إيلي عبدوصفحات المستقبل

الأم السورية: مشهد الرثاء الدلالي/ إيلي عبدو

تُظهر الأم السورية قدرة لافتة على توسيع المأساة وتعميم صورتها عبر مقاطع الفيديو المنشورة في “يوتيوب”. ما تضخه من حزن وألم، عند رثاء ابنها القتيل،  يثبّت المشاعر عند لحظتها البدائية فينفتح المشهد الرثائي الأمومي على صور ووقائع وتفاصيل علاجية تعوض كارثة الفَقد. في هذا المشهد، يمتزج العاطفي مع السياسي، والقاتل تتأرجح هويته بين الوضوح والغموض، وندب الأمهات ليس مجرد صراخ وعويل، هو إدانة صارخة تختزن طاقة دلالية حادة.

فالأم المعارضة تُخرج، حين تبكي ابنها القتيل، كل ما تملك من موروث جنائزي ورثائي، وتسلّم نفسها لحالة من الغضب المونولوجي الموزع بين مديح الابن القتيل وبين الدعاء على الأسد الذي تسبب في موته. تحاول أن تعوض الفقدان المادي عبر ترسيخ فكرة الشهادة. الشهيد عندها أقوى من قاتله. فهو يدخل الجنة، في حين أن الثاني يمكث طويلاً في الجحيم عقاباً له على قتل ولدها. الأخت كذلك تدخل في مشهد الرثاء الأمومي المنشور يوتيوبياً، تتحول إلى أم ثانية، وتشارك في العبارات الانتقامية الموجهة ضد القاتل، بشار الأسد.

 الاستنجاد بالعدل الميتافيزيقي يبقى العلاج الوحيد عند الأم المعارضة التي تصرخ “الحمد الله ابني شهيد”. صورة الجسد المستلقي أمامها تبقى على حالها، بعد خلق معادل ديني لها، يضمن الحفاظ على الصورة الأصلية وينكر أي شبهة للتحلل المادي. يكتسب ولدها إذاً قيمة جديدة، بعدما كان معارضاً للنظام، بات شهيداً في سبيل معارضته، إنه تكتيك رثائي تستخدمه الأم المعارضة لمواجهة ما أصابها.

 الإدانة التي تحدد الأم المعارضة مسارها عبر انتقاد النظام ورئيسه تأخذ وجهة معاكسة لدى الأم الموالية التي ترثي ابنها، الجندي في القوات النظامية، فلا تظهر أي عبارة لإدانة الجهة القاتلة أو تحديد هويتها.

 ينفتح الرثاء هنا على غنائية – شعرية تستحضر تراث المنطقة التي تنتمي إليها الأم، وهي على الأرجح، إحدى مناطق الساحل. تروي الأم برثائية لحنية مرتجلة كيف قتل ابنها داخل أحد مقرات الامن في منطقة جسر الشغور بعد اقتحام قوات المعارضة للمكان وتخلي النظام عنه. تخبر كيف اتصل بها يطلب المساعدة من دون أن تتمكن من فعل شيء، بعدما تمكن منه الحصار مع بقية رفاقه من الجنود النظاميين.

 ثمة شعور قوي عند هذه الام أن ابنها مات بوصفه رقماً في سجلات النظام، لا وجود لقصة أو واقعة أو حادثة تجعل من موته موضوعاً للرثاء. تحاول توسيع حادثة الموت عبر سردها بالتفصيل ودعمها بجرعات من الدراما الرثائية المغناة. مقابل التجاهل الذي يبديه الإعلام الرسمي حيال سٍير وروايات و تفاصيل موت الجنود النظاميين الذي قتلوا في المعارك مع المعارضة،  تسعى هذه الأم إلى تثبيت قصة ابنها بوصفها حادثة صلبة لا تحتمل أي نسيان يسعى إليه النظام.

 بين الرثاءين، المعارض والموالي، تحضر الأم باعتبارها عاطفة ذكية تنحاز إلى ابنها وتعرف كيف تقاوم غيابه. كما يحضر القاتل بهويته المباشرة وتلك الغائبة، مرة يستقر في الجحيم قياساً بالشهيد الذي سيدخل الجنة، ومرة يلج في النسيان قياساً بالذاكرة الصلبة التي تحاول الأم الموالية تثبيتها عبر سرد وقائع موت ابنها وجعلها واقعة لا تقبل الدحض أو التعميم.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى