الأقليات والديمقراطية
د. كمال اللبواني
أصبح تباين التكوينات الاجتماعية هو الطاغي على سوق التداول السياسي اليوم ، ومسألة الديمقراطية قد أصبحت مقرونة بالأقليات ، في حين أن التاريخ يشير إلى العكس ، على الأقل منذ نهاية الدولة السلطانية العثمانية وحتى الآن ..
فمنذ ذلك التاريخ كان الاستبداد والفساد هو مشروع للأقليات على الدوام ، بدءاً من الحقبة الاستعمارية ، وبعدها من المشروع القومي العربي النهضوي الديكتاتوري ، الذي جاء بالأقليات للسلطة ومارس القمع والفساد بشكل موسع ، حتى حطم النسيج الاجتماعي وولد الثورات ، مرورا بشريكه المشروع الاشتراكي الفاشي الستاليني ، الذي تحول لمشروع افقار وسرقة وتصحر وتدمير للهوية ، وصولا للسلوك الأقلوي الذي سلكته الطائفة السنية عندما طرحت نفسها ضمن مشروع الإسلام السياسي ، وكأنها أقلية تبحث عن وجودها ، أو كردة فعل على تجربة مؤلمة انطبع بها القرن العربي المنصرم . أي أنه لم تكن الأقليات ولا العقل الأقلوي حاملا للمشروع الديمقراطي في يوم مضى ، ولن يكون في أيام قادمة.
من حيث المبدأ لا ينطبق مفهوم الأقليات على المكونات المجتمعية الطائفية والقومية ، فمفهوم الأقلية والأغلبية مفهوم سياسي يشمل نسبة وحصة كل تيار سياسي في مجالس التمثيل الوطني ، ولم يصمم للتعبير عن المكونات الاجتماعية المختلفة ، التي لا يفترض أن تتمثل كانقسامات سياسية إلا في دولة المحاصصة . التي يعتبر النموذج اللبناني ممثلا لها بجلاء ، والتي أصبحت بفشلها المريع عنوانا للديمقراطيات الفاشلة المنتظرة في العراق وسوريا وربما مصر وغيرها . وأنا فعلا أسأل نفسي عندما أعمل في السياسة كم أنا أمثل هويتي القومية وطائفتي الدينية ، وكم أمثل مصالحي وحاجاتي وقناعاتي وقيمي ، وعندما أشارك في صياغة البرامج السياسية أسأل كم أنا طائفي وفئوي وكم أنا وطني وانساني . وهو سؤال يجب أن نسأله لأنفسنا قبل أن ننتقل للنقاش في موضوع الأقليات والأكثرية بالطريقة الرديئة التي يطرح بها ، لندرك أن الموضوع مصطنع ومبالغ فيه ، وقد أقحم في السياسة عن عمد لعرقلة الديمقراطية وليس لخدمتها .
في الوطن السياسي ليس هناك أقلية دائمة ولا أغلبية دائمة ، أو ثابتة ، هذا يتناقض مع مفهوم المواطنة والمساواة ، والتداول ، ففي الدولة نظريا الكل متساو أمام القانون ، وله ذات القدر من الحقوق والواجبات ، والكل حر بما يخصه من هوية وقناعة وثقافة طالما أنها لم تهدد السلم الاجتماعي أو النظام العام ، الذي يستوجب تدخل القانون ، فدولة القانون هي الدولة السياسية ، وليس دولة الدين التي هي استبداد مقنع … والإسلام ترك السياسة والأمارة والأمر للشورى والتعاقد ، وكل دولة تحقق ذلك بالطرق المناسبة لزمانها وتطورها ، هي دولة اسلامية بمعنى التزامها بشرط الاسلام : وهو التعاقد الحر على اقامة سلطة القانون والعدالة ، التي تحرس العيش المشترك الآمن .
والطبيعي أن تطمئن الأغلبية للنظام الديمقراطي ، لا أن تقف ضده ، وتفكر بعقلية الأقلية ، يجب أن تكون هي الحامل الطبيعي للدمقرطة وهي الضامن لحقوق المكونات الأصغر ، كما كانت عبر التاريخ ، فالأقليات لم تستمر بوجودها عبر التاريخ ، من دون الرغبة المشتركة في العيش المشترك ،المضمون بقوة الأغلبية .
لكن الظلم والقتل يقع في جله اليوم في صفوف هذه (الأغلبية ) التي تتعرض لحرب ابادة وتهجير معلنة من قبل نظام طائفي أقلوي مستبد عميل لقوى خارجية ، كما تعرضت لاستبداد وافقار منذ عقود ، بل منذ نهاية الحقبة العثمانية . والثورة اليوم التي بدأت ثورة مثقفين من أجل الحقوق المدنية والحكم الرشيد ، سرعان ما حولها قمع النظام لحرب ، ولم يستمر في أتون هذه الحرب إلا (الأغلبية ) التي عانت الفقر والتهميش ، وتعاني خطر الابادة والتهجير ، وتتعرض للمجازر تلو المجازر ، في حين أن الأقليات برموزها الدينية والقومية ، نأت بعمومها حتى الآن عن إدانة ما يحصل من جرائم ( مع وجود أصوات وطنية مرتفعة فيها ) ، وراحت تتباكى على اضطهاد محتمل ، من الصعب أن يفهم هذا التباكي ، إلا كمساعدة للجاني وتبرير لاستمراره في جريمته .
أي أنه من دون موقف واضح ضد الجريمة التي يرتكبها النظام ، وبالاستمرار بقبول أن النظام يمثل الأقليات ضمنا ، فإن البلاد قادمة على حرب أهلية ضروس وحرب اقليمية أشد وأدهى ، فوجود من يؤيدون هذا النظام ، يستخدم لإعطائه الشرعية لإبادة من ثاروا ضده ، و لحمايته من العدالة . وهنا الجريمة الكبرى بحق الوطن التي ترتكبها الأقليات وهي بذلك ستكون أكبر الخاسرين . فالدولة لا تقوم على الجريمة بل على السلم المحمي بالعدالة والقانون . والمجرم مهما كانت شعبيته مكانه السجن ، والقصاص هو من يحمي صيغة السلم . والحصانة ضد العدالة بوابة للهمجية والوحشية . فالمعركة ليست كما صورتها اتفاقية جنيف بين طرفين :دولتين ، بل ضمن الشعب الواحد بين سلطة ومواطنين ، حيث لا مكان للعيش المشترك من دون العدالة .
والمجتمع الدولي غض النظر عن الاجرام والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب أساسا ضد الغالبية ، وتخلى عن مسؤوليته في حماية المدنيين ، وهو لم يمانع في الامعان في تدمير البلاد ، طالما أنه هو من سيعيد الإعمار بشركاته ومنتفعيه وبمن يرفعهم لقيادة المستقبل ، تحت عنوان مجلس أو إتلاف أو حكومة مؤقتة أو انتقالية ، المهم بالنسبة إليه أن تبقى سورية خاضعة لديكتاتور موالي ، أو إذا تعذر ذلك مرهونة اقتصاديا وماليا وبالتالي سياسيا لرغباته ومصالحه ، وما يجري من تدخلات دولية متحيزة وتوظيف لعملاء ممن هدب ودب ، يكشف حقيقة المواقف من الشعب السوري الذي يراد له أن يتشرذم ، وينقسم سياسيا كما هو متنوع تكوينيا ، ليصبح التنوع عنصر اعاقة ….
بدل أن يكون هذا التنوع عنصر إغناء ، فيما لو قامت الدولة على مفهوم المواطنة العادلة المبتعدة عن المحاصصة وعن العصبيات القومية والطائفية ، فالدولة السياسية ليس عملها تمثيل الطائفة ولا الهوية القومية ، بل صياغة المصالح الجمعية المشتركة للشعب الذي يتشارك الأرض عبر التاريخ ، وصيانة حقوق كل فرد فيه بطريقة عادلة . وهو الجواب الفعلي والعملي والوطني على موضوعة الأقليات والديمقراطية والاستقلال الوطني .. فهل وصلت الرسالة؟؟ … أتمنى ذلك !
كلنا شركاء