صفحات سورية

الأكراد بين “لا مركزيَّة” متعذَّرة ومواطَنة مُتجوهرة


جان عبدالله()

(إلى شورش درويش)

عزز التسلُّط السوري من أزمة اللاثقة الأهلية بين المكونات الأصليَّة، وجعل المُتاركة المتبادلة بين هذه الجماعات الخامة أكبر من قطيعتها النفسيَّة مع الاستبداد الفادح، المُسيطر على كافة مفاصل النقاش الاجتماعي، ليُظهِر نفسهُ كمصدرٍ وحيدٍ للتماسك الوطني. لذلك فإن الحراك السوري المتصاعد أظهرَ كم أن البنية النسيجيِّة المجتمعيِّة السوريِّة منتفخة ومُتفسِّخة إلى وحداتٍ ثابتةٍ، تفضّل أرومة الدم على الاندماج في المتحد الوطني الفعَّال. وهذه حقيقة يجب أن تقال وذلكَ بعيداً عن المقولات الإنشائيَّة والخطابيَّة التي تحتفل بـ”وعي الشعب السوري العظيم”، والمهووسة بنرجسية وطنية متعالية تنكر احتمال اندلاع حرب أهليَّة في سوريا.

وعلى غرار ذلك، دأبَ البعثُ السوري على جوهرةِ الفارق بين الهويَّتين العربيَّة والكرديَّة، وعلى رسم الهويَّتين كونهما نسقين متوازيين لا يلتقيان، وأسَّس مجموعةً مركزيَِّة من التقاليد الضاغطة والحاجبة والعازلة على الأكراد، وجعلَ من هويَّة الأكثريَّة العربيَّة ضاغطة قاهرة متسلِّطة، وهويَّة الأقليَّة الكرديَّة راضخة مقهورة مغلوبة. ظهرَ ذلك بشكل جليٍّ عند تفجُّر الحراك السوري، حيثُ وجد الصوت الكردي، الأوطَأ المستكين والباطني المسحوق، في الحدث المندلع، قناةً لتصريف رغبةٍ كرديَّّة حارِقة في إظهار تميُّز قومي متورّم في اللاشعور، الذي لطالما أصيب بجروح غائرة في الصميم. وهذا طبيعي، لأن القمع المكثَّف ضد فئةٍ أهليّة معيِّنة سيولِّد احتجاجاً اعتراضيّاً مصطبغاً بثقافة تلك الفئة لحظة ثقبِ كيس الحنق المضغوط بإبرة التغيير.

وبموازاة الانخراط الكردي الحذر في الانتفاضة السورية، تأسَّس “المجلس الوطني الكردي” وأطلق بياناً ختاميّاً طالب فيه بشكل صريح بـ”اللامركزية السياسية”. تفحصٌ دقيق سيُظهِر أنه حتى كَسرُ الدولة المركزيَّة بمعولِ”اللامركزيَّة السياسيَّة” لم يعد حلاً ناجعاً لرأبِ صدعِ التشقُّق الوطني السوري. وأكثرُ الموانع الموضوعيَّة لفاعليّة ذلك هو الازدياد المطّرد لتجاور العناصر الوطنية في المدن الكبيرة عموماً والعاصمة دمشق تحديداً، حيث يندرُ إيجاد محافظة سورية واحدة متجانسة من حيث اللغة والثقافة والدين. يصحُّ هذا القول في الحالة الكرديِّة حيث تنتشر نسبةٌ كبيرة من الأكراد في مدينتي حلب ودمشق (لا توجد إحصاءات رسميّة ولكن تخمينات متعددة تقدر أن هناك أكثر من 400 ألف كردي في مدينة حلب وأكثر من 300 ألف كردي في دمشق وريفها )، ولأسبقيَّة الواقع على النّص فإن أيَّة “لا مركزية سياسية” مطروحة لا تستطيع أن تعالج هذا الإشكال الواقعي المُعطِّل، كون المناطق الكردية السورية جغرافياً هي منفصلة ومبعثرة وليست متصلة (توزع المدن الكردية التالية:القامشلي وعفرين وعين العرب)،علماً أنه حتى مدينة القامشلي ذات الغالبيِّة الكرديِّة نسبيِّاً، ليست مستقلَّة اجتماعيَّاً واقتصاديَّاً، وهذه كلها عوائق أمام الاتصال الإداري .

وبالمقابل فإن قطاعاً واسعاً من المعارضة العربية (خصوصاً القوميَّّة الناصريَّة والدينيَّة الإسلاميَّة) تريدُ اجتثاثاً وانتشالاً للكردي من “أسر انتمائهِ الجماعي على نحو إرادي عاجل، لا تاريخي متدرج. وذلك من دون أي تمهيد سياسي أو اقتصادي، وتشرُّب عميق لـ”ثقافة المواطنة” في البنية المجتمعية-الثقافية، أي التعامل مع الكردي كمجرَّد سياسي متحرر من ثقلِ الهوية. مع أن المعارضة العربية نفسها مُتخمَة بإملاءات الهوية ورازحة تحت سطوة الأيديولوجيا. وهذا ولَّد خوفاً أقلوياً كردياً من الاستخدام الأداتي والانتهازي لمفهوم مواطنة، كأن تُتخذ كـ”أيديولوجيا” تبرير” من الأكثريَّة العربية لطمس التضاريس الثقافية في الهويات الأقلوية الفرعية، بمعنى آخر، إلحاق الآخر الكردي الأقلوي بالذات الثقافية العددية العربية الكبرى سياسياً.

انطلاقاً من ذلك فإنَّ أية مواطنة مطروحة يجب أن تراعي هذا الانتقال المتدرِّج البطيء للفرد من الحاضنة الأهليَّة البدئيَّة (الانتماء الجمعي) إلى الدولة الدستوريَّة الحديثة (الانتماء الفردي)، وتحديداً من خلال خلق التوازن بين نزعتين على حد تعبير المفكر جورج طرابيشي (كتاب”هرطقات” وذلك بعدما تجرأنا على استبدال مفهوم الديمقراطية بفهوم المواطنة): “نزعة مساواتيَّة متطرِّفة حربَتُها عقلانيِّة كونيِّة مجرَّدة تريد تدمير كافَّة الفروق الثقافيَّة، مشذِّبة الخصوصيَّات العينيِّة التي تشكِّل ثقلاً خلاقاً للسلطة المركزيِّة، ونزعة ثقافيِّة خصوصيِّة نزَّاعة بتطرف إلى احترام الأقليّات لدرجة تصديع سلطة المركز”، وتصعيد كُسور المجتمع الأهلي إلى منصة السياسة.

احترام الفروق يجب ألا يعزّز التشققات الاجتماعية (مُحاصصة طائفيّة مثلاً)، وبالتالي تشكيل هويَّات جمعيَّة مقفلة تعرِّف وتعبِّئ نفسها وجدانياً بالضد من الآخر. بلغة أخرى، يجب أن تخفّف هذه المواطنة الفروق العميقة بين الفرد كمقولةٍ سياسيَّة دستوريَّة والفرد كمقولةٍ طبقيّة اقتصاديّة واجتماعيّة. وبناءً على ذلك، فإن أي مواطنة تأخذ البنية السياسية الطبقيّة الفئوية بعين الاعتبار، فإنها ستشدّ وترخي حسب تشابك المصالح في الميزان الداخلي.

في أوطان مليئة بعناصر متنابذة ومخترقة بخطوط فصل عمودية في العمق، فإن عمليّة بناء الدولة-الأمّة (توزيع عادل للثروة، مشاركة فاعلة لكل المكوّنات الأهليَّة في المؤسَّسات، واحتكارُ العنف الشرعي من قبل الدولة) هي متداخلة بشكل معطل وشائكة، مما يتطلب رغبة جدية وأكيدة من كل المكوِّنات المجتمعيَّة في التقليل من الفوارق والمزاوجة بين الممكنات وإنشاء قاعدة تواصل نظيفة وصافية وموضوعيَّة لبناء وطن مستقرّ تكون فيه الفوارق الأهليَّة حبيسةَ القاع الاجتماعي ولا تتبلور على شكل وحدات سياسيَّة ثابتة ومفكِّكة للدولة(العراق ولبنان نماذج حيَّة)، وهذا ما يتطلب حواراً جديّاً وعميقاً بين الأطراف الكرديّة والعربية .

()كاتب سوري

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى