صفحات الثقافة

الأميرالاي وحنظلة ناجي العلي!/ محمد ملص

 

 

 

من مفكرة عام الثمانين

 

كان للتعثر الذي يواجهه تحقيق فيلم “القرامطة”، أن دفع بحس السخرية الذي يتصف به عمر أميرالاي أحيانا، لأن يطغى على الكثير من المداولات خلال لقاءاتنا اليومية. وأخذت الصور الموشاة بنزعة “التقريق/ التهكم” تؤجج خيالاته، فلا يوفر أحدا أو شيئا. وهذا ما كان يتجلى خلال حركتنا في شوارع دمشق، ومنح جولاتنا مذاقا ممتعا يخفف قليلا من المصاعب والهموم التي تسود الحياة اليومية والتي نتوقف عندها في ما نراه.

 

كنا نسير ونتأمل الأحوال والوجوه التي تصادفنا، فيتـفتـق لديه الخيال، كما لو أن شخصية حكيمة وساخرة كشخصية “جحا” بتعبيره عن الوجدان الشعبي الذي يحول المأساة دائما إلى ملهاة، هبطت اليوم في دمشق وتواجه ما نعيشه عبر “النكات” التي تعبر عن ذاته الذكية والساخرة.. لقد استطاع جحا أن يخلق من نفسه اثنين، واحدا يواجه الموقف، وآخر يتفرج عليه ويسخر منه.

 

فمن المعروف أن زاوية الرؤيا التي تتبدى لنا في طرائف شخصيته الشعبية تستخدم ذاك التمييز بين الضحك والبكاء وتستخدم أسلوب السخرية لمواجهة شقاء الحياة. فاندماج الإنسان في الموقف يضنيه، وخروجه منه وفرجته عليه يسري عنه ويضحكه.

 

حين كان الخيال يبلغ بنا أقصاه، كان يبدو لنا أننا نسير كأننا نبحث عن “حنظلة” ناجي العلي في ما نرصده من  الوجوه التي تقف على الأرصفة وقد شبكت كفيها ببعضهما وراء ظهرها ولا حول لها.

 

أما كيف؟ وأي صيغة؟!، فقد كنا نعتقد أن لدينا ما يكفي من الوقت، في انتظار الفرصة المناسبة لكي نبدأ العمل عليها. ولم أكن أفاجأ حين ألتقي عمر في بيته، وأن أجد على طاولته، الكثير من الرسومات الجميلة التي رسمها لهذه الشخصيات، ويتخيل من خلالها الشخصيات في أوضاع متعددة من المواقف الدرامية… أتذكر على سبيل المثال رسومات لجحا معتقلا، وحنظلة يهبط قاسيون وهو يحمل رغيفا، ويطارد بيضة تتدحرج من الأعلى نحو الشارع العام.

 

أعتقد أن عمر كثيرا ما يلجأ إلى بعثرة فكرته، في موجات الحذر من الوقوع في المألوف، وهوسه في التأمل “المناحر” للسلطة. ويبدد الفكرة، بدلا من أن ينهض بها لتقف على قدميها. فنختلف في المحاكمة، وفي منطق المحاكمة، وبذاك الحرص المسبق من السقوط في التقليدي. لذلك كنت أحس أحيانا أنه أشبه بحيوان أسطوري برأسين، أحدهما يتدفق بالأفكار الذكية والجميلة والهامة، والآخر يضع رغبته السياسية أمام العربة، والفكرة خلفها.

 

في الحوار الذي لم ينقطع، بدا لي وكأنه يعاني من رد الفعل من الأحوال المتعسرة في إنتاج سيناريو “القرامطة”.

 

كان أهم شيء بالنسبة له أن يبطن ذلك بقناع من القوة… معبرا عن ذلك بالخوف من الــ” standerd – المتبع. وأنه لا طريق إلا التجديد الكلي في لغة التعبير.

 

لم يتحمس لمشروع سيناريو “الأبله” الذي أنجزته عن الصديق القنيطري العائد اليوم من رومانيا بــ”دكتوراه ” في الأعلاف.

 

وقد بدا لي بتجنبه الحديث عن الحال الخاص للشخصية، التي هي الأساس في السيناريو، أنه يريد أن يعلن بوضوح  “أنه ضد التعبير عن حالة الفرد خاصة – المثقف”.

 

لم يكن هذا بالنسبة لي، إلا من بقايا تلك النزعة الوثائقية التي كانت تحكمه، قبيل المرور بتجربة “القرامطة”. وأن السؤال الجوهري بالنسبة لي هو “كيف” وليس “من”. وأن حالة الفرد تكتسب تعميمها في لحظات تماسها مع وجدان وذاكرة المتلقي.

 

وشعرت برغبة في أن أعف عن الاستنتاجات، أو عن التقاط الأفكار المتناثرة، التي كانت تهرر أمامي كقطع من البلور المتكسر، في حين كنت أبحث بدأب عن جمر الحماسة في روحنا.

 

كنا حينها كلما التقينا من جديد، كنت أحس أن أحوالنا أخذت تصبح أكثر عصبية، وأننا نحس بشيء من الاختناق. وهذا ما دفعنا في لحظة من اللحظات، إلى التفكير بإعادة كتابة مشهد النهاية في سيناريو “القرامطة”، ونجاح الثورة المضادة في القضاء على دولتهم. فاخترنا إحساسنا بالاختناق أن يكون هو ذاته في اللحظات الأخيرة من حياة الحسن الأعصم  قائد قرامطة تلك الدولة.

 

***

 

… ومع كل لقاء بدأت أشعر أن أحوالنا تزداد اختناقا، والظروف العامة تزداد تعقيدا واستعصاء… لم يبق لنا إلا الانغماس في “النادي السينمائي”. فلا نكل ولا نمل من إعطاء هذا النشاط كل الوقت، وكل ما لدينا، حضورا وممارسة يومية.

 

نبحث عن الأفلام لعرضها، نحملها على أكتافنا، ندعو الرقابة لنعرض لها الفيلم، نكتب ونطبع ونوزع النشرات. ننظف المقر، نسيّر المجاري، نصلح الكهرباء، نتدبر الأموال لإعادة وصل الخط التلفوني، نطلي الجدران المتقشرة، نجفف المياه المتجمعة من الأمطار، نبيع بطاقات الدخول، نستقبل الضيوف والرواد، نشغل آلات العرض، نناقش الأفلام… ويوميا مهمات طارئة وأخرى جديدة لا تخطر على البال.

 

ملتقانا في كل يوم يبدأ ولا ينتهي من البوح والحوار، وتبادل الهواجس والأفكار. في السياسة، الحب، الماضي، الذاكرة… وهلوساتنا  تبدأ من البحث عن الإنتاج، وتنتهي في ذاك النزوع الصوفي إلى التجديد والبحث عن اللغة الخاصة في التعبير. وفي الطموح الذي لا يتزعزع إلى التميز السينمائي. فكنا نبدو مع  نهايات الليل، كأننا مصابون بالهستيريا. وأننا نعيش في مصحات نفسية.

 

بعد أيام فاجأني عمر وأعطاني نصا طويلا بعنوان حنظلة (كان بخط يده) وهو عبارة عن مشاهد بصرية جميلة ومثيرة للغاية، تصف شخصية حنظلة بعد أن يصحو من توقيفه لدى الشرطة، وهو يتحرك في شوارع دمشق، ويتصادف مع شخصية وثائقية كانت معروفة بدمشق يطلق عليها الناس “المجنون”. ثم يلتقي بشقيقه بائع الألبسة القديمة على عربة في سوق شعبية، ويزور شقيقته في ما يشبه بيتا دمشقيا كبيرا عتيقا تعيش في داخلة أوساط شعبوية وعشوائية…

 

المشاهد مكتوبة بتفاصيل دقيقة وشيقة، وتبدو كتصور أولي لمشروع سيناريو (وهي في الواقع أشبه بـ “ديكوباج” لسيناريو في رأسه). تدل مرة أخرى على أن عيني هذا السينمائي تتمتعان بقدرة خارقة على تسجيل ما تراه بوثائقية تفصيلية للوسط الشعبي وشخصياته، مهما تبدو هذه التفاصيل صغيرة وهامشية، وتوظيفها في سياق يحمل الكثير من الدلالات…

 

كان نصا جميلا وهاما إلى الحد الذي تشتهي في هذه الأيام، أن تنطلق منه وتطوره وتحقق منه فيلما. فيلم بالإضافة لكونه تحية لمن فكر به قبل سبعة وثلاثين عاما، لكنه سيكون ذا أهمية راهنة أيضا.

 

لكني لا أتذكر فعلا، ما الذي جرى بعدها، وبقي النص على حاله لدي، كغيره من المشاريع الكثيرة. ما يزيد من أسفي هذه المرة، أنه لم يكن فكرة فقط، بل “معالجة” أولية لفيلم روائي طويل (حوالي إحدى عشرة صفحة) وهو يستحق بعد تدقيقه، أن يكون إلى جانب غيره من النصوص، التي يمكن أن يكون قد كتبها عمر، ولم يتسن لي معرفتها. القيام بجهد حقيقي وعملي لتوثيق هذه الشخصية بما كتبته وما حققته، إذا وجد من يسعى إلى ذلك.

 

وإذا كان ما كتبته آنذاك فيه وصف للقليل من اللحظات، فإنه لم يكن لي أبدا نسيان المشاعر والأحاسيس المغمسة بالتوتر، والحنق، والغيظ، التي كانت تحتل أرواحنا… ولا أنسى أبدا، كيف كان كل لقاء ينتهي بنا إلى نوبات غير طبيعية من الضحك، والسخرية بصورة لا يمكن وصفها، إلا بكونها نوبات هيستيرية.

 

ولم يكن لي أن أصف الأجواء والأحوال التي كنا نعيشها والتي لا علاقة لها بالسينما بل بالبلد كله.

 

***

 

آب العصيب:

 

الناس تائهة. كتيمة. مشبعة بالغيظ…عنف، قتل جماعي، إعدامات، متفجرات.

 

امرأة تقطع أطفال أخيها قطعا.

 

اغتصاب وعهر دبـق.

 

حرارة، عطش، وهن، طعم غبار، رائحة المازوت. فاللحظة الراهنة لزجة ومغمسة في الخراء.

 

ولعل انفرادنا بصداقتنا، وتمركز هذه الصداقة حول محور هذه الظروف الصعبة، في هذه الأجواء المخيفة المحيطة بنا، لم يترك أمامنا خيارا آخر إلا أن نلتقي. وأننا نحسب أعمارنا ليس بالأيام أو السنوات، بل بلقاءاتنا وفي ما نفعله وما نحققه سينمائيا من فاعلية أو نشاط أو أفلام. وأن هذه اللقاءات هي التي تصيغ تجربتنا من جديد. وتعيد صياغتنا نحن. وربما هي التي تحمينا من كثير من الأمراض، التي من الممكن أن تنبت في وجداننا في هذه المرحلة.

 

في أحد تلك النهارات تـزحلقـنا معًا – عمر وأنا – بنقاش حاد ونحن نبحث عن طريق للخروج من هذه العطالة… لعلها المرة الأولى التي يتصف بها نقاشنا بشيء من العنف في الرأي والأفكار التي نحاول الوصول إليها. فتدخلت والدته في اللحظة المناسبة – كعادتها – وأسعفت الأمر بمودة، وأمسكت بزمامه وأدارت دفته…

 

ثم أخذت تؤنبنا بنزق وحسرة:

 

– لك من أول عمركم وأنتم قاعدين، وما في غير هـالبيضة يلي اسمها سينما، وعلى غرررر.. غررر.. وحكي، ساعة سياسة، وساعة فلسفة… وشي نقد وشي نادي سينمائي!

 

طأطأنا رؤوسنا ووافقنا على رأيها بأن نعمل على أكثر من صعيد، وعلى إعداد المشاريع الاحتياطية…

 

وحين ذهبت لتعد لي القهوة لرواق الدم، تناهى إلينا صوتها من المطبخ وهي تقول:

 

–         لك التفتوا إلى التلفزيون! اشتغلوا أي شيء!.. ولك شو بكم؟!

 

أحضرت القهوة وتابعت النصائح بهدوء وسماح وقد قضمت غضبها:

 

–         وإذا زاد عندكم وقت بعدها، بتقعدوا وبتكتبوا السيناريوهات يلي بدكم  اياها.

 

انتهى الأمر بأن أعلنا لها بأننا سنقبل أي شيء قد يعرض علينا.

 

وعندما ذهبت إلى النوم، تخيلنا الأمر الذي أعلناه لها، فتولد في داخلنا رعب موحش، ربما أكثر وحشة من العطالة ذاتها. وبلا اتفاق معلن وجدنا أنفسنا نعود إلى “البيضة” ذاتها لنركن فوقها، ولم يكن لنا خيار آخر إلا الغررر.. غرر.. غرر..

 

في طريق العودة إلى بيتي تساءلت مع نفسي: لماذا اعتقدت منذ أن شاهدت للمرة الأولى في معهد السينما، فيلم فرانسوا تروفو “الأربعمائة ضربة”، أن الأربعمئة ضربة لا تعني بالنسبة لي إلا أن قلب الإنسان عند ذاك الحد يتوقف؟ فالأربعمائة ضربة هي الحد الأعلى للاحتمال. ربما لأني أحببت هذا الفيلم كثيرًا، اخترعت لنفسي هذا التفسير، وروضتها على تحمل المزيد والمزيد. لذلك سألت نفسي كم عدد ضربات قلبي هذه الأيام؟

 

وإذا كنا عاجزين الآن عن قول الحقيقة، هل نؤجل القول؟ أم  نهتدي ببريخت لمواجهة الصعوبات في قولها. أم أن هذا الواقع أفرز صعوبات لم تخطر في بال بريخت أو فيرتوف.

 

وهل لنا إلا السقوط في هذه الكوميديا المبتذلة. فالواقع غدا من الخوف ضد نفسه، ويمضي تدريجيا ليكون عدو نفسه.

 

2 / 8

 

فيما كنا نطل على دمشق من أعالي قاسيون، أخذ عمر يتأمل دمشق ويفكر بمشروع جديد عنها. وقال “دمشق” يا صديقي!

 

نظرت إليه وهو يرى دمشق في الأسفل، فبدا لي في تلك اللحظة، أشبه بــ”رب” يتأمل مخلوقاته المتروكة في هشيم الذنوب التي ارتكبتها بحق نفسها. وشعرت أني أمقت علاقة الرب بمخلوقاته، وأني أميل إلى علاقة المخلوقات بخالقها، فهي أكثر أخلاقية ومشبعة بالمشاعر الوجدانية في ما تعيشه من هفوات وأخطاء وذنوب.

 

فقلت له إن ما آلت إليه دمشق، يجعلني أخاف عليها بين يديك يا عمر! ما يحزنني أنا المصير الذي تمضي نحوه، ولامبالاة أهلها بها. فهل تريد أن تتشفى أنت؟! أخاف يا عمر! أن تغدو دمشق بين يديك ذبيحة وسط حشد من المتفرجين!

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى