الأمكنة لا تؤثر، الفقد يجعل الحنين كبيراً/ إسكندر حبش
أعتقد أن ثمة أمراً ينبغي الإشارة إليه، بداية. منذ أكثر من شهر ونصف وأنا أحاول أن أعدّ مادة عن مثقفين سوريين، يعيشون في لبنان، في محاولة للتعرف منهم على مشاغلهم الكتابية، على الأقل، بعد ابتعادهم القسري أو الطوعي عن دمشق. في البدء كانت الفكرة في إقامة ندوة، يجتمعون فيها معاً، لنناقش بعض الأفكار. بيد أن غالبية الذين تمّ الاتصال بهم كانوا يبادرون إلى السؤال: من سيشترك فيها، وسرعان ما تبدأ الاعتراضات على هذا الاسم أو ذاك، إذ ثمة من يقول إنه لن يشترك ما دام فلان حاضرا، وهكذا دواليك، لغاية أن يشعر المرء باليأس.
حادثة أسوقها ولن أعلّق عليها، إذ أترك ذلك للمثقفين السوريين أنفسهم، كي يراجعوا هذه المواقف. وبعد لأي، توصلت إلى الصيغة التالية: طرح سؤال أدبي بحت وبعيداً عن أي إشارات سياسية قد تثير البعض، يتعلق بالكتابة والمكان وهل إذا ما يؤثر في النصوص الحالية التي يعملون عليها. وأيضا كانت هناك أصوات معترضة على المشاركة في ظل وجود فلان أو آخر. في أي حال، أريد فقط أن أشكر الأصدقاء الذين تكبدوا مشقة الكتابة هنا، ربما أكثر ما يستحقون الشكر عليه ـ وبعيداً عمّا كتبوه وقالوه ـ أن أياً منهم لم يتطرق إلى هذا السؤال العتيد: «من يشارك»؟ بل أجابوا وبسرعة. ربما أصبح ذلك أمرا يستحق الإشارة والتنويه في هذا الوقت.
غالباً ما يقال إن المكان يلعب دورا كبيرا في الكتابة، إذ يترك أثره على الكلمات. هذا ما وجدناه أيضا في الحقب والصور العربية المتلاحقة منذ القدم: فبيئة العصر الجاهلي مثلا أنجبت أدباً يختلف عما عرفناه في العصر العباسي على سبيل المثال. وما يكتبه كاتب منفي عن بلده، لا بدّ أن يتأثر بالمحيط الجديد الذي يعيش فيه، كما أخبرتنا بذلك العديد من النصوص العالمية التي قرأناها. ربما انطلاقا من هذا كله، يرى ثائر ديب أنه «كُتِب الكثير عن الشجن الشالّ الذي قد يسببه ترك المرء مكانه الأصلي. وكُتب الكثير أيضاً عن التغلّب على هذا الشجن وتحويل الرحلة أو الهجرة أو النفي إلى حافز قوي ومُخصب من حوافز الكتابة والثقافة التي يُعترَف أنّها في جزء كبير منها نتاج المنفيين والمهاجرين واللاجئين. بيد أنَّ أحداً، على حدّ علمي، لم يكتب عن كلّ ذلك وفي ذهنه حالة مثل حالة السوريين الذين تحولت انتفاضتهم الشعبية ضد الدكتاتورية العتيّة إلى عسكرة طاغية وتمويل إقليمي ودولي لأطر إسلامية بمضامين فاشية تصفوية؛ وراح بلدهم يُدَكّ ويسوّى بالأرض: عمراناً وثقافةً وأخلاقاً؛ ويكاد أن يكون قد فرغ من معظم كتّابه المعارضين؛ ولم تعد تعلم على وجه الدقّة إن كان هذا الشخص أو ذاك مثقفاً أم قاتلاً، يسارياً أم ابن طائفته؛ ليبرالياً أم عميلاً، وبانت معارضاته السياسية عن هشاشة منقطعة النظير حيناً، وعن سفالات لا تُضاهى أحياناً»…
أما من جهته فيرى سحبان السواح أن «المكان هو زمان فلا مكان عاطفياً ينفصل عن الزمان. وهو ليس شيئاً ثابتاً بل هو متغير فالمكان الذي كنت تمشي فيه المرحلة الابتدائية في طفولتك، ثم في مراهقتك وصولا إلى الكهولة هو الذي يشكل صيغة المكان والعلاقة العاطفية معه. وبهذا المعنى فالمكان هو تداخل العاطفة المتشكلة زمنياً مع برودة المكان القابع مكانه من دون تغيرات تذكر». ويضيف: «لنسمّ تلك الحالة؛ حالة ارتباط المكان بالزمان وبالذاكرة الباطنية «زمكان» وهو اختصار لذاكرة الإنسان، مطلق إنسان، ولعلاقته بالمكان وفي هذه الحالة لا يتقصد أي كاتب أن يكتب عنه بل هو موجود في مخزونه الباطني يفاجئ الكاتب حتى لو كان يكتب مقالا صحافياً في أي زمان ومكان».
من دمشق إلى بيروت
في أي حال، جاء السؤال المطروح على الشكل التالي: «غادرت دمشق وأنت اليوم تقيم في بيروت، هل تأثرت الكتابة عندك بتغيير المكان؟ وأي دور كان المكان يلعبه سابقاً في كتابتك»؟
ترى رشا عباس أنه ربّما هناك مبالغةٌ بتقدير الأثر المفترض للأمكنة في النصّ على كلّ حال. تقول: «هناك اختلافٌ ألمسه بين نصوص كُتبت في دمشق وأخرى جديدة في بيروت، ولكنّ هذا الاختلاف أراه مرتبطاً بالظرف والتجربة الشخصية أكثر من كونه مرتبطاً بالمكان نفسه. الفرق هو بين معيشةٍ مطمئنة في منزل العائلة وقريباً من كل أصدقائك ومن تعرفهم، وأخرى وجدت نفسك فيها تعارك التفاصيل اليومية أكثر في مدينة مثل بيروت. من الصعب أن يكُتب النص نفسه في الحالتين، ومن الصعب أيضاً أن تحدد بدقة أثر المكان على النص طالما أنت في المكان بعد. يوماً ما قد أستطيع النظر بحياد ومن زاوية أبعد إلى كل ما كتبته هنا في بيروت، عندها سأراها بوضوحٍ في هذه النصوص وأعرف كيف ظهر أثرها. لكنّ ذلك يبدو أمراً شاقاً طالما أنتَ موجود هنا الآن، على الأقل يبدو أمراً لا تريد أن تفكّر فيه».
ثمة أصداء ما نجده في كلام مديحة مرهش، بمعنى كونها تتعامل مع «الشعر والقليل من الصحافة الحرّة» لم يتغير عليها جو الكتابة»، إذ تجد أنها تحمل «الكتابة معي أنّى حللت وهي تحملني. لا يهمنا المكان إطلاقاً، لكن كوني سوريه خارج البلد وبظروف كهذه وما تمرّ به سوريا من أزمات وصراعات ودم يجعل الأمر قاسياً عليّ، يفتح بوّابات غربة وحنين ولوعة وألم وقلق تجعلني في دوامة، وكأنني لست في المكان الصحيح. فالمكان الجذر، المكان المولد والتاريخ والناس يعتبر صمّام الأمان للذين يكتبون والذين لا يكتبون، لكن كون بيروت مدينة أعشقها وهي ليست غريبة عليّ إطلاقاً، هي دمشق الثانية بفروقات بسيطة لا تذكر، خصوصاً من ناحية الجو الثقافي الذي نتعامل به أو نحن جزء منه، أو الذين يتعاملون بشكل صحيح مع الكتابة والثقافة (وهم قلة في سوريا). لم أشعر بأن تغييراً طرأ على كتاباتي، لكنني شعرت بتغيّر المكان والناس قليلاً. أحسست أن المكان هنا في بيروت صار له نكهة أخرى غير تلك التي كانت في قلوبنا وذاكرتنا الجميلة. هناك شيء اختلف لم نعهده ببيروت من قبل، ربما ظروف الحرب. لا أعرف تحديداً لكنني استطعت أن أتابع كتاباتي وما أشعر به من خفايا إنسانية في الحيّز، أو الميدان أو الدائرة التي أريد أن أكون بها».
الخارج والداخل
لطالما شكل المكان جزءاً أساسياً لرامي طويل، فيما يكتب، لكنّه ومثلما يقول ـ «لا يحضر بوصفه جغرافيا أعمل على توصيفها، وإنّما يحضر تماماً كما هو في الذاكرة. أقرب إلى طيف يمكن أن يحيل القارئ إلى تفاصيل يعرفها». من هنا لا يستطيع اليوم أن يحدّد «إن كانت كتابتي قد تأثّرت بتغيير المكان. فعلاقتي بالمكان ملتبسة منذ الطفولة وربّما يكون المكان بالنسبة إلي هو ما يبقى منه في الذاكرة بعد مغادرته. لقد عرفت بيروت لسنوات قبل الآن والمفارقة أنّني عرفتها قبل أن أعرف دمشق، فمغادرتي الأولى لمدينة اللاذقية التي عشت فيها النصف الأوّل من حياتي كانت نحو بيروت لأعيش فيها سنوات قبل العودة إلى اللاذقية ومن ثمّ إلى دمشق، وهناك اكتشفت كيف سكنت جغرافيا بيروت بعض القصص التي كتبتها والتي لم تكن موجودة فيما أكتبه وأنا أعيش فيها. وربّما هذا ما يفسّر حضور جغرافيا دمشق واللاذقية اليوم بشكل أوضح فيما أكتبه وأنا أقيم في بيروت. لعلّها لعنة الذاكرة التي تتقد عند الإحساس بالفقد، فترغمك على تذكّر تفاصيل لم تنتبه إليها وأنت تعيشها. على كلّ حال فبيروت مدينة تشبه دمشق إلى حدّ كبير، وإن كانت أكثر شبهاً ربّما بمدينة اللاذقيّة. حركة الناس هنا لا تختلف عن الحركة في دمشق أو اللاذقية، كما لا تختلف إلا بتفاصيل دقيقة مشاعرهم وطريقة تعاملهم مع المكان ومع الآخرين. وهذا التقارب أيضاً واضح في الجغرافيا بين بيروت واللاذقية على وجه الخصوص. لعلّ الخلاف الجوهريّ بين بيروت ودمشق هو فيما تمنحه مدينة دمشق لقاطنها من إحساس بالألفة، والحميميّة بحيث يشعر أنّ بإمكانه مصادقة حجارتها وبيوتها العتيقة وزواريبها الضيّقة، فيشعر فيها أنه يعيش معزولاً عن العالم، تماماً كما هي حال البيوت الدمشقيّة التي كانت توفر لساكنيها كلّ ما يحتاجونه داخل جدرانها التي تعزلهم عن الفضاء الخارجيّ. بينما في بيروت تشعر أنك على صلة مباشرة مع العالم الذي يقتحمك حيث تكون وربّما يبعث ذلك شيئاً من النشاط والتحفيز على الكتابة فكلّ شيء هنا يمشي بسرعة فائقة حتى تخال أنه لا متسع لديك للحظة هدوء».
أيضا لا يجد ثائر ديب أنه كان «للمكان كبير أثر على نوع الكتابة الذي كنت أمارسه (الترجمة والمقالة والبحث)، هذا ما أظنه. الأثر الكبير الآن هو أثر الحدث ذاته الذي غيّر إلى حدّ بعيد موضوعات الكتابة: من الثقافة والفكر النقديين إلى الكتابة السياسية المرتبطة بالتطورات؛ وغيّر أداة الكتابة: من الورق المطبوع إلى شاشة الحاسوب؛ وغيّر تواتر الكتابة باتجاه القلّة والبطء: ليس بسبب تسارع الأحداث فحسب بل خجلاً من الدم أيضاً ونفوراً من كتابة باتت تنفث عفناً وجثثاً وطوائف. ربما كان الجديد الذي جلبه تغيّر المكان هو الوقت الذي يسمح بالتفكير في تنفيذ الخطط الكتابية التي كانت مؤجّلة بسبب ضرورات العيش التي لا تحتمل المشاريع الطويلة.
ويرى سحبان السواح أنه بقي فترة طويلة من الزمن حين حكوا «لي عن الدمار الذي لحقه والحفر التي أحدثتها القنابل فيه بقيت أثرها لأسابيع طالت بمزاج سيئ ومتعكر فقد دمروا جزءاً من تاريخي الشخصي. من هذا المنطلق فالمكان الطارئ أو مكان اللجوء لن يعطي دفئاً كما الزمكان الذي عاش فيه المرء فترة طويلة من حياته. ويختلف الأمر من بلد لجوء إلى آخر فأنا الذي بدأت لجوئي إلى مصر والقاهرة تحديداً، ورغم القذارة التي تمكنت من شوارعها وبيوتها ومحلاتها، إلا أن ناسها بطيبتهم وحنانهم وسهولة التعامل معهم جعلت لي هناك بعض ذكريات قد تجد منفذاً لها أثناء كتابتي من دون إصرار مني على فعل ذلك». هذه المقارنات تجعل سحبان يقول «كنت وخلال فترة إقامتي في القاهرة أفكر ببيروت ونظافة شوارعها وبباراتها ومقاهيها وأبنيتها، فهي المدينة الثانية بعد دمشق التي لها في ذاكرتي الشيء الكثير. ولكن هذا الشيء دُمر، فحين انتقلت لاجئاً لا سائحاً اكتشفت حجم البرود الذي يسكن في حجرها في بيوتها وناسها. وناس بيروت اليوم ليسوا من اللبنانيين فقط بل أصبح السوريون ينافسون سكانها الأصليين في تواجدهم الكثيف في شوارعها، أعترف بأنني لن أتذكرها إذا طال بي العمر سوى كمدينة باردة عشت فيها قسوة لم أعشها طوال سني حياتي الطويلة ومقارنة بأسفاري الكثيرة.
وبعيدا عن الكتابة وهمومها، وتأثير الأمكنة عليها، يرى ديب أن «الأهمّ من هذا كلّه، ومن الكتابة والكتّاب والمشاريع، أنني أريد وطني وشعبي وأمكنتي هناك. أريد أن يعود إليّ كلّ ذلك وأعود إليه، لا كما كنا في الماضي الذي أعلم أنه انتهى إلى غير رجعة، بل كما ينبغي أن نبدأ رحلة جديدة تنطلق من وقف المجزرة وسيل الدماء والألم باتجاه آمال الناس وحقوقهم المشروعة ومستقبل الذين سيولدون ويكبرون».
إسكندر حبش
السفير