ومع أن جزءا لا يستهان به من رموز ومثقفي ونخب الأقليات يعادي النظام، وجزءا كبيرا من الأغلبية يواليه، بعد أن لعب دورا سياسيا واقتصاديا جديا لصالحه، فإن كثيرين من أتباع ما يسمى “التيار الديني” السوري يرفضون النظر إلى هؤلاء وأولئك بالعين التي ينظرون بها إلى غيرهم من المتعاونين مع السلطة، التي يقدم قسم مهم منهم المال لتمويل الشبيحة.
على عكس ما يعتقد غالبا، فإن الطائفة العلوية لم تقم يوما بقيادة السلطة أو باتخاذ قراراتها، بل كانت دوما أقرب إلى أن تكون أداة بيدها وخزانا بشريا تحصل منه على المادة البشرية الضرورة لمعاركها ضد مجتمعها، ولضبطه ومراقبته وإدامة رضوخه، بينما تتكون الأقلية الحاكمة من مسلمين علويين ومسلمين سنة ومسيحيين واسماعيليين ودروزا وعلمانيين وكفرة، ويرى السوريون فيها طائفة الفاسدين واللصوص والقتلة وكارهي الشعب، التي تتداخل وتتفاعل مع مزق من مختلف الطوائف والأقليات، وتجند جمهورا واسعا منها أوهمته أو أقنعته أنه مهدد ولا خيار له غير السير تحت قيادتها … إلى الموت الزؤام.
سياسات النظام خلال الأزمة
بنى النظام استراتيجيته على تحويل النضال المجتمعي والشعبي من أجل الحرية إلى اقتتال طائفي يشق المجتمع، ويحد من اندفاعته الثورية ويحول القوى الأمنية من طرف في القتال إلى جهة مسيطرة تتحكم بالمذابح بين الطوائف المتقاتلة. لم تترك قيادة النظام وسيلة إلا وجربتها كي تشق الشعب وتضعه في مواجهة بعضه البعض، كتسليم معتقلين من طائفة معينة إلى ابناء طائفة أخرى في قرية ما من قراها، مع أوامر مشددة بتعريضهم لتعذيب عنيف ومذل، بحيث تبقى آثاره ظاهرة عليهم لفترة طويلة.
كما ألبت وخوفت أبناء القرى السنية من جيرانهم المسيحيين أو العلويين أو الاسماعيليين وبالعكس، ووزعت السلاح مجانا على شباب صغار السن حرضتهم ضد جيرانهم المختلفين دينيا أو مذهبيا ، وشجعتهم على نصب المتاريس والحواجز لهم وقطع طرقهم وإهانتهم والاعتداء عليم وشتم دينهم وأنبيائهم ورسلهم … الخ . وقد جرب النظام في حمص ما كان يريده عبر إثارة النعرات االطائفية، لكنه فشل في دفع المواطنين إلى اقتتال مفتوح ومباشر، رغم ما بثه من إشاعات وارتكبه من فظاعات واستخدمه من عنف ووزعه من أكياس قمامة مليئة بجثث مقطعة لمواطنين علويين نثرها في المناطق المختلطة وبالعكس، وما نشره من فيديوهات تستفز مشاعر الشعب الدينية وكرامته الإنسانية.
لم تتحول الثورة الى اقتتال طائفي لاسباب أهمها أن السلطة احتوت مقومات طائفية كثيرة في بنيتها وأجهزتها، وأنها تتولى القتال المباشر ضد الشعب فلا مجال لاستقلال من اندمج فيها من قوى ومكونات طائفية عنها، ونزولها إلى القتال مباشرة عند القاع الاجتماعي.
وإذا كانت قد وقعت بالفعل أحداث طائفية هنا وهناك، فإن احداثا غير طائفية أنقذ خلالها العلويون السنة وبالعكس، وقعت أيضا في أماكن كثيرة شهدت صدامات مسلحة دامية بين النظام والمقاومة الشعبية، بينما لم يتعرض أي مواطن مسيحي للأذى بسبب دينه أو مذهبه، وإذا كان هناك مسيحيين قتلوا فلأنهم كانوا شبيحة أو مخبرين، وليس لأنهم مسيحيون.
هنا أيضا، ساعد المسيحيون إخوانهم العلويين والسنة في مناطق التماس، وساعدوهم في حالات كثيرة على النجاة من القتل الرسمي، ومع أن هناك انزياحا حقيقيا شهده الحراك الشعبي نحو التمذهب، فإن هتاف ” الله أكبر” ، أو شعار “يا الله ما لنا غيرك يا الله”، أو إطلاق اللحى، ليس دليلا على أن الثورة صارت إسلامية كما يحاول النظام وأحزاب الاسلام السياسي وبعض الإعلام إيهام العالم، فالقوى الأساسية الناشطة على الأرض تؤيد في أغلبيتها مطلب الحرية، وهي تؤمن بالشعب السوري الواحد، وتناهض الطائفية والتمييز بين المواطنين، وتريد دولة ديموقراطية ومستقلة بعد سقوط النظام، رغم ما تتعرض له من ضغوط المال السياسي وتعانيه من فقر ومحاولات عزل من الذين يستخدمونه . وليس قرار الجيش الحر بمنع الانتماء إلى الأحزاب ، بما فيها الدينية ، غير تحذير مبكر إلى من يحاول سرقة الثورة وتحويلها إلى فعل مذهبي.
والحل للنجاة من فخ الطائفية:
هناك واقع تاريخي ساعد النظام على الاستناد إلى التكوينات ما قبل المجتمعية خلال السنوات الأربعين الماضية، واعتمادها كحامل له ، بعد أن كان العقل الحزبي والسياسي يعتقد أنه حال تم تخطيها وليس لها غير أن تذوب في المجتمع، فليس من المجدي الوقوف عندها وتبني سياسات خاصة حيالها، مهمتها تخطيها.
أظهرت سياسات النظام كم كان هذا الموقف خاطئا، وكم اختزنت الطوائف من قدرات وطاقات يمكن استخدامها وتحديثها سلطويا، خاصة وأن السياسة التي سيطرت تاريخيا عندنا لم تعرف مفهوم المجتمع أو تعمل به، ولم تعرف مفهوم الفرد والطبقة والدولة والمواطنة والحرية والمساواة والعدالة بأي معنى حديث، وكانت بعيدة في ممارساتها وتصوراتها وموجهاتها عن مفهوم الإنسان وما يستتبعه وجوده في الشأن العام، الذي لم يكن معروفا بدوره، شأنه في ذلك شأن العمل العام … الخ.
أفاد النظام من هذا الفقر التاريخي ليجعل وجود الطوائف كوحدات سياسية تساند السلطة مسوغا عمليا ومفهوميا، عندما أدلج ما قام به على نحو بدا حديثا يسد فراغا سياسيا شرعيا، مأخوذا من أيديولوجيا ثورية شبه حديثة، قالت بتحديث السلطة في طور أول من الثورة كي تحدث المجتمع فيما بعد، وإذن، فإن دمج الطوائف في السلطة وتحديثها هو جزء من مشروع ثوري، وليس انتكاسا إلى حال ما قبل مجتمعية ولاغية للسياسة، وهي كذلك تحديث للقاع المجتمعي، الذي لا يكون تقدم بدونه، فهو إذن من مهام مرحلة الثورة الأولى والثانية : تحديث السلطة قبل تحديث المجتمع، مع انه افضى إلى ما سبق شرحه من تطورات.
هذه الحقائق تضع يدنا على ما يجب فعله لمواجهة هذه المعضلة المركبة، التي أثبتت خلال الأزمة الأخيرة أنها معقدة جدا، لأنها طيفت السلطة وسلطنت طائفتها، وأخذت بمرور الوقت شكل أجهزة عسكرية وأمنية وحزبية منتشرة في كل مكان وذات اذرع حديدية.
لا يجد بعض الإسلاميين اليوم طريقة يتصدون من خلالها للمشكلة غير تطمينات يقدمونها للأقليات عامة وللعلويين منهم خاصة، يتعهدون فيها بعدم الانتقام منهم بعد سقوط النظام، يظن هؤلاء أن تطميناتهم كافية لإقناع العلويين وغيرهم بالانفكاك عن النظام والانضمام إلى الثورة، بينما لا يثق هؤلاء بتطمينات جهة تضم عناصر وقوى تهددهم بالإبادة كنصيريين كفرة خانوا الإسلام والشعب.
ما الذي يؤكد أن إسلاميين يزدادون تطرفا وتعصبا سيلتزمون بتطميناتهم، إن هم خرجوا منتصرين أو مشاركين في الانتصار على النظام؟. لا شك في أنه لا توجد ضمانة كهذه وأن الضمانات الكلامية ليست كافية أو مقبولة، فالإسلاميون ليسوا جهة واحدة أو موحدة، بل هم جهات متخاصمة متعادية يكفر بعضها بعضا، فمن يضمن أنها لن تكفر العلويين والمسيحيين والدروز والإسماعيليين وغيرهم من أبناء الأقليات، الذين تتهمهم بالوقوف مع النظام وبخوض الحرب إلى جانبه، وتعلن من جانبها الحرب عليهم وتتوعدهم بالإبادة؟.
ثمة هنا مشكلة حقيقية، فالمعارضة الديموقراطية لم تعالج المشكلة الطائفية كمشكلة قائمة بذاتها، واكتفت بقبول عضوية من أراد الانتساب إليها من ابناء الطوائف وذم وهجاء الطوائف والطائفية، مع أنها كانت تشعر بوطأتهما الثقيلة عليها وعلى الحياة السياسية والعامة في البلاد، بينما أقام الإسلاميون أحزابا طائفية لا تقبل غير أهل السنة والجماعة، بذلك، افتقرت السياسات المناوئة للنظام إلى برامج عملية تمكنها من مواجهة المعضلة الطائفية الصعبة، بإشراك أبنائها كمواطنين في لجان وهيئات ومؤسسات سياسية ومجتمعية وثقافية واقتصادية مفتوحة وعابرة للطوائف، ذات طبيعة وطنية شاملة، تسهم هي نفسها بقسط وافر في تأسيسها وترسيها على ارضية المساواة في المواطنة والانفتاح، فتتمكن بواسطتها من المشاركة في صنع مستقبلها وتقرير مصير الوطن، ضمن عقد اجتماعي / سياسي هو جزء من نظام بديل لا يستطيع أحد الاستغناء عن وجودها ودورها فيه، أو إقصائها عنه، أو إخراجها من النسيج الوطني الذي أسهمت في إقامته من خلاله، فلا ضير في ظله إن بقيت ممثلة بكثرة في الجيش، ولا ضرر في بقائها ممسكة بمواقع أمنية مهمة، لأنها ستكون قد وضعت نفسها، كغيرها، في صف الثورة المعادي للنظام، فلا تحتاج عندئذ إلى تطمينات من أحد، ولا يكون أحد أعلى كعبا منها في الحراك الشعبي والمجتمعي، أو أكثر إخلاصا لدولة الحرية والديموقراطية العتيدة.
هذه الشراكة يجب أن تؤسس كضمانة للجميع، وكضمانة بأن سوريا ليست ذاهبة إلى طائفية أغلبية معادية لبقية طوائف السوريين، وأنها طوت صفحة الاستبداد السلطوي والطائفي والتفتت المجتمعي، الأولى المنحدرة من تاريخ سياسي طويل، والثانية المستعارة من نظام شمولي مات في كل مكان ولم تبق له بقايا في غير عدد من البلدان المنكوبة به، منها سوريا، التي لن تدخل التاريخ الحديث بغير الثورة التي تبنت قيم المواطنة والحرية والديموقراطية وحكم القانون والمساواة والعدالة، وتعهدت أن لا تفرق أو تميز بين مواطن وآخر بسبب الدين أو اللون أو الجنس أو العرق أو القومية أو الطبقة، وأن تكون لجميع مواطنيها بلا استثناء، لأن هذا هو الضمانة الكافية لقيام مجتمعية مدنية تنهض على المواطن الحر والمنتج، حامل الدولة والشأن العام، الذي يتعرف بالحرية ولا يتعرف بأي انتماء إلى غيرها أو يتعارض معها : طائفيا كان أم سياسيا أم طبقيا أم اتنيا أم قوميا.
معهد العربية للدراسات والتدريب