الأمة وفلاحوها/ بارثا شاترجي
ترجمة: كرم نشار
إذا كان راناجيت غوها هو الأب المؤسس لمجموعة دراسات التابعين الهندية، فإن بارثا شاترجي هو بلا شكّ المُنظِّر السياسي الذي أخرجَ المجموعة أولاً من نطاق البحث الضيق في حركات التمرد الفلاحي الهندية، وجَعَلَها جزءاً أساسياً من الحركة الفكرية العالمية الهادفة إلى نقد الحداثة من موقع «بوست كولونيالي».
فيما بعد، سيبدو هذا التحول كمنعطفٍ خطير جعل كثيراً من أعضاء المجموعة الأوائل ينفصلون عنها، ويتحولون إلى بعض أكثر نقادها شراسةً. لكن خلال عقد الثمانينات التأسيسي، والذي شهد ظهور كتاب شاترجي الذائع الصيت الفكر القومي والعالم المستعمَر، لم يكن هناك من نقلةٍ فجائية خاصة، ولا بدا الانفتاح على أفكار ميشال فوكو وإدوارد سعيد كانقلابٍ على أنطونيو غرامشي. وفي الواقع، استطاع شاترجي في كتابه ذلك توجيه نقدٍ مزدوج للفكر القومي الهندي ولحقل الدراسات الغربية المعنية بالمسآلة القومية، من خلال توليفه الخاص لأفكار غرامشي، فوكو، وسعيد معاً.
شاترجي المولود عام 1947 كان قد بدأ حياته الأكاديمية كمتخصصٍ في العلاقات الدولية، ثم انتقل تحت تأثير غوها إلى البحث في التاريخ الاجتماعي للبنغال خلال الحقبة الاستعمارية. منذ ذلك الحين، بدأ بالمزاوجة بين النظرية الاجتماعية الماركسية ومفاهيم فوكو عن القوة، ونظّر لمفهوم «الجماعة الأهلية» أو (community) بوصفه المبدأ الأخلاقي الناظم لسياسة العموم، أو الفئات التابعة من الناس. لكن النتيجة الأساسية التي وصل إليها غوها وتلاميذه خلال تلك الفترة، وهي فشل النخبة الهندية في فرض هيمنتها الفكرية على فئات التابعين، دفعت شاترجي قبل أيّ باحثٍ آخر إلى الانتقال من البحث في التاريخ الاجتماعي لتلك الفئات، إلى تحليل بنية الخطاب القومي الهندي كنموذج للخطاب القومي «العالم – ثالثي» وأزمته بشكل عام. هذا الاهتمام المتجدد بالبنى الفكرية والإيديولوجية ظهر في وقتٍ كان العالم العربي أيضاً يشهد اهتماماً جديداً بالتحليل الثقافي، لكن خلاصات شاترجي كانت في نهاية المطاف أشبه بالنقيض المباشر لخلاصات الثقافويين العرب.
فبدلاً من لوم الفكر القومي الحديث في المستعمرات على فشله في إنجاز الحداثة والعقلنة والتقدم، كما الكثير من ليبراليي وماركسيي العالم العربي، رأى شاترجي أن مأساة هذا الفكر تكمن تحديداً في حداثته وانحباسه ضمن الأطر الفكرية «العقلانية» المنبثقة عن فلسفة الأنوار. لكنه وعلى عكس دعاة «الأصالة» أيضاً، لم يدعو إلى العودة إلى هوية «تراثية» طاهرة، صاغتها هي الأخرى نُخَبٌ حديثةٌ مضادة. ذلك لأن شاترجي، على عكس الثقافويين العرب من حداثيين وتراثيين، لا يتخلى في نقده الثقافي أبداً عن التحليل الطبقي، وهو عندما ينتقد حداثة الدولة الكولونيالية والبوست كولونيالية، ويجادل في قصر نظر العلوم الاجتماعية الغربية، يفعل ذلك من موقع تعامل هذه الدولة ومقاربة تلك العلوم لفقراء العالم الثالث تحديداً، وثقافاتهم المحلية المتنوعة. لا نتحدث هنا إذن عن القوميات والأمم، ولا عن الإثنيات والأديان في امتدادتها الجغرافية الواسعة ومشاريعها السياسية الحديثة، بل عن الحياة في مستوياتها الصغرى، في القرى والبلدات والأرياف، في أحياء المدن القديمة كما في الضواحي الشعبية. آلا تتآمر الدولة القومية ونُخَبها من تكنوقراط وسياسيين على هذه المجتمعات لتسلبها فعاليتها السياسية باسم التقدم والعصرنة؟ ألا تستند العلوم الاجتماعية كلها إلى بنيانٍ فكري ينفي العقل عن هذه التركيبات الاجتماعية-الثقافية، ويحيلها إلى عالم المستحاثات «ما-قبل الطبقية» أو «ما-قبل الوطنية»، المكبَّلة حسب أدبيات «العقلانيين» بالأوهام والأساطير «الرجعية»؟
بعد سبع سنوات من صدور «الفكر القومي والعالم المستعمر»، سيعود شاترجي إلى هذه الأسئلة في كتابٍ ثانٍ بعنوان الأمة وشظاياها (the Nation and its Fragments)، وهنا سيحاول أن يكون أكثر إنصافاً أو توازناً مع النخب القومية الهندية. لذلك سيجادل أن هذه الأخيرة في صراعها مع الاستعمار، حاولت أن تخلق مساحاتٍ لا ينطبق عليها المنطق التحديثي الأوروبي، أطلق عليها شاترجي اسم «الفضاء الروحي»، كالدين والعائلة والمرأة والفلاحين. لكنها لا تلبث أن تُخضِع هذه المساحات لتعريفها الفوقي هي للأمة وحقيقتها، بما يعني من إسكاتٍ للأصوات المهمشة والمختلفة. هذا هو تناقض الحداثة القومية الأساسي في العالم الثالث: محاولةٌ للتحرر من السيطرة الاستعمارية تنتج دولة تتعامل مع سواد الناس بالمنطق الاستعماري نفسه، منطق الدولة-الأمة الفوقي والأحادي والمتحالف مع الرأسمال ضد «المجتمع الأهلي».
النص أدناه، هو فصلٌ من هذا الكتاب، وفيه يعيد شاترجي بسط قضية الفلاحين في مواجهة الدولة القومية، ويحاول من خلال هذه القضية تلخيص أطروحات مجموعة دراسات التابعين بشكل عام، وسبر أفق علوم اجتماعية تفهم الفئات التابعة حسب شروط تشكلها الذاتية. لذلك سيتحدث عن تاريخ «هندي» للنضال الفلاحي، مختلفٍ عن تاريخ النضال الفلاحي «في الهند». الثاني لا يزال حبيسَ المقارنات مع السردية الأوروبية المركزية والمنطق التنويري التحديثي، أمّا الأول فهو المعني بسبر المادة الأرشيفية والانثربولوجية الهائلة الموجودة عن مجتمعات الفلاحين بعيداً عن كل تلك المقارنات. الهدف من هذا كما يقول: ليس «إكمال» التاريخ ما قبل الاستعماري، هذا ليس فقط أحفوريٌ وطوباوي، بل من الرجعية مجرد التظاهر بإمكانيته. المهمة هنا هي تأسيس وعينا التاريخي على أشكال التطور الاجتماعي النابعة داخلياً عبر التاريخ الهندي، وأن ننخرط من هذا الموقع في عملية صراعٍ مع تجربتنا الاستعمارية، محاولين تجاوزها من خلال تملُّكها حسب شرطنا الخاص.
*****
الدولة الحديثة والفلاحون
لطالما كانت العلاقة بين الدولة الحديثة والفلاحين علاقة غامضة ومليئة بالتوتر، ففي أوروبا الغربية، تصاحب تأسيس نظام حديثٍ للقوة مع انقراض الفلاحين. حتى في فرنسا، حيث صمدوا كجزءٍ عريض من السكان خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ارتبط اسم الفلاحين بظواهر سياسية «شاذة» مثل البونابرتية، وكان يجب ترويضهم بشكل ممنهج ليصبحوا «فرنسيين» بالمعنى الجمهوري للكلمة. هيغل، كما نعرف، خصص موقعاً غامضاً لطبقة الفلاحين، «الطبقة العريضة» في المجتمع المدني: فهي جزءٌ من البنية الطبقية التي أنتجها «نظام الحاجات»، لكن حياتها الأخلاقية كانت ذات طبيعة «مباشرة» فقط. حتى في الحالات التي اعتمدت الزراعة فيها على «مناهج أنتجها التفكير العميق، كما في المصنع»، لم يرَ هيغل أعضاء تلك الطبقة إلا كمتلقين سلبيين لِما يُعطى لهم. الطبقة الزراعية لا تملك الفرصة «لتفكر بنفسها»، وكانت «تميل للخضوع». في الشرق الروسي، بقي الفلاحون طيلة نصف قرنٍ موضوع جدلٍ بين الشعبويين والماركسيين تمحور حول دورهم في الثورة البلشفية. هذا الجدل عكس السجال الأوسع والمتجسد بأشكال مختلفة في كل أنحاء أوروبا، بين دعاة التحديث والعصرنة الذين اعتبروا الفلاحين تجسيداً لكل ماهو متخلف، وبين نُقَّاد الحداثة من الرومنطيقيين خصوصاً، الذين رأوا في الفلاح جميع الفضائل المهددة بالانقراض كالبساطة والطبيعية والأصالة الثقافية. في النهاية، حُسم الأمر في روسيا عن طريق تحطيم الفلاحين كلياً من خلال برامج الزراعة الجماعية في عقد الثلاثينات.
أما في مجتمعات الشرق المُستعمَر الزراعية، تحوَّل الفلاحون إلى تجسيدٍ معنوي لكل الإفتراضات الثقافية التي جعلت من هذه المجتمعات غير قادرة على الحكم الذاتي الحديث، وبررت بالتالي سلطوية الحكم الإستعماري الغربي الأبوية. في الهند، نظر العقل الإستعماري إلى الفلاحين الهنود على أنهم بسطاء، جهلة، عرضة للاستغلال من الملاكين والتجار والمرابين، يحترمون السلطة ويشعرون بالإمتنان للحكام الذين يرعونهم ويحمونهم، لكنهم في الوقت نفسه مزاجيون، غيبيون، ومتعصبون، من السهل تجييشهم من قبل العناصر المشاغبة من النخبة الهندية، الذين أرادوا استغلال الفلاحين لمآربهم السياسية الضيقة. الافتراضات نفسها حكمت نظرة القوميين الهنود إلى الفلاحين، فبالنسبة لهم أيضاً كان الفلاح بسيطاً وجاهلاً، غير واعٍ لحقيقة أن فقرهُ كان نتيجة طبيعة الحكم الاستعماري الاستغلالية، ولهذا فهو بحاجة إلى أن يتمَّ إرشاده إلى وعيٍ جديد، أن تتم قيادته إلى العمل السياسي المؤثر من خلال منظمات العمل الوطني. تلك كانت مهمةً ضرورية لكي تتخذ الحركة الوطنية شكلاً جماهيرياً، لكنها كانت أيضاً مهمة خطرة وصعبة لأن جهل الفلاح ومزاجيته قد تحرفها عن هدفها. في سعيهم إذن نحو أهدافهم السياسية المتناقضة، والمتموضعة مع ذلك ضمن السياق التاريخي للدولة الحديثة ذاته، نظرت السياسات الإستعمارية والقومية إلى الفلاحين كجزء من استراتيجيتهم، يجب العمل عليه، التحكم به، واستيعابه ضمن بنى سلطة الدولة.
لكن ما الذي يخبرنا به تاريخ النضال ضد الإستعمار في الهند عن العلاقة بين الأمة والفلاحين؟ من الواضح لنا الآن أنه، وعلى عكس ادعاءات التأريخ الإستعماري والقومي، لا تستطيع المصالح الفئوية لمجموعات النخبة الهندية ولا جهود قيادة حزب المؤتمر لبناء وعيٍ قومي شامل وجماهيري، أن تشرح ديناميات انخراط الفلاحين في الحركات المناهضة للاستعمار. فلدينا الآن عدة دراسات منشورة خلال السبعينات وأوائل الثمانينات عن مسار حركة حزب المؤتمر بين الفلاحين في أماكن متعددة من الهند، تُظهِر بشكلٍ واضحٍ أو مُبطَّن وجود بنية ثنائية الطابع في الحركة القومية الجماهيرية. مجالان للسياسة اجتمعا في هذه الحركة. الأول شمل الأحزاب والمؤسسات السياسية المنتظمة بشكل رسمي، والتي تحركت ضمن أشكال العملية المؤسساتية للدولة البرجوازية التي كان الحكم الإستعماري قد أدخلها إلى البلاد، وسَعَت من خلال قدرتها على تمثيل البلاد إلى استبدال الحكم الإجنبي بدولة-أمة برجوازية. أما المجال الثاني فاشتمل على العمل السياسي الفلاحي، وفيه لم تتطابق معتقدات وأفعال الفلاحين مع خريطة «المصالح» و«التحالفات» التي شكَّلت عالم السياسية البرجوازية التمثيلية. من وجهة نظر المجال الأول، كان المجال الثاني مساحةً «عفوية»… هذا لم يكن إلا اعترافاً في الحقيقة أن محددات العمل السياسي الفلاحي بقيت عصيةً على فهم السياسيين البرجوازيين.
كشفت هذه الدراسات تحديداً جانبين أساسين من الحركة القومية الجماهيرية. الأول، أن التقاء مجالي السياسة لم يفضِ إلى حلٍّ للتناقض بينهما. كان هناك بلا شكٍّ نوع من التشارك بينهما، بحيث أن تنظيم وإيديولوجيا وبرنامج المجال السياسي النخبوي، تحولت بشكلٍ جذري بعد أن دخل إليها عنصر الجماهيرية الفلاحية، تماماً كما أن الفلاحين باتوا واعين لعالمٍ جديد تماماً من المواضيع والمصطلحات والقيادات السياسية وبرامج العمل. لكن اجتماع هذين المجالين بحد ذاته أخذ شكلاً افترض بقائهم مختلفين عن بعضهما البعض. فبينما سعت النخبة القومية إلى تجييش الفلاحين كقوةٍ معادية للإستعمار ضمن مشروعها لبناء دولة-أمة، بقيت شديدة الحذر تجاه نتائج التمرد بين الفلاحين، غير واثقة في جهلهم المفترض ووعيهم المتخلف، وحريصة على إبقاء مشاركتهم محصورةً بأشكال السياسة البرجوازية التمثيلية، والتي يتم اعتبار الفلاحين من خلالها جزءاً من الأمة دون أن يقتربوا من مؤسسات الدولة. ومن الجانب المقابل، وفي حين أن الفلاحين باتوا واعين بعالم السياسة الوطني، فإنهم لم يفهموه من خلال مصطلحات وخطاب السياسة البرجوازية الحديثة، بل من خلال «ترجمته» إلى شيفرتهم الخاصة، بحيث خضعت اللغة القومية إلى تغييرٍ جذري في المعنى في مجال الفلاحين السياسي. التقاء المجالين إذن لم يفضِ إلى استيعاب المجال الأول للثاني وإخضاعه ضمن مجالٍ متجانسٍ واحد، الوحدة بقيت مجتزأة ومليئةً بالتوتر.
الجانب الهام الثاني من التقاء هذين المجالين، كان عدم إفضائه إلى تطورٍ خطي في وعي الفلاحين نحو إحساس جديد بالإنتماء الوطني. الفلاحون في أنحاء مختلفة من الهند باتوا واعين، بالطبع بدرجاتٍ متفاوتة، لوقائع السياسة الوطنية، لكن مشاركتهم بها كانت مطبوعةً دائماً بفواصل وتقلبات جذرية، وذلك لأن فترات النشاط المعادي للاستعمار لدى الفلاحين كثيراً ما لحقها نزاعاتٌ طائفية مريرة، داخل الحركة نفسها، أو في أحيان كثير، فتراتٌ من الخضوع المحيّر والمستعصي على الفهم. كِلَا جانبي المشاركة الفلاحية في السياسة الوطنية هذين أشارا في اتجاهٍ واحد: ضرورة توجيه نقد للتأريخ الاستعماري والقومي من خلال إدخال الفلاح كفاعلٍ في التاريخ، يملك أشكال وعيه الخاصة به، ويفهم العالم ويفعل فيه حسب شروطه ومعاييره.
التمرد الفلاحي في الهند الاستعمارية
تمّت صياغة الإشكالية من قبل راناجيت غوها تحديداً، بالاعتماد على معلومات عن التمردات الفلاحية التي سبقت فترة الحركات الوطنية الجماهيرية من سلسلة الثورات الفلاحية في الهند المستعمرة والممتدة بين 1783 و1900، عَمد غوها إلى عزل العناصر الإيديولوجية المؤلفة للوعي الفلاحية وعلاقتها ببعضها، أي شكلها النموذجي. بدأَ من فرضية أن السيطرة والاستغلال التي عاش وعمل تحتها الفلاح وُجِدَت من خلال علاقة قوة. كان هناك بمعنىً آخر، ثنائية من عنصرين متناقضين: المسيطرون، (الدولة أو ملاكي الإراضي أو مقرضي الإموال)، والمُسيطَر عليهم، وهم الفلاحون. وجود علاقة قوة بين هذين الطرفين يفترض بالضرورة أن المُسيطَر عليهم حافظوا على حدٍ أدنى من الفعالية، أو على مجالٍ كانوا فيه مستقلين أو غير محكومين. من دون هذا، يستطيع المسيطرون ومن خلال قوتهم أستهلاك أو القضاء على المُسيطَر عليهم كلياً. والسيطرة في هذه الحالة ستتوقف عن كونها «علاقة» اجتماعية تملك شروط إعادة إنتاج نفسها. في هذه الحالة إذن كان لا بدّ للفلاحين من تملُّك مجالهم المستقل.
أين نستطيع العثور على هذا المجال؟ إذا كانت السيطرة إحدى جوانب علاقات القوة، فإن الجانب الآخر هو المقاومة. التضاد الجدلي بين هذين الجانبين يعطي العلاقة وحدتها. هذا التضاد يخلق أيضاً الفرصة للحركة داخل العلاقة، وبذلك يصبح من الممكن الحديث عن تاريخ لعلاقات السيطرة والإخضاع. في بحثه عن الشكل المعتاد الذي يأخده مجال وعي الفلاحين المستقل، توصل غوها إلى دراسة جانب المقاومة. لم يكن هذا يعني أن المقاومة كانت أهم أو أكتر حقيقة من السيطرة. على العكس، من خلال وضع نماذج الوعي الفلاعي في علاقة جدلية مع القوة، فإن هذا الوعي يكتسب قيمته النظرية المناسبة: أهميته كانت تحديداً في علاقته مع الآخر، أي مع وعي الطرف المسيطر.
إذا كانت المقاومة هي الجانب من علاقة القوة الذي عبر الفلاحون من خلاله عن هويتهم المستقلة والمتمايزة عن هوية أصحاب القوة، أين نستطيع العثور عليها في الأرشيف التاريخي المتاح لنا؟ في أرشيف التمرد الفلاحي تحديداً، حيث ترك وعي المتمردين بصمته على وعي الحاكم، أي حيث كان هذا الأخير مضطراً للاعتراف «بآخره». لهذا السبب تحول بحث غوها عن الأشكال النمطية لوعي الفلاحين، إلى دراسة في الجوانب الأساسية للتمرد الفلاحي. دراسة التمرد الفلاحي كانت، بكلماتٍ أخرى، إجراءٌ منهجي للوصول إلى الوعي الفلاحي، المعبِّر عن نفسه في لحظة التمرد كشكلٍ من أشكال المقاومة، والذي يبدو كقوةٍ عدائية في السجلات التاريخية للطبقات الحاكمة. المعرفة الممأسسة للمجتمع، كما توجد في التاريخ المُسجَل، هي معرفة الطبقات الحاكمة خلال ممارستها للسلطة. المُسيطَر عليهم، بسبب ضعفهم تحديداً، لا يملكون القدرة على تسجيل معرفتهم ضمن هذه العملية الممأسسة، إلا من خلال كونهم مادةً للحكم. لذلك، قام غوها بالاعتماد على الخطاب الاستعماري المعني بقمع التمرد ليقرأ من خلاله بشكلٍ معكوس، خطاب التمرد الفلاحي.
ميَّز غوها ستة عناصر أساسية للوعي الفلاحي المتمرد: النفي، الغموض، الشكلانية، التعاضد، التناقل، والمناطقية. الوعي الفلاحي المتمرد كان أولاً وعياً «نافياً» أو سلبياً، بمعنى أن هويته عبرت عن نفسها حصراً من خلال معارضتها، أي من خلال اختلافها عن، ونقمتها على الحكام. كانت هويةً محددة بشروط الإخضاع التي عاش وعمل تحتها الفلاحون، لكن بشكلٍ مقلوب. هي هوية قلب شروط الاخضاع، بمعنى أخر، ولذلك فإن علامات الإخضاع، مثل فرض الضرائب أو الإيجار أو سلطة العقاب، تصبح أهدافاً رئيسية لحركة المقاومة. بهذه الطريقة يكون التمرد الفلاحي يعبر عن نفسه من خلال ثقافة الحاكم لا من خلال ثقافته. ثانياً، أشكال المقاومة احتوت دائماً على درجة عالية من الغموض. فلأنها تهدف إلى قلب علاقات الإخضاع تحديداً، كان من الممكن دائماً قراءة علامات التمرد على أنها لا تتعدى حدود التصرف المارق المعتاد والمعرف على أنه «جريمة». لكن على عكس «الجريمة»، «التمرد هو دائماً وبالضرورة فعل عامٌ وجماعي»، «الجريمة والتمرد ينبعان من نظامي عنفٍ مختلفان تماماً». ثالثاً، حركات التمرد الفلاحي كان لديها دائماً شكلٌ نمطي. فمن جهة، الطابع السياسي لكن السلبي لقلب علاقات السيطرة عبَّر عن نفسه دائماً من خلال تحطيم علامات السلطة، مثل مخفر الشرطة أو مكتب الجباية التابع لملاك الأرض أو منزل مقرض الأموال. في ما يختص بالهند المستعمرة على الخصوص، حدَّد غوها أربعة أشكالٍ من التحطيم: التكسير، الحرق، النهب، والأكل. الطابع النافي للوعي المتمرد عبَّر عن نفسه أيضاً من خلال تشكيل سلطةٍ للمتمردين، على صورة النظام الذي تقوم بالحلول محله، ذو طابعٍ عام أيضاً، وبسلطاتٍ لفرض العقوبات والأتاوات على المجتمع المحلي. رابعاً، تعريف الفلاح المتمرد لذاته، ووعيه بالانتماء إلى مجموعة مستقلة ومعارضة لأعداءه، يظهر بشكل أساسي من خلال التعاضد. شَكلُ هذا التعاضد المحدد يختلف من تمردٍ لآخر، وأحياناً من مرحلةٍ لأخرى ضمن حركة التمرد ذاتها. في كثيرٍ من الأحيان كانت تبدو على شكلٍ إثني أو عائلي، أو نوعٍ مشابه من الهويات المشتركة. خامساً، من خلال التعاضد هذا، تم تناقل رسالة التمرد بسهولة وسرعة ستبدو دائماً محيرةً للسلطات، لكنها اعتمدت في الواقع على أقنية معتادة. الإشاعات على سبيل المثال كانت إحدى تلك الأقنية، حيث بقي مصدر المعلومة مجهولاً وغاب التمايز بين صاحب الخبر وجمهوره. بطابعها المتنتقل بسهولة بالغة، كانت الإشاعات «نمطاً خاصاً من الخطاب الشعبي». سادساً وأخيراً، تعاضد حركة التمرد الفلاحي احتل دوماً فضاءاً جغرافياً واضح المعالم. حدود هذا الفضاء تم تعريفها إما سلباً من خلال نظرة المتمرد إلى الإنتشار الجغرافي لسلطة الحكام، أي من خلال مبدأ الإقصاء، أو إيجاباً من خلال نظرة التمرد إلى الفضاء الإثني الذي يحتله المجتمع الثائر، أي من خلال مبدأ التعاضد. التقاطع بين هذين الفضائين حدَّد الهوية المناطقية لحركة التمرد.
مفهوم الجماعة
في جميع هذه الجوانب المُعرَّفة من قبل غوها، يوجد فكرة جوهرية واحدة تعطي التمرد الفلاحي شخصيته الاجتماعية الأساسية: مفهوم الجماعة الأهلية. كلُّ جانب يعبر عن نفسه بشكل سياسي من خلال مبدأ الجماعة الأهلية. سواءً من خلال الطابع السلبي لأشكال وأهداف العمل التمرد، المتبلور من خلال تطبيع معيار «نحن» و«هم»، أو من خلال تعريف المتمردين للمساحة الجغرافية للتمرد، يعطي مفهوم الجماعة الأهلية هذه الجوانب طابعهم التأسيسي كأفعال سياسية مقصودة تعبِّر عن وعيٍ جماعي. هذا المفهوم يجعلنا قادرين على أن نقرأ من خلال أفعال الفلاحين المتمردين في لحظة التمرد الطابع الكلي والتشكيلي لوعي الفلاحين، والربط بين تلك الأفعال وبين حياة الفلاحين اليومية ووجودهم الاجتماعي.
من المهم أن نركِّز على هذه النقطة، لأننا من خلال مفهوم الجماعية الأهلية المعبِّر عن وعي الفلاحين، نرى كيف أن هذا الأخير هو القطب المناقض تماماً للوعي البرجوازي. الوعي البرجوازي ينطلق من فكرة الفرد، وفهمٍ مُعيَّن لمصالح هذا الفرد (أو حسب المصطلحات الدارجة، لخياراته الفضلى). التعاضد في السياسة البرجوازية يُبنى من خلال عملية تجميعية تُنتِج تحالفاتٍ بين أفرادٍ بناءً على المصالح المشتركة (أو الخيارات الفضلى). العملية تكاد تكون معكوسة في الوعي الفلاحيّ المتمرد. التعاضد هنا لا يتشكل لأن الأفراد يشعرون أنهم قادرون على التشارك مع آخرين بناء على مصالحهم الفردية المشتركة، على العكس تماماً، يتم تشجيع الفرد على العمل ضمن المجموعة لأن أواصر التعاضد التي تربطه بهم موجودة أساساً. العمل الجماعي لا ينبع من «عقد» بين الأفراد، على العكس، الهويات الفردية هي نفسها تنبع من العضوية في الجماعة.
يترتب على هذا أننا لن نستطيع أن نفهم الوعي الفلاحي وعناصره المكونة، إذا استمرينا في النظر إليه من خلال باراديغم العقلانية البرجوازية. علينا أن نُقرَّ أن الوعي الفلاحي لديه الباراديغم الخاص به، وهو لا يختلف فقط عن الوعي البرجوازي وإنما يشكل «آخره» تحديداً. هذا الطرح النظري المركزي يظهر في كتاب غوها، ويشكل تحدياً أساسياً للإجراءات المنهجية المتبعة ليس فقط من قبل الاقتصاديين وعلماء الاجتماع الليبرالين الباحثين عن «الفلاح العقلاني» (بما في ذلك «الشايانوفيين» وأصحاب طرح «الاقتصاد الأخلاقي»)، بل والعديد من الأكاديمين الماركسيين العاملين على المسألة الزراعية.
لا يمكن إعطاء مفهوم الجماعة الأهلية هذا تعريفاً أو قيمة واحدة ومحددة مرتبطة بمؤسسة اجتماعية معينة، مثل الطوطمية أو نظام الطبقات الهندي أو الطائفة الدينية. حدود وأشكال التعاضد في حركات التمرد الفلاحية لا تتبدى من خلال شكلٍ ثابت يمكن استنتاجه تلقائياً من السياق الاقتصادي-الاجتماعي أو العالم الثقافي. على العكس تماماً، أدوات المعنى المتاحة للوعي الفلاحي – أي اللغة بتعريفها الأوسع – قادرةٌ على التحول والتفاعل مع سياقاتٍ متعددة، منها ما يختص بالهيمنة ومنها ما يختص بالمقاومة. هذه القدرة هي بالضبط ما يجعل التمرد عملاً سياسياً مقصوداً معبراً عن وعي تمرديٍ فاعل. بدونها، يتحول هذا الوعي إلى «شيء» جامد نابع من مؤسسة اجتماعية ثابتة، القبيلة، نظام الطبقات، الطائقة، المنطقة، أو غيرها. اختزال كهذا يسيء تقدير وفهم صلابة الوعي الفلاحي الايديولوجية، وقدرته على الإبداع.
الأشكال الملموسة للجماعة الأهلية
اقترح غوها إذن باراديغماً خاصاً للوعي الفلاحي الثائر. اعتمد في رسم هذا الباراديغم على قراءة ما توفر من موادٍ عن الثورات الفلاحية في الهند المستعمرة من وجهة نظر الفلاح كفاعلٍ واعٍ وناشطٍ في التاريخ. ولكن، ولأن هدف غوها كان الوصول إلى شكل بنيوي ثابت لهذا الوعي، وذلك حسب منهجه البنيوي في الأساس، لم يحاول أن يقدم لنا تاريخاً له كحركة تحول ذاتي. اكتفى غوها بتقديم مدخل إلى بنية الوعي الفلاحي من خلال الخوض في استقلاليته، وبذلك قدَّم لنا الأرضية اللازمة لطرح الأسئلة اللازمة عن تاريخ هذا الوعي.
الجانب الأول الذي نستطيع منه البدء في البحث عن هذا التاريخ هو ذلك المفهوم الذي يعطي للوعي الفلاحي بنيته الأساسية: الجماعة الأهلية. رأينا كيف أن غوها يمتنع محقاً عن تقديم تعريف ثابت لهذه الجماعة الأهلية. أو، بكلماتٍ أخرى، يصف غوها الجماعة الأهلية في سياق ثورة فلاحية محددة من خلال ربطها بالعشيرة أو القبيلة أو الطائفة أو نظام الطبقات الهندي، لكنه يترك الشكل النظري للجماعة الأهلية بعيداً عن الارتباط بأي من هذه الوحدات، يتركه مجرداً أو فارغاً. من الضروري الآن أن نحاول إعطاء هذا المفهوم الهام محتواه النظري الملائم. لدينا ما نبني عليه هنا. نعرف على سبيل المثال أن تعريف العدو في التمردات الفلاحية، أي الفصل بين «هم» و«نحن» يحدث من خلال إطار «جماعاتي»: إي فهم الصراع على أنه بين جماعتين متمايزتين وعدوتين لبعضهما. هذا الإطار الجماعاتي نفسه يقدم مساحة لخلق شبكات التعاضد والتحالف فيما بين المتمردين (ولدى العدو أيضاً بطبيعة الحال)، وكذلك مساحة للخيانة والتعاون مع العدو. لا يتم النظر إلا التحالفات هنا باعتبارها قائمة على المصالح المشتركة، بل بكونها الواجب الطبيعي على جماعات مرتبطة مع بعضها برابط الأخوة: «أنتم أخوتنا. شاركوا معنا بكل ما أتيتم من قدرة». هذه الدعوة الموجهة من المتمردين الاوائل في ثورة رانجبور عام 1783 إلى فلاحةي القرى المجاورة، كانت في الواقع نسخةً عن الشكل المتعارف عليه لعقد التحالفات في التمردات الفلاحية في الهند كلها. وهي تظهر أيضاً في حالات خرق الواجب المشترك: فهذا لم يكن خرقاً لعقد. عندما كتب قرويو كالاس إلى هؤلاء في أكولا ليلوموهم على كسر أواصر التضامن خلال ثورة ديكان عام 1875، لم يتحدثوا عن المصالح المشتركة. «من الخطأ أن تتواصلوا مع هؤلاء الذين تم اعتبارهم خارج مجتمع القرية، نحن نعتبر كالاس وأكولا قرية واحدة، ولذلك قمنا بتقديم هذا الاقتراح».
نعرف أيضاً أن حدود التعاضد، الخطوط الفاصلة بين «هم» و«نحن»، قادرة على التغير حسب السياقات المختلفة للصراع. قدم لنا باندي على سبيل المثال سرداً لكيفية تغير صراعٍ بين ملاكي الأراضي الراجبوت والغازلين المسلمين في بلدة صغيرة في أوتار باديش خلال منتصف القرن التاسع، إلى تضامن بين جميع أبناء القرية ضد مهاجميها من الخارج ومن ثم عودة الانقسامات الداخلية، وكل ذلك خلال أسابيع قليلة وبدون أي إشارة لكون أبناء القرية وجدوا أن التغييرات السريعة في شبكات تضامنهم هذه غريبةً أو شاذة. هارديمان، ساركار، وشاترجي ايضاً بحثوا في قضية تغيير أواصر التضامن مع تغيير سياق الصراع . لكن الضروري الآن هو صياغة مفهوم «الجماعة الأهلية» من خلال العلاقات المنهجية المعبرة عن الهوية المشتركة، والخلافات بين المجموعات المختلفة.
في السياق الهندي، يشكل نظام الطبقات أو الكاست، باراديغماً واضحاً للتعبير عن الهوية والاختلاف. فمن جهة، تنفصل الطبقات عن بعضها كما لو أنها أجناسٌ مختلفة من الكائنات، ولكنها من جهة أخرى ترتبط ببعضها في ترتيبٍ هرمي لكيانٍ اجتماعي شامل. عند مقاربة العلاقات بين الطبقات المخلتفة كنظام قائم بحد ذاته، غلب في علم الانثربولوجيين التقليديين النظر إلى ذلك النظام كإطارٍ لتحقيق تجانسٍ في العلاقات بين المجموعات المختلفة من خلال تبني قيم مشتركة عن الوحدة الجامعة لجميع أبناء تلك الطبقات. ما لم يتم الحديث عنه، هو الخط الموازي والمنهجي أيضاً في نظام العلاقات هذا، المرتبط برفض أبناء الطبقات الدنيا للقيم المشتركة تلك. لدينا ما يكفي من الأدلة لنستطيع أن نُموضِعَ نظام الطبقات هذا إذن ضمن علاقات القوة الأشمل، وذلك لأن العلاقة المتغيرة بين الطبقات والمحاولات الموسمية لإعادة تعريف التصرف الأخلاقي حسب الأديان الهندية، يشيران إلى صراعٍ مستمر ضمن علاقات السيطرة والمقاومة. بمعنىً آخر، لدينا هنا القدرة على ربط تاريخ النضال الفلاحي بتاريخ نظام الطبقات الهندي، ومن خلاله بتاريخ المعتقدات والممارسات الدينية في الهند.
هناك أسبابٌ قوية للاعتقاد أن نظام الطبقات لم يكن فقط الشكل الباراديغماتي لعلاقات القوة بين الطبقات المختلفة ضمن الدين البرهماني، بل كان على الأرجح الشكل الثقافي العام لفهم وترتيب علاقات الهوية والاختلاف بين العديد من الجماعات. من المهم الإشارة هنا أنه في معظم اللغات الهندية لا تعني كلمة «جاتي» الطبقة أو الكاست فقط، بل تجمعات الطبقات، والقبائل، والأعراق، والمجموعات اللغوية والدينية، القوميات والأمم. كثيراً ما أشار الأنثربولوجيون إلى وجود الطبقات أو أنماط اصطفافٍ اجتماعي تشبهها لدى مجموعات دينية أخرى مثل البوذيين والجانز (الطوائف الروحية الدينية التي برزت في الهند في القرون الوسطى كمعارضة للدين البرهماني)، وكذلك لدى المسلمين والمسيحيين أيضاً. لكن النقطة الهامة هي أشمل من ذلك حتى: علينا أن نبحث في مدى قدرة نظام الطبقات الهندي، أو شيء شبيه له، على أن يكون الشكل الثقافي الملموس لفهم علاقات القوة والمقاومة بشكل عام.
بالإضافة إلى موضوع التعرُّف على حدود التعاضد الفاصلة في سياقات نضاليةٍ مختلفة، يوجد موضوع البنية الداخلية للجماعة الأهلية في الوعي الفلاحي. من الواضح أن مفهوم الجماعة الأهلية، بالأخص لدى الشعوب الزراعية غير-القبلية، لم يكن مبنياً على المساواة، حتى فما يختص بالحقوق في وسائل الإنتاج الأساسية، أي الأرض. في معظم أجزاء الهند، وضمن الشريحة الفلاحية الحضرية، لم تحظَ الطبقات الأدنى، أي حوالي خمس عدد السكان الكلي، بأيّ حقوقٍ معترفٍ بها في الأرض. مع ذلك تم الحفاظ على وحدة الجماعة الأهلية من خلال الاعتراف بحق البقاء والاسترزاق لجميع شرائح الناس، وإن خضع هذا الحق لتراتب في الامتيازات والواجبات. النقطة الهامة إذن هي أن مفهوم الجماعة كوحدة متمايزة داخلياً لا يؤثر فقط على الفلاحين كجماعة في مواجهة حكامهم، ولكن فيما بين الفلاحين أنفسهم. المدى الواسع لاحتمالات التحالف والتضاد وتغيير حدود الجماعة حسب الصراع تصح أيضاً في العلاقات بين شرائح الفلاحين فيما بينها. هذا بحدِّ ذاته يتنافى مع التمجيد الشعبوي للفلاحين كجماعةٍ متجانسة ومتساوية وخالية من الصراعات والانشقاقات الداخلية.
تاريخٌ هندي للنضال الفلاحي
مُتقفِّينَ خطوات غوها، جادلَ مؤرخو مجموعة دراسات التابعين في أن دراسة تاريخ الثورات الفلاحية من وجهة نظر الفلاح كفاعلٍ واعٍ وناشط في التاريخ، تُمكننا من فهم وعيه في لحظات استقلالية الوعي هذا. بذلك يتمكن المؤرخ من فهم وحدة هذا الوعي كما تتموضع داخل علاقات القوة، أي علاقات السيطرة والإخضاع. الوعي الفلاحي حسب ذلك هو وحدة متناقضة مكونة من جانبين: في جانب، الفلاح خاضعٌ، قابلٌ بواقع علاقات السيطرة التي تحكمه وتستغله، أما في الجانب الثاني فهو رافضٌ لشروط إخضاعه، ومُصِرٌّ على استقلاليته. تم اقتراح أن الجماعة الأهلية هي المساحة التي تظهر فيها هذه الوحدة المتناقضة للوعي الفلاحي. حتى الآن، وصفنا الجماعة بطريقة مجردة وهيكلية. لكننا نملك مادةً تاريخية كافية لنبدأ بصياغة مفهوم أكثر تحديداً للجماعة، المتمايزة داخلياً، بوصفها ساحة النضال الفلاحي، وحيث يتم التأسيس والتفاوض على مختلف الحقوق والواجبات.
بهذه المعطيات فقط نسلك طريقاً بحثياً مختلفاً عن الطرق التقليدية في دراسة التمردات الفلاحية في أوروبا. في الواقع، أريد أن أجادل أن النقاشات الأخيرة بخصوص دور الفلاحين في الحركة القومية، تقودنا إلى مشروع كتابة تاريخ هنديٍ للنضال الفلاحي. في المبدأ، هذا المشروع مختلفٌ عن تاريخ النضال الفلاحي في الهند. هذا الاختلاف في بناء الجملة يعبر عن فرقٍ جذري في المقاربة التأريخية. الصياغة الثانية تعبر عن تنضيد للمادة التاريخية في الهند تبعاً لإطار تبدو فيه المفاهيم الجوهرية والعلاقات التحليلية جاهزةً ومستقاة في عموميتها من تاريخٍ كونيٍ ما (على سبيل المثال، نظرية الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية، أو نظرية التحديث، أو نظرية أنظمة العالم، أو نظرية الاقتصاد الأخلاقي، وغيرها). أما في الصياغة الأولى، فتعبر عن رغبة في مقاربة المادة التاريخية بغرض اكتشاف أشكال التطور التاريخي الصاعدة منها، وكيف أن هذا التطور تشظى، تشوه، وتم حشره ضمن مخطط التاريخ الكوني فقط من خلال العنف الاستعماري. إطار هذا التاريخ الآخر لا يسلم بموقعه المفترض ضمن تراتبيات التاريخ الكوني، بل على العكس، يُخضِع جميع المفاهيم التي تفترض نفسها كونيةً إلى عملية تحقيق ومسائلة، مُعَدِلاً ومُضيفاً إليهم من خلالها. الهدف هنا هو ليس «إكمال» التاريخ ما قبل الاستعماري من خلال مسح الذاكرة التاريخية والحقيقة الحاضرة للتجربة الاستعمارية: هذا ليس فقط أحفوريٌ وطوباويٌ، بل من الرجعية مجرد التظاهر بإمكانيته. المهمة هنا هي تأسيس وعينا التاريخي على أشكال التطور الاجتماعي النابعة داخلياً عبر التاريخ الهندي، وأن ننخرط من هذا الموقع في عملية صراعٍ مع تجربتنا الاستعمارية، محاولين نفيها أو تجاوزها من خلال تملكها حسب شرطنا الخاص.
الأجندة البحثية هذه تعني وضع المفاهيم الكونية للتشكيلات الاجتماعية في حالة تجميدٍ مؤقت، أو بالأحرى في حالة توتر غير محسوم. لكن هذا يقع في صلب مهمة المؤرخ بكل الأحوال. العلاقة بين التاريخ والعلوم الاجتماعية النظرية هي بالضرورة علاقة تقوم فيها المادة التاريخية العنيدة بتعكير صفو الأناقة البنيوية النظرية. الدعوة لتاريخ هندي لسياسة الفلاحين، هي لذلك أيضاً دعوة للمؤرخ ليمارس دوره كمستفزٍ ومحرض للباحثين في العلوم الاجتماعية.
نشر الكتاب الأوروبيون عن الهند خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر افتراءاً مفاده أن غياب الوعي التاريخي لدى الهنود سببُ غياب أي مادة أصيلة عن التاريخ الهندي، باستثناء سجلات المحاكم، سير القديسين، ولوائح الأنساب المشكوك بصحتها. لكن هذا الافتراء لم يكن نتيجةً فقط لنوايا العقل الاستعماري السيئة والهادفة إلى تشويه صورة الشعوب المغلوبة، كان هناك صعوباتٌ عميقة في مفهوم التاريخ نفسه كحقلٍ معرفي في أوروبا ما بعد عصر الأنوار. فمن وجهة النظر الأوروبية، لم تستوفِ الكمية العظمى من المادة التاريخية التي سجلت وأفرزت المؤسسات والعلاقات الاجتماعية عند الشعب الهندي، وصمدت كدليلٍ ملموسٍ على ماضٍ حيّ، شروطَ المادة التاريخية الصحيحة والقابلة للاعتماد. جميع الأدلة التي لم تتوافق مع سردية التطور الخطي للدولة من الإمارة إلى المملكة وصولاً إلى الإمبراطورية، تم نفيها إلى مجال علم الأعراق الغريب واللا تاريخي.
الواقع منافٍ لهذا التصنيف تماماً. تعددية الأشكال البنيوية للعلاقات الاجتماعية في الهند، دقة العلاقات فيما بينها، المستويات والدرجات المختلفة لتمايزها الداخلي، الأشكال الإيديولوجية المختلفة للهوية والاختلاف، والمسار التاريخي الطويل لتطور هذه الأشكال من خلال الصراع الاجتماعي، كل هذا مطبوعٌ على معتقدات الناس وممارساتهم الحية. في حجمها ودقتها، هذه المادة أغنى بما لا يقاس من التاريخ الأوروبي المحفوط، وهذه حقيقة لم يعيها الوعي الأوروبي إلا بسبب تطور علم الأنثرولوجيا الحديث بعد الحرب العالمية الثانية. في الواقع، إن المحاولات الأخيرة لبناء تاريخ أوروبي «شعبي» من حطام الماضي الميت، كانت نتيجة هذا التحدي الذي فرضه علم الإنثروبولجيا المعني بمادة المجتمعات غير الأوروبية على العقائد الموروثة للمعرفة الأوروبية اللاحقة لعصر الأنوار.
الآن، وقد بتنا مستعدين لاعتبار كل هذه المادة كدليلٍ تاريخي، يجبرنا غناها الهائل على رفع ايدينا مستسلمين والإعلان أنها شديدة التعقيد. أي عالم اجتماع متخصص في الهند، يعترف بشعور عدم الكفاءة والعجز هذا. بالنسبة لعلماء الأعراق الاستعماريين، كان هذا دليلاً على كون الشرق الغامض عبارة عن خليطٍ فوضوي، أما بالنسبة للإداريين الاستعماريين، كان هذا برهاناً إضافياً على الحاجة التاريخية لفرض نوع من الخطية والنظام على مجتمعٍ يستحيل حكمه. بالنسبة للقوميين الهنود، كان هذا دليلاً على عظمة التقاليد المحلية القادرة، حسب تعبيرهم، احتواء مقدارٍ هائل من التعددية ضمن إطار واحد دون القضاء على علامات الاختلاف. بكلمات أخرى، في حين ركزت النظرة الاستعمارية على فوضى المجتمع الهندي البنيوية وعدم تملكه لوعي واحد، قام القوميون بتعظيم قدرة المجتمع على امتصاص الفروقات، وأهملوا الصراعات الداخلية الهامة التي طبعت عملية الامتصاص هذه.
بالنسبة لهؤلاء منا، الذين يواجهون هذه المشكلة اليوم، وفي حال أمعنا في الأمر، سيتبين لنا أن إحساسنا بالتعقيد البالغ ليس سوى نتيجة عجز أدواتنا النظرية. هذه الأدوات التحليلية تمت صياغتها بشكل رئيسي ضمن سياق عملية فهم التحولات التاريخية في أوروبا. أي أنه عندما نواجه استعصاءاً مع مادة تاريخية معقدة، يكون هذا بسبب هذه الأدوات، لا بسبب المادة الهندية! عندما نصل إلى يومٍ يصبح فيه خزان التاريخ الاجتماعي الهندي قابلاً للفهم العلمي، سنكون حققنا من خلال العملية نفسها إعادة هيكلة لبنيان الفلسفة الاجتماعية الأوروبية كما هي اليوم.
أما نقطة القوة الثانية للمادة الهندية عن النضال الفلاحي، فتبرز مما قد يبدو للوهلة الأولى أنه نقطة ضعف. من الشائع اعتبار أن الأدلة الباقية عن الثورات الفلاحية في الهند، غير كافية بالمقارنة مع ما يتوافر لدينا عن أوروبا القرون الوسطى أو الصين، ولكن في الواقع علينا أن نكون حذرين ونحن نتحدث عن عدم الكفاية هذه. اقترحَ البعض في الماضي، مثلاً، أن كتابة تاريخ التمردات الفلاحية في الهند ليس بذي جدوى لأنه لم يكن هناك من ثورات فلاحية إلا تلك المحلية منها والقصيرة. لكن الحقيقة هي، أولاً، أن رقم هذه الثورات «المحلية» كبير، ولدينا سجلاتٌ تاريخية تحتوى وصفاً لمئات الثورات في جميع أنحاء البلاد منذ القرن السابع عشر، مروراً بفترة الحكم البريطاني، ووصولاً إلى مرحلة دولة الاستقلال المعاصرة. النقطة الثانية هي أن ما يبدو «محلياً» في سياق بقعة مترامية الأطراف كالهند، كان في كثيرٍ من الأحيان يشمل مساحة من الأرض وعدداً من الناس أكبر حتى من أشهر الثورات الفلاحية في أوروبا. الفرق المهم يكمن في مكانٍ آخر: الصحيح قطعاً هو أن الثورات الفلاحية في الهند لم تؤثر سياسياً على شكل الدولة أو علاقات الملكية القانونية بالقدر نفسه الذي أثرت فيه نظيراتها في أوروبا والصين. إحدى الأسباب الهامة وراء هذا كان أن السيطرة في المجتمع الهندي لم تتبدا حصرياً أو حتى بشكل أساسي ضمن الأنماط القانونية للسلطة السائدة والمنتجة لمؤسسات الدولة والملكيات الإقطاعية. لذلك، لم تقتصر المقاومة على المجال السياسي-القانوني. ولذلك أيضاً يجب على دراسة النضال الفلاحي في الهندي أن تشمل مجالاً أوسع من العلاقات الإجتماعية بالمقارنة مع التاريخ الأوروبي. مرةً أخرى إذن، تستدعي المادة الهندية فتحاً وإعادة هيكلة للمجالات المعرفية التقليدية المختصة بدراسة حركات الفلاحين.
حركة الوعي
إذن، النتائج المباشرة لمشروع تاريخ هندي لسياسة الفلاحين هي، أولاً، الإقرار بأننا لا نستطيع أن نعتبر المجال القانوني-السياسي الذي تشكله الدولة الجبهة الوحيدة، أو حتى الرئيسية، للنضال الفلاحي. ثانياً، سيبدو لنا مجال الجماعة الأهلية متمايزاً ومتعدد المستويات بشكل دقيق، ومتمتعاً ببنية تسمح بدرجة عالية من المرونة والفرص الاستراتيجية لكل من الفلاحين والطبقات السائدة على حد سواء، بما يتجاوز ما كان متاحاً من تحالفات ومعارضات في المجتمع الفلاحي في أوروبا الإقطاعية. ثالثاً، يستطيع المرء أن يلاحظ في حال أمعن النظر في الفترات الطويلة الفاصلة بين الثورات الفلاحية المسلحة، أو بين قيام حركات دينية معارضة، أن الصراع بين الفلاحين والطبقات السائدة مستمرٌ وشاملٌ خلال الحياة اليومية. أشكال هذا الصراع ستتراوح من، الغياب عن العمل، الفرار، عدم الطاعة الانتقائي، إفشال العمل أو الإضراب عنه، إلى أشكال لفظية مثل تشويه السمعة، إدعاء الجهل، السخرية والشتيمة – أي ما أطلق عليه جيمس سكوت «الأشكال البريختية للصراع الطبقي». خزان الثقافة الشعبية في الهند يحتوي على كمٍ هائل من الآثار المادية والإيديولوجية للاحتجاج الفلاحي اليومي، مما لم يجرِ النظر إليه حتى الآن في دراسات عملية الإخضاع والمقاومة التي عاش وناضل من خلالها فلاحو الهند.
يوصلنا كل هذا إلى سؤالنا الهام الأخير. إذا كان هدفنا كتابة تاريخ النضال الفلاحي بصورة تاريخ يبدو فيه الفلاحون كفاعلين واعين وناشطين، لا بد أن يكون لوعيهم أيضاً تاريخه المحدد. تجاربهم مع أشكال مختلفة من الإخضاع والمقاومة، محاولاتهم التأقلم مع الشروط المادية والإيديولوجية المتغيرة في حياتهم اليومية كما في حركات تمردهم الواضحة، كل هذا لا بد أن يترك أثره على وعيهم كعملية تَعلُّمٍ وتطور. البعض مثل جيمس سكوت سعى إلى التركيز على الأشكال اليومية للمقاومة بدلاً من التمردات الواضحة، لأن الأولى يفترض أن تكون أكثر بقاءً وأكثر فعالية على المدى الطويل في تغيير شروط الإخضاع ببطء وبدون ضجيج. قد يكون من المبكر صرف النظر عن هذا الطرح، لكن الحقيقة تبقى أن المجال اليومي، وهو مجال الإخضاع المستمر، يبقى مقيداً بحدود تقبع خلفها تلك اللحظة الاستثنائية للعالم مقلوباً على رأسه. السجل التاريخي لتلك اللحظات القصيرة من الثورات المكشوفة يعطينا لمحةً عن المساحة المستعصية على الإخضاع في الوعي الفلاحي، ويسمح لنا برؤية اليومي والإستثنائي كجزءٍ من وعي واحدٍ في الزمن.
ولكي ندفع هذه النقطة إلى نهايتها، باستطاعتنا أن نقول أن شبح الثورة الفلاحية يحاصر وعي الطبقات السائدة في المجتمعات الزراعية، ويشكِّل ويعدِّل في طرق ممارستهم للسيطرة. هذا ينطبق على الدولة الاستعمارية في فترة الحكم البريطاني للهند كما على دولة الاستقلال المعاصر، بالرغم من حق الانتخاب المعمم. طبيعة وشكل السيطرة على الفلاحين تغيرت بلا شكّ خلال المئة سنة الماضية. الأشكال القديمة المتمثلة في الإقطاع والعبودية أعطت مكانها بشكل كامل تقريباً لأشكال جديدة في استخلاص الدخل من خلال آليات السوق والسياسات الضريبية. هذه التغيرات لم تأتِ نتيجة الإصلاح من فوق، ولكن أيضاً من خلال سلسلة طويلة من النضال الفلاحي الممتد منذ الحكم الاستعماري، والتي أثَّرت على بنى السيطرة وعدَّلتها. حتى المؤسسات السياسية الجديدة المرتبطة بالحكم التمثيلي، ومن خلال السعي للتعبير عن العلاقات الاجتماعية في بلدٍ زراعي ضخم، باتت تختلف كثيراً عن مؤسسات الحكم الليبرالي الديمقراطي في الغرب. كمثال، نستطيع ذكر ظاهرة التحول في الخيار الانتخابي لمناطق هائلة وبشكل موحد، والذي شهدته عدة انتخابات في الهند، وبحجم وانتشارٍ جغرافيٍ غير معروف في الديمقراطيات الغربية، وبشكلٍ لا يمكن شرحه من خلال آليات السلوك الانتخابي الفردي المعتادة. هل نرى في هذا شكلاً من أشكال الوعي الفلاحي الصاعد، والذي بعد أن تعلم بطريقته الخاصة آليات نظام السيطرة الجديدة بدأ بالتعبير عن نفسه من خلال منهجيات جديدة في العمل السياسي؟
تاريخٌ هندي للنضال الفلاحي سيخبرنا بما هو أكثر بكثير من قصة التمردات الفلاحية في العصور الوسطى، وذلك لأنه تاريخ يُشكِّل حاضرنا الفاعل والحي. تاريخٌ كهذا سيخبرنا لماذا، بعد أن قام الفلاحون بتعريف الدولة الاستعمارية كعدوٍ كما في عام 1857 و1942، كان باستطاعتهم أن يكونوا أشد جذريةً وعمقاً بما لا يقاس من مواطنيهم الأكثر تنوراً. تاريخ كهذا سيُعلِّمنا، نحن من ندعي أننا معلمي هؤلاء الفلاحين، بالفعل، أن تاريخاً هندياً للنضال الفلاحي هو جزءٌ أساسي من التاريخ الحقيقي لشعبنا: مهمة المؤرخ الهندي هي أن يرى في كل هذا وعيه الذاتي هو.
موقع الجمهورية