مراجعات كتب

“الأميّة” أغوتا كريستوف تولد من الكتابة وعداوة 3 لغات

 

 

محمد أبي سمرا

بعد الترجمة الرائعة التي أنجزها الشاعر الراحل بسام حجار لروايتَي أغوتا كريستوف، “أمس” و”الكذبة الثالثة”، أنجز محمد آيت حنا ترجمة لا تقلّ جودة لمجموعتها القصصية السيريّة، “الأميّة”، المنشورة لدى “دار الجمل” في مطلع 2015، استهلها بمقدمة تعرّف بالكاتبة وحياتها وأدبها، واختتمها بترجمة مقابلة صحافية معها، وبعددٍ من المقالات النقدية التي تتناول أدبها الروائي.

بتقشّفٍ صلب مثابر، ومن صميم قسوةٍ صامتة، جافة، كسيرة حياتها، تكتب أغوتا كريستوف جملها قصيرةً، مباشرة، وبدلالة دقيقة ثاقبة، واحدة في معناها الحاسم، من دون ظلالٍ ولا إيحاءات، ولا ميل الى الإنشاء وتعدد المعاني وتكثيرها. فهي تكتب من دون أن تكترث بالأسلوب أو الأسلبة، وضد سيولة اللغة والكلام. حتى أنها لا تكاد تروي، بل تحذف السرد الروائي، لتكتب على طريقة إميل سيوران شذرات أو توقيعات روائية، مستعيرة من الشعر كثافته وتقطيره، لتلغي شعريّته وتجعله كلاماً خَبَرياً خالصاً، طالعاً من صميم التجربة المادية العارية. وعلى الرغم من أن نصوص “الأميّة” مكتوبة كلها بضمير المتكلم الفرد، فإنها “لا تتموضع” في إطار روائي زمني ومكاني، على ما أشارت الناقدة مارتين لافال في مقالة لها عنوانها “غريبة الى الأبد”.

كاتبة العداوات الثلاث

تستهل كريستوف توقيعاتها القصصية الأولى في “الأميّة” على النحو الآتي: “أَقرأُ. الأمر أشبه بالمرض. أقرأُ كل ما تقع عليه يداي أو عيناي (…)/ أنا في الرابعة من عمري. الحرب (العالمية الثانية) بدأت لتوها./ كنا نسكنُ آنذاك في بلدة صغيرة، لا محطة فيها، ولا تتوفّر على الكهرباء، ولا المجاري، ولا خطوط الهاتف”. بلا شروح، ولا استطرادات، ولا تفسير، تُخبِرُ أن والدها كان “المعلم الوحيد في البلدة”. كلما أرادت أمها استبعادها من البيت عقاباً لها كانت ترسلها الى الصف الوحيد في مدرسة والدها، فيعطيها “كتاباً مصوراً” لتجلس في “أقصى القاعة”، حيث “أصابني مرض القراءة الذي لا شفاء منه”. في الرابعة عشرة من عمرها التحقت بمدرسة داخلية كانت في “منزلة ما بين الثكنة العسكرية والدير، ما بين الميتم والإصلاحية”. من اليتم والألم والقسوة والصمت في هذه المدرسة، وُلدِت الكتابة على “ما يشبه دفتر مذكرات”، متزامنةً مع تشرّد أسرتها: افتراقها عن أخويها ووالديها، فيما بات أغراب يسكنون منزلها العائلي في بولونيا نهاية الحرب العالمية الثانية، بعد الاحتلال النازي الذي أعقبه احتلال روسي – سوفياتي.

في الحادية والعشرين من عمرها هربت مع زوجها وطفلها الرضيع لاجئة الى سويسرا، حيث ” ألفيتُ نفسي بالمصادفة المحض في مدينة يتحدث سكانها الفرنسية المجهولة تماماً بالنسبة لي”، “في ذلك اليوم من أواخر تشرين الثاني 1956، فقدتُ الى الأبد انتمائي الى شعب”، والى لغةٍ ايضاً. لكنها بعد 30 سنة من اللجوء والإقامة في سويسرا وفي

كنف اللغة الفرنسية، وُلدِتْ ككاتبة، من “عداوتها” لثلاث لغات – احتلالات: اللغة والاحتلال الألمانيان، ثم اللغة والإحتلال الروسيان – السوفياتيان لبلادها المجر، وأخيراً لغة

اللجوء الفرنسية التي رمتها لسنين في الخرس والصمت والعزلة.

عداوة ستالين والزواج والموت

“يوم وفاة ستالين ذهبَ الراقص الروسي رودولف نورييف، المنشق الشهير (لاحقاً)، الى خارج المدينة (قاصداً) البرّية (منتظراً) ان يحدث شيء عظيم، ان تستجيب الطبيعة للفاجعة. (…) كلا. لم تزلزل الارض الا ستة وثلاثين سنة بعد ذلك. (…) كان علينا انتظار كل تلك السنوات حتى يموت ابونا”، أي ستالين والنظام التوتاليتاري السوفياتي، مخلّفين ملايين الضحايا، ومُنزلين “افدح الضرر بالفلسفة والفن والادب في بلدان شرق أوروبا”. عن معسكرات اللجوء في سويسرا تكتب بأسلوبها المقتضب المتقشف: “اثنان منا عادا الى هنغاريا. شابان ذهبا ابعد، نحو الولايات المتحدة وكندا. اربعة آخرون ذهبوا ابعد وابعد، تجاوزوا الحدود الكبرى، كانوا من معارفي، وانتحروا إبان عامَي منفانا الأولين”.

هي العاملة في مصنع للساعات السويسرية، صارت حياتها

اشبه بـ”الصحراء. صحراء اجتماعية، صحراء ثقافية: ايام عمل كئيبة، أماسٍ صامتة،

حياة جامدة، بلا تغيير ولا مفاجآت ولا أمل”. هذا قبل تمكنها قليلاً من اللغة الفرنسية، وتدوين ما يشبه مذكراتها، مستعينةً بالقاموس.

بعد سنوات كثيرة “اتجوّل في برلين رفقة مترجمتي. نتوقف امام المكتبات. في الواجهات روايتي الثانية. وفي منزلي رواية “الدفتر الكبير” (الاولى) مترجمة الى 18 لغة”. جوابا منها عن سؤالٍ وهو عنوان لقصة “كيف يصير المرء كاتباً؟”، تكتب: “ينبغي في البداية أن تكتب، بالطبع. ثم ينبغي

بعد ذلك الاستمرار في الكتابة. حتى حين لا يثير الامر اهتمام احد”. لكنها في المقابلة الصحافية معها، المنشورة في “ملف” ختامي مرفق بترجمة “الأمية”، تجيب عن سؤال:

“كل الاشياء سواء، حتى الكتابة. لقد منحتني الكتابة الكثير، لكنها ما عادت تمنحني الآن شيئاً”. في موضع آخر من المقابلة تقول: “حين تصير لا شيء، فقط آنذاك تستطيع ان تصير كاتباً”. ثم تذهب أبعد: “لمَ على المرء ان يستيقظ صباحاً، ما دام كل شيء سيان؟”. هذه الكلمة الاخيرة هي ايضاً عنوان احد كتبها. وحين تسألها الصحافية: “مع ذلك لا تزالين ترغبين في الحياة؟”، تجيب: “ليست لديَّ ادنى رغبة في الموت. اجد الحياة قصيرة جداً. بعد الحياة سنكون ميتين طوال الوقت”. وتقول ايضا: “تزوجت مرتين. اسوأ ما في حياتي هما زوجاي. أمقتُ الزواج. انا سعيدة لأنني خرجت سالمة من التجربتين. احب الرجال كثيراً عندما لا يكونون ازواجاً”. واخيراً: “احبّ أن أنام، لأنني اعلم اني سأحلم”. لكن في “المقابل تأتيني الكوابيس ايضاً: أُلفي نفسي في المدرسة (الداخلية) او متزوجة”.

التشاؤم العدمي الفطري

الأرجح ان تشاؤم اغوتا كريستوف العدمي أفدح مما لدى البولوني المنشق عن النظام السوفياتي والهارب الى فرنسا، اميل سيوران، الذي يكتب تشاؤمه العدمي في صيغ فلسفية وجودية، بينما تترك كريستوف تشاؤمها العدمي بلا صوغ، بلا تصريح. تستلُّهُ خفيّاً راعفا من التجربة الوجودية العارية او “الفطرية”، على ما يشير مترجم “الأميّة” في مقدمته، من دون تقليب معانيه على وجوه شتى.

لكن من هي أغوتا كريستوف؟

إنها من صنف كتّاب أوروبا الشرقية والوسطى المنشقين والمهاجرين من بلدانهم التي تلقت أقسى مآسي القرن العشرين، أي الاحتلاليين النازي والروسي – السوفياتي. وهي ولدت العام 1935 في قرية تشيكفاند المجرية، وهجرت بلدها ولغتها، شأن بيكيت وكونديرا وسيوران، وأقامت في مدينة نيوشاتل السويسرية، حيث وجدت نفسها في “وضع امرأة أميّة”، قبل أن تتبنى

اللغة الفرنسية، “مثل طفل يتعلم لغة ما” وهي في العشرين. تشرّبت الفرنسية والكتابة بها لتغرق في “النسيان” و”تمحو”. وصفها ناشرها الفرنسي في “دار سوي” الباريسية، في

نعيه لها بعد وفاتها العام 2011، بأنها “الوارثة الشرعية لأدب كافكا”.

اليوم، بعد ترجمة أربعة من كتبها الى العربية، يعكف مترجم “الأميّة” و”الدفتر الكبير” على ترجمة اعمالها الأخرى، لتنشرها تباعاً “دار الجمل”.

«الأمية» لآغوتا كريستوف.. الغريبة إلى الأبد

لينا هويان الحسن

في روايتها الشهيرة «الدفتر الكبير»، خَلَقَت الكاتبة الهنغارية «1935-2011» أغوتا كريستوف عالما خاصا: العالم الذي يمضي إلى حتفه، يرسم ملامحه طفلان توأمان وعجوزان يفرضان قواعد عيش غير معلنة، من دون خوف أو إحساس بالعار. من دون تخاذل أو ضعف. إنهم غير إنسانيّين، لكنهم على الأقل يحملون تلك الشرارات التي تجعل الإنسان يقاوم الرعب والاضطهاد.

في كتاب «الأميّة» الذي يروي حياة أغوتا كريستوف، بصوتها معظم الأحيان، والصادر حديثا عن دار الجمل، بيروت ـــ ترجمه محمد آيت حنّا، نطلع على رحلة صعبة قطعتها الكاتبة بين عالمين، الشرق الحميم والغرب السياسي. في قرية نيوشاتل السويسرية حيث المنفى الذي قُدّر لأغوتا العيش فيه حتى آخر أيامها، منذ ذلك اليوم الذي قطعت فيه الحدود الهنغارية ـــ السويسرية، مشياً على الأقدام مع طفلتها الرضيعة وزوجها وهي في سن العشرين. كانت قد بدأت مشوارها ككاتبة هنغارية اقتصرت نتاجاتها على بضع قصائد كتبتها باللغة المجرية، تركتها خلفها، مثلما تركت انتماءها العرقي واللغوي. وفي سويسرا سلّمها اللجوء إلى العمل في مصانع الساعات، وإلى قساوة النظام السويسري وغرابة اللغة الفرنسية. لقد ألفت نفسها مجدداً في وضع المرأة الأمية، هي التي كانت قد صارت تحسن القراءة في سنّ الرابعة. كان عليها إذن أن تتعلم اللغة على كبر، أن تبدأ دروس محو الأمية.

معظم ما يمكن أن نطلع عليه في سيرتها، سيحيلنا مباشرة على روايتها الأشهر «الدفتر الكبير»، حيث توأمان يدونان أهوال الحرب ويتعلمان معها تهجئة الحياة ومجابهتها بالقسوة اللازمة للبقاء، وفي نفس الوقت يتعلمان الكتابة والقراءة. ثمة كتابة مزدوجة في الرواية إذن، أغوتا تكتب الرواية وتتمرّن فيها على اللغة الفرنسية وفي الوقت نفسه بطلا عملها يتعلمان الحياة والكتابة والتعامل مع الكلمات. هذان المستويان من الكتابة، إذن بالإمكان أن نسمّيهما تجاوزاً، المستوى الفوقي والمستوى التحتي، سيرافقان مسارها السردي في مجمله.

يسجل التوأمان تلك الحكاية الفظيعة. لقد تُركا إلى العجوز القاسية والشتاء والجوع والحرب، تماما كما حدث مع أغوتا في طفولتها يوم تُركت لمصيرها مع شقيقها يانو. فعملا على تشكيل وجود خاص بهما: لقد تعلما أن التمرّد لا يجدي نفعاً، وأن من الجيد إطعام الحيوانات وسقي الحديقة وجني الثمار، وتقطيع الخشب، وتحميله على العربة، وأن يقوما بكل الأمور الضرورية.

وحشان يتابعان الكبار، ويترصدان مظاهر ضعفهم، حبّهم للفضائح، وخداعهم. يتعلمان عدم قول الحقيقة حينما لا يكون ثمة نفع من قولها. يتعلمان كيف يصمدان أمام تحقيقات الشرطة، وكيف يستعملان الناس كـ «أشياء لا غنى عنها».

«سيّان» هو العنوان الذي اختارته، أغوتا، لآخر أعمالها، المجموعة القصصية التي توضّح ضمنا موقفها من الحياة والكتابة، موقف يساوي بين الاحتمالات: لن يكون المرء سعيداً في بلد يضطهد حريّته، لكنّ سعادته غير مضمونة في بلد آخر. ما الفرق إذن بين الإقامة والرحيل؟

التشاؤم كامن في أعمالها، والقسوة حتمية والعزلة مدوّخة. أغوتا تعترف في إحدى إجاباتها المقتضبة في حوار صحافي أنها «عدمية»، لكنها تضيف قائلة: «ليس لديّ أدنى رغبة في الموت. أجد الحياة قصيرة جداً. بعد الحياة سنكون ميّتين طيلة الوقت. بإمكاننا إذن أن ننتظر حتى يصل وقت الموت».

أغوتا، بلغت تلك النقطة التي تصفها لدى إحدى شخصيات كتابها «سيّان»، حالة ذلك الرجل الذي كانت سعادته تتلخص في أشياء يسيرة من قبيل: التجول في الشارع، المشي بين الأزقة، الجلوس حين يأخذ به التعب. مع فارق أنها في سنواتها الأخيرة لم تعد قادرة على المشي، عقب عملية جراحية أجرتها لساقيها، فلم تكن تغادر شقتها إلا عندما تكون مضطرة. وأقلعت عن الكتابة خلال السنوات العشر الأخيرة من حياتها، بررت ذلك بقولها: «لا رغبة لديّ في الكتابة. بدأت كتاباً لا يزال ينتظر منذ عشر سنوات. لا رغبة لدي في لمسه، وما زال بعد لم يكتمل».

خلال حياتها، تزوجت مرتين، وصارت بعد ذلك تمقت الزواج: «أنا سعيدة لأني خرجت سالمة من التجربتين، كان الزواج يستحق العناء بالنظر إلى أنّي كسبت منه أطفالي، لكن بالنسبة إلى الأزواج، عندما قدم أخي الأصغر من هنغاريا إلى سويسرا ورأى كيف يعاملني زوجي الثاني قال لي: لم ينفعك في شيء العيش في بلد حرّ».

أيضا تصرح أغوتا: «أحب الرجال كثيراً عندما لا يكونون أزواجاً. بيد أن قصص الحبّ لا تستحق أن يُكتب عنها، إنها تافهة. إنّ كتب الحبّ هي ما أسميه كتب النساء. إنها كتب بلا أهمية تُذكر».

من تلك المزق المتناثرة من حياتها الشريدة، تلك النصوص المتشظية التي جمعتها وأعادت صياغتها، صنعت أغوتا كريستوف، رواياتها.

لينا هويان الحسن

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى