صفحات مميزةمنذر بدر حلوم

الأوليغاركية السورية والإعداد لمرحلة الما بعد

 


منذر بدر حلوم

في الوقت الذي ينشغل فيه معظم المثقفين وبخاصة المعارضين منهم بالسؤال عمّا يجب فعله وما يمكن فعله في زمنٍ, الداخلُ

فيه أسوأ من الخارج, وفي الوقت الذي تبحث فيه السلطة عن حيلة تجنّبها دفع ضريبة المتغيرات الدولية, في هذا الوقت يجد رأس المال السوري الأوليغاركي نفسه مضطرا, تحت ضغط ضروراته الذاتية وضغط قوانين رأس المال عموما, إلى أن يلعب لعبته التي لا يُتوقع أنها ستأخذ بعين الاعتبار المثقفين أو مواطنيهم أو حتى السلطة (الأم) نفسها, عند اقتضاء الأمر. فقد وصل رأس المال الأوليغاركي السوري, وهو رأس مال عام منهوب أو موزّع بمحاصصة مقوننة, وصل في حجمه وطموحاته وبالتالي مشاريعه التوسعية إلى عتبة تضعه أمام التساؤل عن قدرة السلطة الحالية, بشكلها الحالي, على الاستجابة لمتطلباته المستقبلية وحماية مشاريعه. وعند هذه العتبة لا يعود للعواطف معنى ولا لانتماءات الدم قيمة تذكر. بل إن مفهوم الرعاية نفسه يتغير. ذلك أن رأس المال يتحول, بعد عتبة معينة, من رأس مال محلي, تكاد تكفيه الرعاية المحلية إلى رأس مال عالمي لا تفيده كثيرا بنادق الكلاشينكوف والشعارات المعلّقة على الصدور, وآلاف (الرفاق) المنوَّمين إيديولوجيا أو الملجمين أمنيا..

وهكذا, نكون في سوريا, اليوم, أمام رأس مال جديد- جديد من ناحية إعلانه عن نفسه- يبحث, مضطرا, عن سلطة جديدة. فكيف يكون شكل السلطة المتوخاة وما هي المبادئ التي يمكن أن تقوم عليها؟

من الصعب القول كيف هي ستكون, ولكن من الممكن الوقوف على الأشياء التي لن تكون مضطرة إلى أن تكونها. فهي ليست مضطرة لأن تكون سلطة دكتاتورية, وليس من منطلق انقضاء زمن الدكتاتوريات, إنما من منطلق عدم حاجة رأس المال الجديد إلى دكتاتورية تحميه, في الوقت الذي يمكن له أن يصل بممثليه والمدافعين عن مصالحه إلى مقاعد الحكم بلعبة ديمقراطية مقبولة دوليا, وليس فقط! فسلطة رأس المال الجديد ليست مضطرة, أيضا, لأن تكون على عداء مع ما يسمّى بقوى التغيير الديمقراطي, ذلك أنّها ستكون بحاجة إلى استقرار يضمن لها استثماراتها, طالما هي لا تقوم على صناعة الأسلحة وتجارتها, وبالتالي ستكون بحاجة إلى أن يتبنى الديمقراطيون لعبتها, في وقت لم تعد فيه الدكتاتوريات الثورية ممكنة لتأمين حكم طويل الأجل. ولما كان الديمقراطيون أضعف من أن يُعول عليهم لإنجاز عملية التحول وتحضير الأرضية لسلطة رأس المال الجديد, يُنتظر أن تتبنى هي لعبتهم في محاولة لتوأمةٍ بينهما, من غير المعروف كم من الزمن سيُكتب لها أن تعيش. ولكن, هل يعني هذا أنّ رأس المال السوري الجديد هو الذي سيقود عمليات التحول الديمقراطي في سوريا؟ نعم, تسمح قراءة الواقع نظريا بالقول بذلك. لكن نجاح هذه العملية يحتاج إلى تجاوز عقبة مزدوجة, يتعلق شقها الأول بشرعية رأس المال- رائد التغيير, ويتعلق شقها الثاني بلقمة الناس بصفتهم مادة اللعبة الديمقراطية, بصفتهم أصوات في صناديق الاقتراع.

ولذلك لا يبدو غريبا ما يُعلن عنه اليوم ويروّج له وهو طرح أسهم بعض الشركات الكبرى,- المطروحة شرعية ملكيتها أصلا على الشارع-, طرحها للبيع, ليكون للكثير من الناس مصائر (سهمية) فيها, وليجني أوليغاركيو اليوم- ديمقراطيو الغد أصواتاً منها, لمن يريدون, أصواتاً يتجاوز عددُها عددَ المشاركين, إلى عدد أفراد عائلاتهم ومن هم في رعايتهم. ولن يكون غريبا أن تُطرح شركات القطاع العام, غدا, بعد تخريبٍ ممنهج تعرّضت له وعجز مزمن تعاني منه وشروط استثمار ضامنة لعدم انجذابِ القطاع الخاص لاستثمارها, لن يكون غريبا أن تطرح على البيع, بيعاً مشروطا ب(المساهمة), الأمر الذي يضمن تحويلها إلى (مستعمرات أصوات) بعدما كانت مأوى لموظفين لا يستطيعون أن يقولوا (لا) لارتباط لقمتهم بالدولة. ولكن, إذا كان الواقع يضع بين يدي الرأسماليين الجدد فرصا وحلولا لشرعنة رؤوس أموالهم المنهوبة أو المجنيّة عبر قنوات الفساد, فهل هذا الواقع نفسه, الذي جُنيت رؤوس أموالهم فيه على أساس من تدميره اقتصاديا, هل سيتيح لهم حل مشكلة لقمة الناس, أم سيكون عليهم خلق واقع جديد, ليكون ممكنا لديمقراطيتهم أن تستمر؟!

من شأن هذه المعالجة أن تقود, نظريا على الأقل, إلى ضرورة توظيف رؤوس أموال كبيرة لإحياء الواقع الاقتصادي ورفع مستوى الناس المعيشي وتحسين القدرة الشرائية لديهم لضمان دوران عجلة الاقتصاد..وهذا كله يعني ضرورة إعادة بعض رؤوس الأموال, التي نهبت بطريقة أو بأخرى من المال العام, إلى أصحابها الحقيقيين- المواطنين الناخبين. بيد أن ذلك يَفترض أن تكون رؤوس الأموال متاحةً, لا أن تكون مُعتقَلةً برهنِ خطٍّ سياسي أو قرار دون آخر. ولما كان تحريك رؤوس الأموال الأوليغاركية يقع تحت رحمة القرار الأمريكي بالدرجة الأولى, كان من غير المنطقي افتراض أي تحول أوليغاركي سوري نحو الديمقراطية دون موافقة الأمريكان وتنسيق كامل معهم, بصفتهم مُعتقِلي أموال ناهيك عن صفاتهم الأخرى.

فإذن, نكون أمام ضرورات تحول ديمقراطي ناجمة ليس عن ضغط النخبة المعارضة ولا عن ضغط الشارع المعدوم, إنما عن حاجة رأس المال الأوليغاركي نفسه إلى السلطة التي تشرعنه وتضمن له تكاثره الطبيعي ونفوذه السياسي, ولا يمكن لهذه السلطة الضامنة أن تكون في ظل المعطيات الدولية الحالية تعسفية تقليدية. وهكذا, يجد من يعارض مثل هذا النظام الجديد الممكن نفسه أمام خيارين أحلاهما مر, وكلاهما ينطلق من أرضية ما بعد الارتكاب: إما أن تُفقد الأرصدة الخارجية بالتزامن مع موقف أمريكي (ويمكن القول دولي) معارض لتحولات من طبيعة أخرى, أو أن يعاد ضخ بعض الأرصدة لإنعاش الداخل بضمانة خارجية, أمريكية بالدرجة الأولى. وهذا وذاك يعني التخلي عن سؤال: من أين لك هذا؟ والانطلاق مما بعده إلى سلطة جديدة تلعب لعبة الديمقراطية. لكن هذه السلطة لن تكون إلا سلطة الأبناء الذين ولّى زمن آبائهم.

هم(الآباء والبنون) ونحن ال(مذلون مهانون):

لا علاقة ,بالتأكيد, لتورغينيف ودوستويفسكي بما يجري في سوريا اليوم. لكن هذا النفي القاطع لا يشمل استفادة رأسماليي سوريا الجدد من الدرس الروسي. فعلى غرار ما جرى في عهد يلتسين, بل بما يتفوق عليه, وفي استفادة واضحة من دروس حصاد الانهيار السوفيتي, تتوضح اليوم في سوريا معالم عائلة أبناء أوليغاركية تمسك بخناق الاقتصاد, فتكون لها السلطة الحقيقية في مرحلة الما بعد. ومهما بدا الأمر مفارقا فإن لحظةً ستأتي سيكون فيها من مصلحة العائلة الأوليغاركية نفسها تسريع عمليات الانهيار, أو لنقل التحوّل حتى لا يبدو الأمر مخيفا, فقد مضى زمن الآباء الذين حموا بسلطتهم الثورية تحصيل أبنائهم للأموال العامة, وآن أوان توظيفها اقتصاديا وسياسيا في غيابهم (غيابا رمزيا). وفي الوقت الذي تمّت فيه اللعبة الأوليغاركية في روسيا بعد إلغاء سلطة الحزب الواحد الحاكم, فإنها تتم في سوريا بحضور الحزب الحاكم الغافل عن أنّ القضاء عليه سيكون ضرورة اقتصادية وسياسية أوليغاركية, وأن الظروف الدولية تقتضي السرعة في إنجاز هذه العملية.

ولكن, إذا لم يستطع الأبناء الانتظار أكثر, هل يجد الآباء حيلة تنجيهم من القطع بينهم وبين أبنائهم؟ نظريا, يمكن أن يترك الأبناء للآباء أن يؤسسوا أحزابا وحركات (ديمقراطية) تضمن لهم (شيبتهم) السياسية. لكن, مثل هذا الاحتمال يحتاج, في الواقع, إلى سرعة ومرونة استجابة تقف دونها عقول الآباء وشيخوختهم, ولن أقول قبول الشارع لهم. فثمة في البعث من الأعضاء ما يكفي لعشرة أحزاب, متباينة, بل متضاربة في برامجها. هذه التساؤلات تشي بوجود تضاد بين جيلين وزمنين, تضاد قد يصعب التحكم بنتائجه. أجل, فثمة زمنان: زمن سياسي وزمن اقتصادي, إن تواكبا تمكّنت السلطة نفسها من الانسلاخ إلى شكل جديد, بما ينقذ الآباء ويضمن مستقبل الأبناء, وإن لا كان لا بد من الاعتذار من الآباء ومن زمنهم السياسي.

وفي لعبة داخلية بين الآباء والأبناء يمكن لمن يتابع الواقع السوري أن يقع على محاولات, يحد من فاعليتها الحذر الشديد, للتوفيق بين الزمنين السياسي والاقتصادي لصالح انسلاخ السلطة القائمة نفسها إلى شكل يوافق متطلبات العولمة واللعبة الديمقراطية المطلوبة. وهنا, تلاحظ, دون كبير عناء, الحيرة التي يقع فيها مهندسو السلطة, الحيرة بين إرث من القمع شكّل أهم آليات إدارة الدولة, على مدى العقود الأخيرة, من جهة, وضرورة تفعيل المعارضة السياسية, من جهة ثانية, تمهيدا للتحول الديمقراطي المطلوب, وخدمة لأبناء أسيادهم, أو لأسيادهم الجدد. ومن هذه الحيرة يتشكل هامش حرية صغير, يتسع أو يضيق بمقدار تذبذب وعي المصلحة في سرعة الانسلاخ عند السلطة. لكن ما سميناه بالحيرة, هنا, لا يعكس اختلافا. فالأبناء والآباء متفقون على المسألة الجوهرية المتمثلة بمعايرة الزمن السياسي على ساعة الزمن الاقتصادي الخاص وضرورات تحولاته واكتمال مخططاته. ولذلك فإن ما يقال, رسميا, عن ترتيب أولويات الإصلاح, والدفع بالإصلاح السياسي إلى الخاتمة, ليس منبعه الخوف على السياسي, إنّما, على العكس من ذلك تماما, الحفاظ على القشرة السياسية ريثما تكتمل عمليات التشكّل الأوليغاركي, ومن ثم القضاء على الشكل السياسي الحالي حين تضمن الأوليغاركية شكل سلطتها المناسب.

ولذلك تبدو المعارضة السياسية في سوريا, اليوم, متاحة, على قلة إتاحتها, أكثر بكثير من المعارضة الاقتصادية, ويبدو الحديث في الاقتصاد أكثر خطورة من الحديث في السياسة, وليس أدلّ على ذلك من مصير البرلماني رياض سيف والاقتصادي عارف دليلة. فالسلطة التي تريد أن تنسلخ عن نفسها إلى شكل جديد يتيح لها ركوب السياسة الجديدة لا ترى ذلك ممكنا, زمنيا, دون فصل حاد, فصل بحد السكين, فصل مسلّح بين السياسي والاقتصادي. فثمة هاجس يقلقها, هاجس ألا يتواقت الزمنان السياسي والاقتصادي, وألا تتمكن من إتمام لعبتها, قبل ظهور عوامل خارجية غير محسوبة. وثمة هاجس أكبر هو أن يوجّه الأوليغاركيون الشباب ضربة لآبائهم في الظهر. فإذا بلعبة الكراسي تقلب الحسابات! أفلا يمكن لإغراء السلطة (الآن) أن يتضارب مع ضرورة السلطة (غدا)؟ وإذا تضاربا فمن الذي منهما سيدفع الثمن الآباء أم البنون؟ ثم, أليس إغواء السلطة شخصيا, دائما, وخسارتها شخصية دائما!؟ فالسلطة في ذروتها تجسّد فردي, وهي واحدة, لا تكون لاثنين معا, فإن كانت لهذا لا تكون لذاك!

ولكن, أين هو الشعب؟ أسأل نفسي, فأجيب: تقتضي اللباقة عدم الحديث عن الغائب!

-انتهى-

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى