صفحات العالم

الألم السوري العظيم

 


الياس خوري

-1- هل الهدف من المجزرة المروعة في سورية تعويدنا على الموت، عبر تجريد صورة الضحية من الألم؟

لا اريد ان اكتب في السياسة، فما يجري اليوم هو ما قبل السياسة وما يتجاوز كل نقاش حول مستقبل النظام او قصة الممانعة او الاصلاح. ما يجري هو امتهان لكرامة الضحية واستهانة بالألم وتحطيم لصورة الانسان فينا.

وصلت السياسة الى الحضيض، وفي الحضيض تتصرف السلطة كوحش كاسر، تخيف وتخاف ممن اخافتهم، تقتل وتنتحر ناحرة معها الوطن، ومحطمة في طريقها كل القيم التي تجعل من الحياة قابلة لأن تعاش.

لا ارى اليوم سوى الهول والخراب، فالدم يغطي العيون، والموت ينتشر في كل مكان، وآلة القمع تطحن كل شيء.

انه وقت للتأمل في هذا الانحدار الذي وصلت اليه السلطة، وهي تستبيح كل شيء، تزدري الضحايا وتزدري نفسها، تتجبّر في تصاغرها، وتعتلي موج الدم المسفوك وهي تتغرغر بالجريمة.

هنا يقع السؤال الكبير الذي طرحته الثورات العربية. انه سؤال التراب، سؤال اول الأشياء او آخرها، سؤال الشهداء للموت، وسؤال الموتى للأحياء. سؤال المعنى الذي ابتذلته انظمة الاستبداد خلال حكمها الطويل قبل ان تترنح المعاني تحت احذية القتلة.

-2-

يشعر المرء وهو يشاهد ما يجري انه مكشوف امام سيل صور القتلى. ما يجري مجزرة صريحة لا التباس فيها. اطفال يشوهون بعد او قبل قتلهم، شبان يهانون قبل او بعد قتلهم، رصاص يتفجر في الأجساد، وقتلة يحتلون الوقت كي يقتلوا الوقت.

دبابات بلا عيون، وعيون مغمضة على الموت، وسماء ثقيلة كالرصاص، وبيوت تئن في فراغ النهب، وصراخ.

نغمض عيوننا كي ننام فنسمع صوت عويل يأتي من بعيد قلوبنا، ويضربنا حزن ينبثق من اعماق تقع تحت اعماقنا، ونذهب الى شيء يشبه ذهول الموتى لحظة موتهم.

-3-

كيف يستطيع النظام الاستمرار في لعبة سفك الدماء من دون اي رادع؟ اين وكيف ولماذا تبلّد الاحساس الانساني، بحيث سادت غريزة الدم التي اعتلت عرش الغرائز لتصير المحرّك الوحيد للاداء السلطوي؟

لا يصاب المستبد بالعماء فقط، بل يصاب بالصمم ايضا. يصير كل احد كي يكون كأنه لا احد. لا يرى سوى صورته، حوله الفراغ الذي يمتلىء به. يتملّكه شعور بأنه وحده السيد الذي لا يحتاج حقا او شرعية، لأنه حق مطلق. اطلاقيته آتية من قوته، وقوته مستمدة من خوف الآخرين.

خائف يخيف، وسيد يسوده الشعور بأنه يجلس فوق الناس، لأنه هو الانسان الوحيد، اما من حوله وتحته فهم عبيد ارادته ووجودهم مدين له وحده.

المستبد عُظامي لا يسمع، ومتأله لا يرى، ووحش لا يشبع ولا يرتوي.

لذا كل ديكتاتور محكوم بهستيريا السلطة وجنون العظمة، والخوف من كل شيء.

هذه المشاعر والرغبات تتبناها عناصر الآلة القمعية من ادناها الى اعلاها. الشبّيح ايضا مخيف وخائف. يستثمر الخوف في التخويف، يتسلّط على الاجساد والارواح، يقتل الناس بروحية الصيّاد الذي ينتشي بدم الفريسة، ويسكر بانحناءة موتها. انه المستبد الصغير الذي يدوس الوجوه والاعناق، ويشعر بتعب المنتصر ولذة المغتصب. وفوقه يأتي ‘السيد’ الذي يدوسه بحذائه، فيما نرى حذاء من هو ‘اسْيَدَ’ منه فوق رأسه، وهكذا تعلو الأحذية فوق الرؤوس مشكلة هرما للقمع والمذلة والهتك.

-4-

لم تبدأ الاستباحة مع الثورة السورية الكبرى التي انطلقت منذ ستة اشهر، ولا تزال مستمرة. الثورة جاءت كرد فعل متأخر على نظام الاستباحة الذي بدأ منذ اربعة عقود، وكان السوريات والسوريون ضحيته الدائمة.

الاستباحة نظام استعار من المماليك والانكشارية العثمانية عقلية الافتراق عن المجتمع كوسيلة لسحقه، ومن الانظمة التوتاليتارية الادعاء بأن الديكتاتورية هي وسيلة للتقدم الاجتماعي، ومن الايديولوجية القومية الكلامولوجيا عن الصمود في مواجهة العدو الاسرائيلي.

وكان حصاد اربعة عقود مروعا، انتهت الجمهورية الى جمهورية وراثية، وكان شعار التقدم عنوانا لاستشراء التخلف، وصار الكلام عن العدو وسيلة لتأبيد الاحتلال.

انتهى الوطن عندما قُتل المواطن، وتفكك المجتمع عندما صار القمع العاري وسيلة الضبط الاجتماعي الوحيدة، وصارت المدن والقرى سجونا مسيجة بالخوف والرهبة والشعور باللامعنى.

الاستباحة صارت القاعدة، وتحول النظام القائم الى حفلة تنكرية للموت، حيث احتلت المافيا العسكرية/الاقتصادية كل الأمكنة، وتحوّل الحكم الى شأن عائلي داخلي، وصارت العائلة الحاكمة بديلا من الوطن.

-5-

كسرت الثورة السورية الكبرى ابواب الألم، هذه هي الفضيلة الكبرى لسيل المظاهرات المصطبغة بدماء الشهداء والضحايا. قرع السوريات والسوريون بأيديهم العارية جدار السجن الكبير، وارتفع صراخهم بالتحدي. لا شيء يردعهم، لا الرصاص ولا السجن، كأننا امام هذا النوع من الأعاجيب التي تصنعها الشعوب حين تقرر ان تروّض التاريخ.

ستة اشهر والشعب يقرع، والدم يملأ الشوارع، وصوت الضحايا يملأ سماء المشرق العربي.

ستة اشهر والسوريات والسوريون يرسمون افقا انسانياً عنوانه الوحيد هو كرامة الفرد وحق الشعب في الحرية.

ستة اشهر والشباب يذهبون الى موتهم بأقدام ثابتة ووجوه مضيئة، كأنهم اضاحي الحرية، يقدّسون تراب الوطن بدمائهم، ويرسمون افق العرب بارادتهم وآلامهم واوجاع الروح التي تخرج من اناملهم التي جمّدها الموت.

ستة اشهر وجدران السجن تتفتت تحت صيحاتهم، لكن آلة القتل العمياء تزداد عماء ووحشية وتوغلا في الدم والقتل والاستباحة.

الى هذا الألم العظيم الذي ينبثق من ارادة شعب يصنع الحياة، تنحني العرب وهي تكتشف من جديد ان الشام هي قلبها النابض بالحرية، وان هذا الدم السوري الكثير يفتدي كرامة الانسان فينا ويستعيد الأوطان من جوف حوت الاستبداد.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى