صفحات سورية

الأمن والفساد في «دولة» الأسد


سعدو رافع *

سبعة عشر جهازاً أمنياً أنشأها حافظ الأسد كانت كفيلة بتثبيت حكمه ونقل السلطة إلى ولده بعد مماته من دون أن يعكر صفو هذه اللحظة الحرجة شيء.

نعم لقد استطاعت هذه الأجهزة تثبيت حكم عائلة الأسد لما يقارب الأربعين عاماً، لكنها أيضاً وخلال سعيها لتثبيت الحكم ثبتت قيم الرشوة والفساد والتبعية في كل مناحي الحياة السورية.

أولى المهمات التي كان يعرف بها كبار رجال الأمن هو ترشيحهم للأسماء التي ستتشكل منها الوزارات وقيادات الحزب العليا. فلم يكن لوزير أو أمين فرع لحزب البعث أن يكون ما كانه لو لم يكن سجله «نظيفاً» من وجهة نظر الجهاز الأمني المعني بالترشيح. وكثيراً ما تداول السوريون النكات حول أشخاص تم «شحطهم « من منازلهم ليلاً بلباس النوم ليبلّغوا أنهم سيكونون غداً ضمن تشكيلة الوزارة الجديدة أو مديرين عامين لإحدى مؤسسات الدولة، ولم تكن مهل الاستشارات لتشكيل الحكومة أو قرارات تعيين المديرين العامين المذيلة بتواقيع الوزراء سوى لزوم ما لا يلزم لإعطاء العملية طابعاً بروتوكولياً حرص النظام على عدم الإخلال به أمام الإعلام و «الجماهير الكادحة».

كان الجميع مرتهناً للأجهزة الأمنية، وكل المسؤولين يعلمون أن من «شحطهم» ليبلغهم بمناصبهم الجديدة قادر على «شحطهم» مرة أخرى لجزهم في أقبية الأمن بتهمة الفساد وزعزعة أمن الوطن. لذا فقد كانت طلبات رجال الأمن (وهي شفاهية دائماً) بمثابة الأوامر ذات الضرورة القصوى والأولوية لتنفيذها، بدءاً بطلبات تعيين الموظفين، وليس انتهاءً بالتوقيع على المناقصات والعقود التي لا بد أن لأحد رجال الأمن المصلحة الكبيرة فيها. وبالمقابل فإن كل عقد وكل إجراء قام به مسؤول، وزيراً كان أو مديراً عاماً، هو بحد ذاته وثيقة دامغة لدى الأمن بتورطه بالفساد وباستخدام منصبه للتربح والمنفعة الخاصة وبإهدار المال العام.

ولم يكن أمام هؤلاء المسؤولين سوى خيار القبول، فمنهم من قبل بتنفيذ الطلبات من دون أن تمتد يده «للمال العام» وهم قلائل، ومنهم من سارع للتنفيذ، وبدأ «بلحس أصبعه» من مغانم الصفقات.

كانوا جميعهم متورطين وغالبيتهم مستفيدين.

أما بالنسبة للأمن فقد كان هؤلاء المسؤولون أشبه «بخراف العيد» المعتنى بها لساعة الحاجة. وساعة الحاجة هذه موقوتة على ساعة رأس النظام، الذي بيده وحده قرار تبييض الوجه الحكومي وتبييض السجون.

لقد عرفت سورية على مدار حكم الأسد الأب ومن بعده الابن، الكثير من حالات محاكمة مسؤولين وعزل مسؤولين والحجز على ممتلكاتهم وأموالهم، وحتى انتحارهم بعد أن بان «فسادهم» كما حصل مع رئيس الوزراء الأسبق محمود الزعبي، الذي عاش في كنف النظام طيلة عمره المهني وكان رئيس المؤسسة التشريعية والمؤسسة التنفيذية بعدها لقرابة العشرين عاماً. لكنها نادراً ما سمعت عن عزل مسؤول أمني أو محاكمته بتهمة الفساد أو الإفساد.

ومن باب التكامل فقد كان لا بد من ربط العمل الحكومي بالاقتصادي من وجهة نظر أمنية، ضماناً وحماية من أي تحالف قد يشذ عن نظرة «القائد».

لا يعمل مع هذه الشريحة سوى رجال الأمن المحظوظين والمرضي عنهم من القيادة في شكل كامل، فهنا المال والمتعة، هذا المكان هو مكان حصد نتائج الولاء، وبناء مستقبل زاهر للأولاد بعد ضمان تقاعد يشبه تقاعد الأمراء.

كان على كل رجل أعمال أن يبني أفضل العلاقات مع رجال الأمن فهم حماة أعمالهم وهم الجهة الوحيدة القادرة على طي ملفات هيئة الرقابة والتفتيش أو فتحها حسب الحاجة، وهم من يحدد الفائزين بالمناقصات الكبيرة.

بل إن دائرة نفوذهم قد توسعت بعد ولوج سورية في ما بات يُعرف اقتصاد السوق الاجتماعي وانفتاح الاستثمار في قطاعات الاتصالات والمصارف وشركات التأمين، التي كانت جميعها تحت رقابة الأجهزة الأمنية تحت ما يسمى هيئة مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.

وخلال سنوات قليلة تحول ضباط الأمن إلى مستثمرين وشركاء لكبار رجال الأعمال مقابل خدماتهم التي لا تعدو كونها درء الأذية عن العاملين في هذا القطاع.

وبمراجعة بسيطة نجد أن معظم ضباط الأمن الكبار، أصبح أبنائهم هم رجال الأعمال الجدد، حيث شكلوا أقوى تحالف مع النظام تحصد سورية وشعبها نتائجه اليوم في ظل الثورة، وقدرة النظام على الاستمرار حتى الآن.

أما الشريحة الأكبر عدداً والأوسع انتشاراً وهي شريحة «الكادحين وصغار الكسبة» حسب أدبيات البعث في تعريفه لشرائح المجتمع، فقد كان يكفي لقمع هذه الطبقة من قبل الأمن هو تركها لتماثيل «القائد» والمخبرين وأمناء الفرق والشعب الحزبية. فقد كانت هذه التشكيلة قادرة على حبس أنفاس المواطنين إلى أبعد حدود، وفي حالات الضرورة يمكن لجهاز الأمن أن يتدخل مباشرة.

والأمن في هذه الحالات لا يتدخل إلا لهدفين، الأول تأديبي عقابي يطاول الشخص المعني، والثاني هو منفعة (على مستوى العناصر وصف الضباط) قد يحصلون عليها بطرق ابتزازية.

ومن المفارقات الغريبة في سورية هو أن معظم المخبرين (إن لم يكونوا كلهم) الذين يعينهم الأمن، معروفون من قبل الأهالي. إذ لم يكن الأهم هو ما يقوم به هؤلاء المخبرين من كتابة التقارير عن كل شاردة وواردة، بل كان هو إظهار حضور السلطة الأمنية في كل زاوية وتحت كل حجر في سورية.

في كل ما ذُكر فإن الجهة الوحيدة التي كانت معفية من الملاحقة والعقوبة (إلا بعد موافقة القائد) هم «طبقة الأمن» ولا أحد غيرهم، وفق قانون سنّه لهم «القائد» تعزيزاً لدورهم الرائد في بناء نظامه المغلق، نظام «سورية الأسد».

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى